عناصر الخطبة
1/عظم شأن الزكاة والحكمة من وجوبها 2/تحديد الإسلام لمصارف الزكاة 3/عقوبات مانعي الزكاة 4/استحباب توزيع المسلم زكاته بنفسهاقتباس
والزكاة في الإسلام حق الفقراء في أموال الأغنياء، وهذا الحق أوجبه الله -عز وجل-، وهذا الحق معلوم قد حددت الشريعة مقاديره وأنصبته المختلفة في أنواع الأموال، ولم يترك تحديده لضمائر الناس، وهذا الحق...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المسلمون: الزكاة هي الركن الثالث من أركان هذا الدين، قال النبي -صلى الله عليه وسلم: "بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت الحرام من استطاع إليه سبيلاً"(متفق عليه).
وجاءت الزكاة قرينة الصلاة في كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، قال الله -عز وجل-: (وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ)[البينة:5]، وقال -عز وجل-: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ)[التوبة:11].
وفي الصحيحين عن ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث معاذًا إلى اليمن فقال له: "إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب، فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم..".
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، يؤتوا الزكاة، فإن فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله"(متفق عليه).
أيها المسلمون: وينبغي أن يعلم أن الدول والحكومات إذا قصرت أو تراخت في المطالبة بالزكاة، فإن هذا لا يُسقط وجوب الزكاة عن الأفراد، فيجب على الأفراد إخراج الزكاة المفروضة في مصارفها الشرعية. وكذا إن تعدَّت بعض الدول، وأخذت من الأفراد الضرائب الباهظة، فإن هذه الضرائب لا تُسقِط فريضة الزكاة؛ لأن الضرائب لا تُؤخَذ تحت شعار الزكاة، ولا تُنفَق في مصارف الزكاة التي حددتها الشريعة.
لذا يجِب إخراجُ الزكاة علَى الفَور وصرفِها في مصارِفها المشروعة، وحصيلة الزكاة لا تُترك للأهواء، بل حدَّد الإسلام مصارفها في قول الله -عز وجل-: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)[التوبة:60].
وهؤلاء الأصناف الثمانية المذكورون في الآية الكريمة سنقوم بالتعريف بهم وتوضيح من هم:
أولا: الفقراء؛ جمع فقير وهو الذي لا مال له، فهو مُعدَم لا يجد ما يسدُّ حاجاته الضرورية.
ثانيا: المساكين؛ جمع مسكين، وهو الشخص الذي لديه مال، ولكنه لا يكفيه.
ثالثا: العاملون عليها؛ أي: عمال الزكاة يأخذون منها ولو كانوا أغنياء فيأخذون منها أجرًا على عملهم فيها؛ لحديث أبي سعيد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: العامل عليها، أو رجل اشتراها بماله، أو غارم، أو غازٍ في سبيل اللّه، أو مسكين تُصُدِّق عليه منها فأهدى منها لغني"(رواه أبو داود والحاكم وصححه).
رابعا: المؤلفة قلوبهم؛ أي الذين يُعْطَوْن المال ليُسْلِمُوا أو ليَحْسُنَ إسلامهُم ويثْبتُوا عليه أو ليكُفُّوا أذاهم عن المسلمين، واللّه أعلم.
خامسا: في الرِّقاب؛ أي في فكِّ الرقاب وعِتْقِ الرَّقيق، فإنه يُعْطَى المكاتب لِيفُكَّ رقبته بأداء كتابته، وُيشترى العبيدُ وُيعتقون، وكذا يحرر من هذا السهم أسرى المسلمين.
سادسا: الغارمون؛ مثل من تحمَّل حَمَالَةً في صلح بين المسلمين، أو ضَمِنَ دَيْنًا على آخر فلزمه، أو غَرِمَ في أداء دَيْنه أو في كفَّارة معصية تاب منها، فهؤلاء يُدفع إليهم من الزكاة ما يكفيهم.
سابعا: في سبيل الله. الإنفاق على الجهاد في سبيل اللّه، إعطاء الحجاج الفقراء.
ثامنا: ابن السبيل؛ وهو المسافر المُجْتازُ في بلد ليس معه شيء يستعين به على سفره فيُعطى من الصدقات ما يكفيه حتى يعود إلى بلده.
فيجب إيصالها إلى مستحقِّيها، من الأصناف الثمانية، ولا يجوز صرفُها إلى غيرِهم مِن بناء المساجد والقناطِر وتكفينِ الموتَى ووَقف المصاحف وغيرِها من جِهات البر والخير.
إن الزكاة لا تنفع، ولا تبرأ بها الذمة، حتى يخرجها الإنسان على الوجه المشروع، وحتى توضع في الأصناف الثمانية التي ذكرها الله في كتابه، ولا يجوز دفعها لغيرهم.
فلا يجوز كذلك صرف الزكاة في بناء المساجد، وإصلاح الطرق ونحوها في بعض أقوال أهل العلم.
وإذا أعطيت زكاتك شخصاً يغلب على ظنك أنه مستحق، فتبين لك فيما بعد أنه غير مستحق، أجزأت عنك، والإثم عليه، حيث أخذ ما لا يستحق.
ويجوز -أيها الإخوة- أن تدفعها إلى أقاربك الذين لا تجب عليك النفقة عليهم، إذا كانوا من الأصناف الثمانية.
ويجوز أن تدفعها لشخص محتاج للزواج، إذا لم يكن عنده ما يتزوج به.
أيها المسلمون: وقد ورد الترهيب الشديد والوعيد الأكيد لمانعي الزكاة بالعقوبات الدنيوية ونزع البركات، ومنع الخير عن مانعي الزكاة؛ قال الله تعالى: (إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلا يَسْتَثْنُونَ * فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ)[القلم:17-20]، فمانع الزكاة مهدد في الدنيا كذلك بزوال ماله.
وحذَّر النبي -صلى الله عليه وسلم- من منع الزكاة والبخل بحق الله في المال، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا مُنِعُوا القَطْر من السماء، ولولا البهائم لم يُمْطَرُوا"(رواه ابن ماجه وصححه الألباني).
لمّا منع الناس إخراجَ ما بأيديهم من الزكاة منع الله القطرَ أن ينزل من السماء، وصدق الله: (وَأَلَّوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا)[الجن:16]، كثيرًا ما يستسقي الناس في خطبهم وفي صلواتهم فلا يُسْقَوْنَ في الحال، بل ربما أقاموا صلاة الاستسقاء مرة بعد مرة، فلا يظهر لهم معالم استجابة، أفلا يكون هذا الأمر رادعًا لأصحاب الأموال أن يخرجوا ما بأيدهم رحمةّ بأنفسهم، وأداءً لواجب في أعناقهم وتبرئةّ لذممهم؟!
أيها المسلمون: ولم يقف الشرع -عباد الله- عن حد الوعيد بالعقاب الدنيوي، بل هدَّد بالعقوبة الأخروية لكل مَن يبخل بحق الله -عز وجل-؛ قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ)[التوبة:34-35].
إن هذه الأموال لما كانت أعزّ الأموال على أربابها، كانت أضرّ الأشياء عليهم في الدار الآخرة، فيُحمى عليها في نار جنهم، وناهيك بِحرِّها فتُكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم.
وقد بيَّنت سُنة النبي -صلى الله عليه وسلم- كيفية هذا الكي؛ ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها، إلا إذا كان يوم القيامة صُفِّحت له صفائح من نار، فأُحمي عليها في نار جهنم، فيُكوَى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بَرَدَت أُعيدت له، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يُقضَى بين العباد، فيرى سبيله، إما إلى الجنة وإما إلى النار".
وروى البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من آتاه الله مالاً فلم يؤدِّ زكاته مُثِّلَ له يوم القيامة شجاعًا أقرع له زبيبتان، يُطوِّقه يوم القيامة، ثم يأخذ بلهزمتيه -يعني شدقيه- ثم يقول: أنا مالك، أنا كنزك. ثم تلا النبي -صلى الله عليه وسلم- الآية: (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)[آل عمران:180]".
جنبني الله وإياكم مسالك الظالمين، وجعلنا من عباده المحسنين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله؛ وبعد:
أيّها المسلمون: في الزكاة مواساةٌ للفقراء، ومَعونة للبُؤَساء والضعفاء، وصِلة بين ذوِي الحاجاتِ والأغنياء، وعونٌ على مجانبة البخل والشّحِّ، كم سدَّت مِن خَلَّة! وكَم جبرت من فاقَة! وكم فرَّجت عن معسرٍ كُرِبَ! فضائلُها لا تُعَدّ وبَركاتها لا تُحَدّ.
ويُستحَبّ للمسلِم أن يلِيَ توزيع زكاته بنفسِه، وله أن يَعهَد بتوزيعها إلى مَن يثِق به مِن الأُمَناء الأقوياء، ولا يجوز للوكِيلِ استثمارُ أموالِ الزكاة ولا الاتِّجارُ بها، ويجِب على من وُكِلَ إليه توزيعُ مالٍ زكويّ أن يعجّلَ بإخراجه لمستحقِّيه، ولا يجوز له تأخيرُه بلا مَصلَحةٍ معتبرة.
إن تكاليف الحياة كثيرة ومتزايدة، التكاليف ترهق الكاسب وتفتن الكاسد، الكاسب تتضاعف عليه النفقة، فما الحال بالمعدم الكاسد؟! وصفهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "ليس المسكين بهذا الطوّاف الذي ترده التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنىً يغنيه، ولا يُفطن له فيُتصدق عليه، ولا يسأل الناس شيئًا"، كما قال الله تعالى: (يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّف)[البقرة: 273].
كم في الناس من أرملة تضمّ أيتامًا لا عائل لهم، ولا تستطيع الكسب فتنفق عليهم! كم في الناس من شيخ كبير وهن منه العظم، وما عنده ما يستعين به على عجزه! ولا ولد بارّ يسعفه في شيخوخته! كم في الناس من عاجز أُقعد عن الكسب!، أولئك ومن على شاكلتهم في حاجة إلى التخفيف من متاعبهم في زمن عضّهم فيه الفقر وأثقلت كواهلهم النفقات. فاحرصوا على إخراج الزكاة لمستحقيها، وبادروا بها فور وجوبها.
وأنت -يا عبد الله- يا مَن وفَّقك الله لأدائها وأعانَك على إخراجها، جعلها الله لك طَهورًا ونورًا وقُربَة، وآجَرك الله فيما أعطَيتَ، وبارك لك فيما أنفَقتَ.
نسأل الله أن يتقبل منا صالح أعمالنا، ويطهرنا من أدواء نفوسنا؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.
هذا؛ وصلوا وسلموا على رسول الله...
المصدر: الزكاة للشيخ د. ناصر بن محمد الأحمد
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم