عناصر الخطبة
1/المدرسة الرمضانية الإيمانية 2/ثمرات شهر الصيام وفوائده 3/أهم المشاريع المستفادة من الشهر الكريم 4/ من المشاريع الرمضانية المقترَحة 5/فضائل العشر الأواخر من شهر رمضان 6/اغتنام العشر الأواخر وتحري ليلة القدر.اقتباس
إنّ الخسارةَ كلَّ الخسارةَ أن يُسهِّلَ الله لنا أسبابَ الصعودِ؛ فلا نرتقي في الدرجاتِ، ويفتح لنا أبوابَ القُرْبِ فنصرُّ على البعدِ وملازمةِ السيئاتِ. اجلسْ جلسةً مع نفسِك، وفكّر في آخرتِك، وخطِّطْ لمصيرك الخالد، ثمّ "استعن بالله ولا تعجز"، وأظهرْ فقرَك إليه، وحاجتَك له، أن يوفقَك لمراضيه...
الخُطْبَة الأُولَى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ؛ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70-71].
أما بعد: معاشر الصائمين: هذه المدرسةُ الرمضانيةُ التي التحقنا بها جميعاً، نعيشُ أجواءَها الإيمانية، ونتلقى دروسَها التربويةَ، ونحضرُ دوراتِها المكثفةَ، ونمارسُ تدريباتِها العمليةَ.
في رمضانَ نمكثُ أوقاتاً طويلةً مع القرآنِ؛ فننهلُ من العلوم، ونداومُ على الصيامِ فنتدربُ على كبت الشهواتِ، ونُصلِّي كلَّ ليلةٍ مع الإمام فنعتاد على القيامِ، وتجودُ أيدينا بالعطاءِ فنترقى في درجاتِ الإحسان.
وإن السؤالَ الذي ينبغي أن يكونَ حاضراً في ذهن كل ملتحقٍ بهذه المدرسةِ الرمضانيةِ هو أن يسألَ نفسَه: ما هو الحالُ الذي ينبغي أن أكونَ عليه بعدَ رمضان؟
إن طالبَ الطبِّ يدخلُ كليةَ الطبِّ ليخرجَ منها طبيباً، وطالبَ الشريعةِ يدخلُ كليتَها ليخرجَ عالماً.
وها أنتَ قد دخلتَ مدرسةَ رمضانَ، فبماذا تريد أن تخرجَ؟ ما هو مشروعُ التخرجِ الذي تريد تتخرجَ به من الجامعةِ الرمضانيةِ؟
قد يكونُ مشروعُك الرمضانيُّ هو تمتينُ عمادِ الدينِ، بأن تُطوِّرَ من صلاتِك، فتصلّي الصلاةَ في أوقاتِها مع الجماعةِ، وتجاهدُ نفسَك على الخشوعِ فيها، وتستكثرُ من نوافلِها وسننِها ليلاً ونهاراً، وتحفظ المزيدَ من أذكارِ الصلاةِ التي تقال في أثنائها أو بعدَها، وتستعينُ على كلِّ ذلك بأن تلحَّ على ربِّك بأن يجعلَك مقيماً للصلاةِ، كما كان الخليلُ إبراهيمُ -عليه السلام- يدعو بذلك؛ (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ)[إبراهيم: 40].
فيا سعدكَ ويا هناءَكَ إن تخرجتَ من المدرسةِ الرمضانيةِ بذلك، إذاً تكونُ قد أرضيتَ ربَّك بأحبِّ الأعمال، ورفعتَ بناءَ دينِك بإصلاحِ العمادِ.
قد يكونُ المشروعُ الرمضانيُّ بأن تتركَ ذنباً لطالما أرهقَ كاهلَك، وأعاقَك عن الوصولِ إلى ربِّك، فتغتنمُ فرصةَ رمضانَ، الذي تُصفَّدُ فيه الشياطين، وتقلُّ فيه دواعي الشرورِ، فتنتزعُ أشواكَ المعاصي من قلبِك، وتلقي بها خلفَ ظهرِك، لتمضيَ سريعاً إلى ربِّك، قد تحررتَ من أسرِ الذنوبِ، وفككتَ أغلالَ الخطايا.
صدقني! إن كنتَ من أهلِ هذا المشروعِ، فسيكون رمضانُ هذا العام، هو أجمل شيء في تاريخِك، وخير أيامٍ مرَّت عليكَ؛ إذ سلكت فيها طريقَ التوبةِ ففرحَ بكَ ربُّك، ليغفرَ ذنوبَك، ويبدّلَ سيئاتِك إلى حسناتٍ، ويُسخِّرَ لك حملةَ عرشِه يدعون لكَ ولمن صلحَ من أهلِك؛ (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُمْ وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)[غافر: 7- 9].
ومن المشاريعِ الرمضانيّةِ المقترحةِ: أن تُرمِّمَ علاقتَك بالقرآنِ، فلا تخرجُ من رمضانَ إلا وقد عزمتَ على اتخاذِ القرآنِ صاحباً، تنهلُ من علومِه، وتتنعمُ بآياتِه، وتتخلقُ بأخلاقِه.
لماذا لا يكون هذا الشهرُ هو شهر الانطلاقةِ في حفظِ القرآنِ أو شيءٍ منه؟ ما رأيكَ أن تبدأَ في حفظ سورةِ البقرةِ التي يقول عنها النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "اقْرَؤُوا سُورَةَ البَقَرَةِ، فإنَّ أخْذَها بَرَكَةٌ، وتَرْكَها حَسْرَةٌ، ولا تَسْتَطِيعُها البَطَلَةُ"؛ -أي: السحرة-؟
فإن بدأتَ في حفظِ آياتِ سورةِ البقرةِ، وذقتَ لذتَها، وتنعّمتَ ببركاتِها، فلا أظنُّك بعد ذلكَ ستتوقفُ عن النهلِ من معينِ القرآنِ، وإن ثبّتَك الله على الطريقِ، فليأتينَّ عليك يومٌ تكونُ فيه -بإذن الله- من أهلِ القرآنِ الذين هم أهلُ الله وخاصتُه. وسينادى عليك يوم الحسابِ ليقال لك: "اقرأ وارتَقِ ورتِّل كما كنتَ ترتِّلُ في الدُّنيا؛ فإنَّ منزلَكَ عندَ آخرِ آيةٍ تقرؤُها".
ومن المشاريعِ الرمضانيّةِ المقترحةِ: أن تجعلَ من رمضانَ بدايةً في تصحيحِ علاقتِك بمن حولَك، ممن لهم عليك حقوقٌ يجب أداؤها، فتَبَرُّ والدًا كنتَ له عاقًّا، وتصلُ رحماً كنتَ لها قاطعاً. لعلك في رمضانَ تُراجعُ حالَك مع ابنٍ لطالما أهملتَ تربيتَه وإصلاحَه واحتواءَه، وتُقوِّي حبالَ الوُدِّ مع زوجٍ اشتكت طويلاً من هجرانِك وإهمالِك.
في رمضان، أصواتُ الشياطينِ خافتةٌ، ونزغاتُهم غائبةٌ، فهلا اغتنمتَ هذه الفرصةَ، لتهدمَ جهودَ الشياطينِ، وتُرضيَ ربَّ السمواتِ والأرضين.
تلك بعضُ اقتراحاتِ المشاريعِ الرمضانيةِ، فاخترْ مشروعَك المناسبَ مما ذكرتُه أو مما لم أذكرْه.
المهمُّ أن تكون بعد رمضانَ أفضلَ مما كنتَ قبله، في جانبٍ واحدٍ أو أكثرَ، بقدر ما يفتحُ اللهُ عليك.
إنّ الخسارةَ كلَّ الخسارةَ أن يُسهِّلَ الله لنا أسبابَ الصعودِ؛ فلا نرتقي في الدرجاتِ، ويفتح لنا أبوابَ القُرْبِ فنصرُّ على البعدِ وملازمةِ السيئاتِ.
اجلسْ جلسةً مع نفسِك، وفكّر في آخرتِك، وخطِّطْ لمصيرك الخالد، ثمّ "استعن بالله ولا تعجز"، وأظهرْ فقرَك إليه، وحاجتَك له، أن يوفقَك لمراضيه.
والموعدُ بعدَ رمضان، حين نهنئُك على نجاحِ مشروعِك، وندعو لك بالقبولِ والثباتِ؛ بإذن الله.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
ففي الليلةِ المقبلةِ يكونُ قد اكتملَ البدرُ، وانتصفَ الشهرُ، وانقضى من رمضانَ الشطرُ.
أما من أحسنَ فما هو إلا بتوفيقٍ من اللهِ، فما أحوجَه إلى استمرارِ المددِ، واستدرارِ المعونةِ من الكريمِ. وأما من قصّرَ فما هو إلا الخذلانُ والحرمانُ، الذي لا يمكنُ رفعُه إلا بالانطراحِ بين يدي الملكِ، والافتقارِ إليه، ودعاءِ دعاءَ المضطرَّ بأن ينجّيَه من الخذلانِ، وينقذَه من الخسرانِ.
ولئن كان الذي مضى من الشهرِ كثيراً، فإن ما بقيَ منه أكثرُ وأعظمُ وأفضلُ. ولو لم تكنْ فيه إلا ليلةُ القدرِ لكفى؛ وهي الليلةُ التي قال عنها النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "وفيه ليلةٌ خيرٌ من ألفِ شهرٍ، من حرمَ خيرَها فقد حُرِم".
تلك الليلةُ التي محلُّها العشرُ الأواخرُ من رمضانَ؛ كان النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- مِن أجلِها يبلغُ أعظمَ مستوياتِ الاجتهادِ في الطاعةِ والعبادةِ والإقبالِ على الله، فكان كما تقول عائشةُ -رضي الله عنها-: "إذَا دَخَلَ العَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ –أي: اعتزل النساء أو جدَّ في العبادة -، وأَحْيَا لَيْلَهُ، وأَيْقَظَ أهْلَهُ".
لقد كان النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يحبسُ نفسَه في المسجدِ طوالَ العشرِ الأواخرِ التماساً لليلة القدر، فيمكثُ معتكفاً في بيتِ الكريمِ -سبحانه-، ليستثمرَ كلَّ لحظاتِها في العبادةِ فينالَ من مكرماتِه، وينهلَ من رحماتِه.
إنها ليلةُ العفوِ والغفرانِ التي قالَ عنها النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "من قام ليلةَ القدرِ إيمانًا واحتسابًا؛ غُفر له ما تقدمَ من ذنبهِ". وإلى اللهِ في تلك الليلةِ تمتدُّ طلباتُ العفوِ، من العَفُوِّ الذي يحبُّ العفْوَ. سألتْ عائشةُ -رضي الله عنها- النبيَّ -صلى الله عليه وسلم-: يا رسولَ اللهِ أرأيتَ إنْ علِمتُ أيَّ ليلةٍ ليلةُ القدرِ ما أقولُ فِيها؟ قال: "قُولي: اللهمَّ إنكَ عفوٌ، تحبُّ العفوَ فاعفُ عنِّي".
ليلةُ القدرِ ما هي إلا ساعاتٌ قليلةٌ في حسبةِ البشرِ، لكنها تعدلُ عند اللهِ أكثرَ من ألفِ شهر، فهنيئًا لمن وفَّقَه اللهُ وأعانَه على استثمارِ ساعاتِها ودقائقِها وثوانيها، ويا حرمانَ مَن خذله اللهُ وكان حالُه الحرمانَ فيها!
اللهم تقبَّل منا ما مضى، ووفِّقنا وأعنَّا فيما بقي.
اللهم بلِّغنا ليلة القدر، واكتب لنا فيها أوفر الحظ والنصيب.
اللهم اجعلنا فيها من الفائزين، اجعلنا فيها من الموفقين، اجعلنا فيها من المقبولين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم