مصعب الخير.. مصعب بن عمير رضي الله عنه وأرضاه

عبدالله محمد الطوالة

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/أهمية دراسة سير السلف الصالح 2/فضائل مصعب بن عمير 2/إسلامه ومهمته العظيمة في دعوة أهل المدينة 3/هجراته وجهاده واستشهاده 4/حث الشباب على اتخاذ مصعب بن عمير قدوة.

اقتباس

شابّ كان في أول أمره في جاهلية جهلاء، خامل الذكر، قاصر الهمة، لا يُعرف إلا بالترف والنعومة، فلما دخل في الإسلام، ارتفع ذكره، وعلا قدره، وأصبح مضرب المثل في كل أمرٍ جميل، فهل لشبابنا أن يتخذوه قدوة ومثلاً يحتذى؟، يتغنون بسيرته العطرة، وبطولاته الفخمة، وبطولات أمثاله من صحابة رسول الله....

الخطبة الأولى:

 

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا)[الكهف:1]، ونصبَ الكائناتِ على ربوبيته براهيناً وحُججاً، فمن شِهدَ لهُ بالوحدانية، وآمنَ بلقائه وأطاعه، واستعدَ لما أمامهُ، فقد أفلحَ ونجا، (ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا)[الطلاق:2]، أحمدهُ سبحانهُ وأشكرهُ، وأتوبُ إليهِ وأستغفرهُ، ليس لنا سواهُ ملاذاً ولا ملجأً.

 

وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ، شهادةَ الحقِّ واليقينِ في الخوف والرجاءِ، أعظِم بها سبِيلاً وأنعِم بها منهجَاً، (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا)[الأنعام:125].

 

وأشهدُ أن محمداً عبدُ اللهِ ورسولهُ، ومصطفاهُ وخليلهُ، هوَ صفوة ُ الباري وخاتمُ رُسلهِ، وأمينة ُ المخصوصُ منهُ بفضلهِ، صلى اللهُ وسلَّم وباركَ عليهِ، وعلى آله وأصحابهِ أنوارِ الهدى ومصابيحِ الدجى، والتابعين وتابعيهم بإحسانٍ، ما نهارٌ تجلَّى، وما ليلٌ سجى، وسلم تسليماً كثيراً أبلج.

 

أمَّا بعدُ: فأُوصيكم أُّيها النَّاسُ ونفسي بتقوى اللهِ، فاتقوا اللهَ رحِمكمُ اللهُ؛ فقد صدقَ الزمانُ في صُروفِه وما كذبَ، ووعَظَ بتقلُّباتِه فأثارَ العجَبَ، فكم كدَّرَ من مسرَّة! وكم أخذَ على حين غِرَّةِ!، فاحذروا الدنيا وتقلباتها، واستعِدُّوا رحمكم الله ليومٍ شديد الأهوال، بضاعتُه الأعمالُ، وشهودُه الجوارِحُ والأوصالُ، (يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ)[الحج:2].

 

أحبتي في الله: إن التاريخ الإنساني كله لم يشهد رجال صدق وأتباع حق كما شهد لأصَحابَ محمد -صلى الله عليه وسلم-، ورضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين، إنهم الرجال اللذين ما صمد أمامهم جيش، ولا تمنعت عليهم أرض، ولا صعبت عليهم مدينة، إنهم الرجال الذين فتحوا بالإيمان القلوب قبل البلدان، وشادوا بالقرآن وتعاليمه نظاماً جديدًا، وعالمًا فريدًا، لم تشهد الدنيا كلها مثله قبلهم ولا بعدهم.

 

وكل هذا يدعونا أحبتي في الله، دعوة مُلحة، إلى أن نغوص في أعماق حياة أولئك الرجال، نستخرج كنوزهم، نستشرف عظمتهم، نستنشق عبيرهم، نستلهم أثرهم، نتمثل سيرهم، نهتدي بهديهم، ونقتدي بهم.

كرِّر عليَّ حديثهم يا حادي *** فحديثهم يجلو الفؤاد الصادي

 

وإذا كان أمرُ آخر هذه الأمة، لن يصلح إلا بما صلح به أولها، فما أحوجنا إلى دراسة سير سلفنا الصالح، لنقدمها لجيلنا الناشئ، وللأمة جمعاء، لكي تعلم تاريخها، ومن هم آباؤها وأجدادها، وعلى أكتاف من قام تاريخها ومجدها، ألا ما أحوجنا لذلك، لأننا في زمن قلت فيه القدوات التي تحتذى، وأفرز لنا الإعلام المضلل، ووسائل التواصل أبطالاً كرتونية، ودمى آدمية، طوابير طويلة من التافهين والتافهات، قُدِموا لأجيالنا على أنهم قدوات ونماذج تحتذى، وصدق من قال: يقضى على المرء في أيام محنته، حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن.

 

فيا معشر المؤمنين الكرام: ما أجمل أن نعيش لحظاتنا التالية، بين يدي تلميذ من تلاميذ مدرسة محمد -صلى الله عليه وسلم-، شابٌ مميز، سار في ركب النور، فكان يمشي على الأرض وقلبه معلّق بالسماء، عظيم من العظماء، بطل من الأبطال الأفذاذ، نموذجٌ رفيعٌ من القامات السامقة، بدايته عجيبة، ونهايته أعجب.

 

فحين انقضت معركة أحد، مرّ الرسول العظيم -صلى الله عليه وسلم- على الشهداء واحدًا واحدًا يتفقّدهم، يتأمل تلك الأجساد الطاهرة، وقد تناثرت على أرض المعركة، أولئك الذين قدموا كل ما يملكون لنصرة الدين، وبذلوا أرواحهم طلباً لمرضاة رب العالمين، مرَّ بهم -صلى الله عليه وسلم-، فلما حاذى واحدًا منهم توقف عنده، وازداد تأثره، وقال عنه كلاماً عجيباً، ورفع يديه إلى السماء يدعو له، ثم قرأ قول الله -عز وجل-: (مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً)[الأحزاب:23]، ولقد كان والله موقفاً بليغاً، مؤثراً كل التأثير.

 

فبين يديّ مَن كان هذا الموقف؟ ولمن كان ذاك الدعاء الجليل؟، من ذلكم الشهيد المميز الذي استوقف المصطفى -صلى الله عليه وسلم- ملياً؟، وما هي ما قصته؟، وكيف كانت نهايته؟

 

أما من هو هذا الشهيد البطل، فهو الصحابي الجليل أبو عبدالله، مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي القرشي، شابٌ يتيه جمالاً وأناقة، ورقهُ ودلالاً، يهتم بشعره وهيئته أيما اهتمام، يلبس أحسن الثياب، وينتعل أفضل النعال، ويدهِّن بأغلى العطور، ويعيش عيشة الأكابر، ولما لا، فهو يحيا بين كنفي أبوين غنيين، يغدقان عليه بكل ما يريد، حتى لقد غدا حديث أهل مكة، ومضرب المثل في لين العيش وترف النعيم، يذكره الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيقول: ما رأيت بمكة أحسن لِمّةً ولا أرق حُلّةً ولا أنعم نعمةً من مصعب بن عمير.

 

معاشر المؤمنين الكرام: سمع مصعب عن الإسلام في بدايات الدعوة، حين كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يجتمع بأصحابه في دار الأرقم سراً، فدخل مع الداخلين، وأسلم مع أوائل من أسلم، ومن ثمَّ فقد قرر أن يغير كل شيء في حياته، وأن يصوغ حياته كما يحب الله ورسوله.

 

ولو كان في ذلك خسارة كل ما يملك من النعيم، فتحول الشاب المرفه الغارق في متعه إلى رجلٍ حازمٍ جاد، يحمل المهام العظام، وتحول الشاب المترف، المنطلق وراء شهواته إلى رجل من طراز آخر، يعشق المهام الصعبة، ويجابه الأهوال، تحول الذي كان لا يفكر إلا في نفسه وملذاته، إلى داعية فذّ، يحمل همَّ الإسلام، وينشر أنواره في ربوع الأرض.

 

في البداية، وكغيره من المسلمين الأوائل، كتم إسلامه خوفًا من أمّه وقومه، لكن سرعان ما وصلهم الخبر، فغضبوا عليه، وحبسوه وأوثقوه، وضيقت عليه أمه تضييقاً شديداً، فانقلب نعيم عيشه بؤسًا وفقرًا، وتحول ترفه جوعًا ونصبًا، وعذاباً مؤلماً لكنه لم يبال، فكل شيء في سبيل الله يهون، لسان حاله:

 

فليتك تحلو والحياةُ مريرةٌ *** وليتك ترضى والأنامُ غضابُ

وليت الذي بيني وبينك عامرٌ *** وبيني وبينَ العالمينَ خرابُ

إذا صحَّ منك الودُّ فالكل هينٌ *** وكلُّ الذي فوق الترابِ ترابُ

 

ومع ازدياد الحرمان يزدَادْ الثبات، ولكم أن تتصوروا، حالة شابٌ يعيش حياة الترف والرفاهية والدلال، وفجأةً يتغير به الحال إلى عذاب ونكال، أمرٌ في غاية الصعوبة، يقول سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه-: "وأما مصعب بن عمير فإنه كان أترف غلام بمكة، فلما أصابه ما أصابنا من شظف العيش، لم يقو على ذلك، فلقد رأيته وإن جلده ليتطاير عنه تطاير جلد الحية، ولقد بلغ به الجهد فما يستطيع أن يمشي، حتى إنا لنحمله على عواتقنا".

 

لقد رآه عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يومًا فقال: "انظروا إلى هذا الرجل الذي نوّر الله قلبه، لقد رأيته بين أبوين يغذوانه بأطيب الطعام والشراب، ولقد رأيت عليه حلَّةً اشتريت له بمائتي ألف درهم، فدعاه حبُّ الله ورسوله إلى ما ترون".

 

وفي أحد الأيام، أقبل مصعبُ وعليه نمرة قصيرة، قد وصلها بإهاب يستر بها بدنه النحيل، فلما رآه أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-.. نكسوا رؤوسهم رحمةً له، فلما أقبل على الرسول الله -صلى الله عليه وسلم- سلّم فردّ -صلى الله عليه وسلم-، السلام عليه وأثنى عليه وقال: "الحمد لله، يقلب الدنيا بأهلها، لقد رأيت هذا وما بمكة فتى من قريش أنعم عند أبويه نعيماً منه، ثم أخرجه من ذلك الرغبة في الخير وحب الله ورسوله".

 

لقد غدا مصعب -رضي الله عنه- مضرب المثل في الزهد والفقر وقلة الحال بعد أن كان مضرب المثل في الترَف ورغد العيش، ليس ذلك فحسب، بل ومضرب المثل في الثبات.. ليس هذا فحسب، بل لقد حلفت أمه أن لا تأكل ولا تشرب ولا تستظل حتى يرجع عن دينه ويترك محمدًا، فثبت على دينه حتى كادت تموت، وكانت تقف في الشمس حتى تسقط مغشيًا عليها، وكان بنوها يحشون فاها بالأعواد فيصبون فيه الطعام حتى لا تموت، ومع ذلك لم يغيّر ذلك من حاله، بل لقد أخذه قومه فقيدوه بالأصفاد وحبسوه حتى تغير لونه ونحل جسده، فثبت ثبات الجبال.

 

حتى إذا سهل الله الفرج هاجر إلى الحبشة، فترك وطنه، وودع حبيبه -صلى الله عليه وسلم-، فارًا بدينه مع ثلة من المؤمنين الصادقين، وفي الحبشة يبلغهم أن قريشًا هادنت المسلمين وتركتهم وما يريدون، فيعود مصعب مع من عاد، فإذا قريش لا كما عهدوها من قبل، بل لقد ازدادت شراسةً عمّا كانت عليه من قبل.

 

لقد كانت إشاعة ملفقة، وقبل أن يرجع ثانية إلى الحبشة، تحاول أمه أن تحبسه مرة ثانية، فآلى على نفسه ليقتلن كل من تستعين به على حبسه، فزجرته وقالت له: اذهب لشأنك لم أعد لك أماً، فما زاد على قوله: يا أماه إني لك ناصح، وعليك شفيق، فاشهدي ألا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، فقالت: قسماً بالثواقب لا أدخل في دينك فيزرى برأيي ويضعف عقلي!، فتأمل المشهد جيداً، إصرار عجيب على الكفر من جانب الأم، وثبات وإصرار أكبر على الإيمان من جانب الابن.

 

وتمضي الأيام ويعود مصعب بن عمير إلى مكة، مشتاقًا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وليشهد هذه المرة محنة الحصار في الشعب، جوعاً وعطشاً، فخارت قواه حتى صار لا يقدر على المشي، فكان المسلمون يحملونه على أكتافهم.

 

وبعد أعوام تأتي طليعة الأنصار الأولى لتسلم وتبايع البيعة الأولى، فيبعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معهم أول سفير في الإسلام أبا عبد الله مصعب الخير معلّمًا وداعية وإمامًا، ليفقههم ويعلمهم القرآن ويصلي بهم، فتحمَّل بذلك مسؤولية من أخطر المسؤوليات، وأُلقي بين يديه بمصير الإسلام في المدينة التي ستكون دار الهجرة، ومأرز الإيمان، ومنطلق الدعوة والدعاة، وحُمّل البطل الأمانة فحملها، وقام بها خيرٌ قيام.

 

وفي عام واحد تسلم المدينة كلها إلا قليلاً، تسلم على يد هذا الداعية الشاب الموفق، يسلم السادةً والأتباع، الصغار والكبار، الرجال والنساء، الأنصار كلُّهم حسنةٌ مباركة في ميزان مصعبٍ الخير -رضي الله عنه وأرضاه-، ومن هم الأنصار؟، إنهم الذين لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق، بطانة المصطفى، وحماة الدين، ورجال الإسلام الأُوَل، الذين لم يَقُم الدينُ إلا على أكتافهم، إنهم المرحومون، المرحومُ عقِبهُم بدعوة المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، أولئك هم تلاميذ مصعب وغنيمته.

 

وبعد أن قضى مصعبٌ مهمته في المدينة خير قيام، وأقام فيها أول جمعة في الإسلام، لم يركن ولم يسترح، بل عاد إلى مكة، إلى أرض البلاء والمحنة، لتنعم عيناه بصحبة الرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وليكون في طليعة المهاجرين، يوم أُذن لهم بالهجرة، فيا لله ما أوقدها من همة، ولله ما أرفعها من عزيمة! لم يهاجر مرة ولا مرتين ولا ثلاث، بل هاجر أربع هجرات: ثنتان للحبشة، وثنتان للمدينة، -رضي الله عنه وأرضاه-.

 

ولما كانت معركة بدر، حمل الداعية الكبير، راية المسلمين، ودافع عنها دفاع الكماة الأبطال، وقاتل قتال الأشاوس، حتى انتصر المسلمون انتصارهم الساحق، وبعد انتهاء المعركة يمرُّ البطل بأخيه وشقيقه أبي عزيز بن عمير، أسيراً في يد أحد الأنصار -رضي الله عنه-م أجمعين، فيضرب أروع الأمثلة في الولاء والبراء، ويقول للأنصاري: "شُدَّ يديك به، فإن أمه ذات متاع، لعلها تفديه منك". فقال أخوه: "أهذه وصاتك بي يا أخي؟! فقال مصعب مشيراً إلى الأنصاري، "إنه أخي دونك".

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً)[الأحزاب:23].

 

بارك الله لي ولكم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله كما ينبغي لجلاله وجماله وكماله...

 

وبعد أحبتي في الله: فقد تبقى لنا خصلة أخيرةٌ ومميزة من خصال هذا البطل الفذ، وكل خصاله مميزة، إنها التضحية بكل شيء، فلقد ضحى مصعب من أجل دينه وعقيدته بكل شيء، ضحى بالمال والجاه والنعيم، ضحى بالأهل والوطن، ثم أراد أن يقدم تضحية أعظم من ذلك كله، فضحى بنفسه -رضي الله عنه- وأرضاه، فتعالوا أحبتي في الله لنقف على المحطة الأخيرة من حياة هذا البطل الفذ.

 

تعالوا لنشهد الفصل الأخير من مشهد بطولات وتضحيات مصعب الخير، إنه يوم أُحد، وقد حمل الراية يومئذٍ، فما اهتزت في يده رغم شدة القتال، ثم لما شاع في الناس مقتل الرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وانكشف منهم من انكشف، ثبت مصعب مع الثابتين، وأقبل يحمل الراية ويهتف مردّدًا قول الحق عز شأنه: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ)[آل عمران:144]، فتقدم إليه عدوُّ الله ابن القمئة يبارزه، واشتد القتال بينهما، فأهوى ابن القمئة على يمنى مصعب فقطعها، فتناول الراية بيسراه فقُطعت، فاحتضنها بين جنبيه، فحمل عليه عدو الله الثالثة فأهوى بالرمح على جسده الشريف الطاهر، فخرَّ -رضي الله عنه- على الأرض صريعًا.

 

وشاع في الناس أن الذي قتل إنما هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ؛ لأن مصعبًا كان من أشبه الناس برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهكذا قضى مصعبٌ نحبه، باع الدنيا بالآخرة، وقدم الرخيص فظفر بالغالي، سقط جسده على الأرض، وحلّقت روحه إلى بارئها، شاط في دمائه الزكية، ليُبعث يوم القيامة يثغب جرحه دمًا، اللون لون الدم، والريح ريح المسك.

 

عن عبيد بن عمير قال: وقف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على مصعب بن عمير وهو منجعف على وجهه يوم أُحُد شهيدًا، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "(مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً)[الأحزاب:23]؛ لقد رأيتك بمكة وما بها أرق حلة وأحسن لُمَّة منك، ثم ها أنت ذا شعِث الرأس في بردة؟ إن رسول الله يشهد أنكم الشهداء عند الله، ألا فأتوهم وزوروهم، والذي نفسي بيده لا يُسلّم عليهم أحدٌ إلى يوم القيامة إلا ردُّوا عليه".

 

قال خباب -رضي الله عنه-: "هاجرنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سبيل الله نبتغي وجه الله، فوجب أجرنا على الله، فمنا من قضى ولم يأكل من أجره شيئًا، منهم مصعب بن عمير، قُتل يوم أُحُد، فلم نجد ما نكفّنه به إلا نمرة، كنا إذا وضعناها على رأسه خرجت رجلاه، وإذا وضعناها على رجليه خرج رأسه، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "اجعلوها مما يلي رأسه، واجعلوا على رجليه شيئًا من الإذخر"، ومنا من أينعت ثمرته فهو يهدبها".

 

وبعد: فتلك هي سيرة الصحابي الجليل مصعب بن عمير -رضي الله عنه-، شاب كان في أول أمره في جاهلية جهلاء، خامل الذكر، قاصر الهمة، لا يُعرف إلا بالترف والنعومة، فلما دخل في الإسلام، ارتفع ذكره، وعلا قدره، وأصبح مضرب المثل في كل أمرٍ جميل، فهل لشبابنا أن يتخذوه قدوة ومثلاً يحتذى؟، يتغنون بسيرته العطرة، وبطولاته الفخمة، وبطولات أمثاله من صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، بدلاً من بطولات اللاعبين والممثلين المزيفة، ومغامراتهم الساقطة.

 

ألا يا ابن آدم عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، البر لا يبلى، والذنب لا ينسى والديان لا يموت، وكما تدين تدان …

 

المرفقات

مصعب الخير.. مصعب بن عمير رضي الله عنه وأرضاه

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات