عناصر الخطبة
1/أول آيات نزلت تحث على العلم 2/فضل العلم وأهله في أحاديث النبي 3/بالعلم ترقى الأمم وتنهض 4/من أحوال السلف في طلب العلم 5/التعليم عن بعد في زمن السلف.اقتباس
وبَقيَ في البئرِ مَحبوساً نحو عَشرِ سنينَ، فسَألَه بعضُ طُلابِه أن يَشرحَ لهم كتابَ الكافي في الفقهِ على مَذهبِ الأحنافِ، فأملى على الطُّلابِ الشَّرحَ وهو في داخلِ الجُبِّ, لا يرونَه وإنما يسمعونَ صوتَه، حتى بلغَ الشَّرحُ نَحو ثَلاثينَ مُجلداً في كتابٍ اسمُه المبسوطِ، حتى قالَ في نهايةِ شرحِ العباداتِ: "أَمْلَاهُ الْمَحْبُوسُ عَنْ الْجَمْعِ وَالْجَمَاعَاتِ، مُصَلِّيًا عَلَى سَيِّدِ السَّادَاتِ...
الْخُطبَةُ الْأُولَى:
الحمدُ للهِ جعلَ العلمَ طهارةً للنفوسِ، ونوراً للبصائرِ، وطريقاً إلى الحقِّ، وهادياً إلى الجنةِ، أحمدُه -سبحانَه- وأشكرُه، خلقَ الإنسانَ، وعلمَّه البيانَ، ومدحَ أهلَ العلـمِ والإيمانِ، ومنَّ عليهم بالتوفيقِ والعرفانِ، ورفعَ منارَ العلمِ، وأشادَ بالعلماءِ والمتعلمينَ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له, الملكُ الحقُّ المبينُ، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه إمامَ المربينَ، وقدوةَ العلماءَ والسالكينَ، صلى اللهُ وسلمَ عليه وعلى آلِه وأصحابِه الهداةِ المتقينَ، ومن سارَ على هديهم، وسلكَ سبيلَهم إلى يومِ الدينِ، أَمَّا بَعْدُ:
أيُّها الأحبَّةُ: ماذا يعني لكم أن ينزلَ أفضلُ مَلَكٍ، في أفضلِ ليلةٍ، في أفضلِ شهرٍ، في أفضلِ بُقعةٍ، على أفضلِ رسولٍ، بأفضلِ كتابٍ، لأفضلِ دينٍ، ولأفضلِ أمَّةٍ، ويبدأُ بقولِه: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ)[العلق: 1 - 5]؟.
وماذا تظنُّونَ رسالةَ دينٍ كانتْ هذه هي بدايةُ انطلاقِه؟، بل وجعلَ طريقَ العلمِ هو طريقُ الجنَّةِ؛ كما قالَ -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ-: "مَن سلَك طريقًا يَطلبُ فيه عِلمًا؛ سلَك اللهُ به طَريقًا من طُرقِ الجنَّة"، بل وتُكرمُ الملائكةُ طُلَّابَه؛ "وإنَّ الملائكة لَتضعُ أجنحتَها لطالب العلم؛ رضًا بما يَصنعُ"، بل ويدعو الكونُ كلُّه لمن يقومُ بتعليمِه؛ "وإنَّ العالِمَ ليَستغفرَ له مَن في السمواتِ ومَن في الأرضِ، والحيتانُ في جَوفِ الماءِ"، بل وفضلُ أهلِه أعظمُ من فضلِ أهلِ العبادةِ؛ "وإنَّ فَضلَ العَالِمِ على العَابِدِ؛ كفَضلِ القمرِ ليلةَ البَدرِ على سَائرِ الكواكبِ"، بل وَجُعِلَ أهلُه هم ورثةُ الأنبياءِ؛ "وإنَّ العلماءَ ورثَةُ الأنبياءِ، وإنَّ الأنبياءَ لم يورِّثوا دينارًا ولا درهمًا؛ إنَّما ورَّثوا العلمَ، فمَن أخذَه؛ أَخذَ بحظٍّ وافِرٍ"، فما أعظمَه من دينٍ!، وما أعظمَه من فضلٍ!، وصدقَ اللهُ -تعالى-: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ)[الزمر: 9].
الْعِلْمُ أَفْضَلُ مَطْلُوبٍ وَطَالبُهُ *** مِنْ أَكَمْلِ النَّاسِ مِيزَانًا وَرُجْحَانَا
وَالْعِلْمُ نُورٌ فَكُنْ بَالْعِلْمِ مُعْتَصِمًا *** إِنْ رُمْتَ فَوْزًا لَدَى الرَّحْمَنِ مَوْلانَا
وَهُوَ النَّجَاةُ وَفِيهِ الْخَيْرُ أَجْمَعُهُ *** وَالْجَاهِلُونَ أَخَفُّ النَّاسِ مِيزَانَا
وَالْعِلْمُ يَرْفَعُ بَيْتًا كَانَ مُنْخَفِضًا *** وَالْجَهْلُ يَخْفِضُهُ لَوْ كَانَ مَا كَانَا
فأمَّةُ الإسلامِ هي أمَّةُ العلمِ والتَّعليمِ، في أمورِ دينِها ودُنياها، فبالعلمِ بناءُ الحضارةِ والإنسانِ، وبالعلمِ ترتفعُ الأمَّمُ والأوطانُ، فمن أرادَ مُستقبلَ بلدٍ أو شعبٍ أن يعرفَه؛ فليسألْ عن اهتمامِه بالعلمِ والمعرفةِ، فما ارتفعتْ أمَّةٌ إلا بالعلمِ والثَّقافةِ، وما سقطتْ حضارةٌ إلا بالجهلِ والسَّخافةِ.
لقد صبرتْ هذه الأمَّةُ كثيراً في سبيلِ تدوينِ العلومِ المُختلفةِ، حتى أنقذتْ بعلمِها العظيمِ أممَّاً كانتْ مُتخلِّفةً، تَقولُ المُستشرقةُ زيغريد هونكه في كِتابِها شَمسُ العَربَ تَسطعُ على الغَربِ: "إنَّ العَربَ -وتَقصدُ المسلمينَ- لم يُنقذوا الحَضارةَ الإغريقيةَ من الزَّوالِ, ولم يُنظموها ويُرتبوها ويُقدموها إلى الغَربِ هَديةً فحَسب، بل إنَّهم مُؤسسو الطُرقِ التَّجريبيةِ في الكيمياءِ والطَّبيعةِ والحِسابِ والجبرِ وعلمِ الاجتماعِ والجيولوجيا وحِسابِ المثلثاتِ، وبالإضافةِ إلى عَددٍ لا يُحصى من الاكتشافاتِ والاختراعاتِ الفَرديةِ في مُختلفِ فُروعِ العُلومِ، والتي سُرقَ أغلبُها ونُسبَ لآخرينَ، وقَدَّمَ العَربُ أثمنَ هَديةٍ: وهي طَريقةُ البحثِ العِلميِّ الصَّحيحِ, التي مَهدَّتْ أمامَ الغَربِ طَريقَهُ لمعرفةِ أَسرارِ الطبيعةِ وتَسلُّطِه عَليها اليوم".
ولم يكن يُعيقُ الطُّلابَ شيءٌ في سبيلِ تحصيلِ ونشرِ العلمِ، بل كانوا يُذلِّلونَ في سبيلِه العَسيرَ والصَّعبَ، ويتعرَّضونَ لتحصيلِه للمشقةِ والتَّعبِ، يَقولُ ابنُ أَبي حَاتمٍ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: "كنَّا بمصرَ سبعةَ أشهرٍ لطلبِ العلمِ، كُلُّ نهارِنا مُقسَّمٌ لمجالسِ الشيوخِ، وبالليلِ النسخُ والمقابلةُ، يَقولُ: فأتينا يومًا أنا ورفيقٌ لي شَيخًا، فقالوا: الشَّيخُ مَريضٌ، فرجعنا ورأينا في طَريقِنا سمكةً أعجبتنا فاشتريناها، فلما رَجعنا إلى البيتِ، حَضرَ وَقتُ مَجلِس عِلمٍ آخرَ، فلم نتمكنْ من طَهي هذه السمكةِ، ومَضينا إلى مجلسٍ آخرَ، فلم نَزل حتى أَتى على هذه السمكةِ ثَلاثةُ أيامٍ وكَادتْ أن تتعفنَ، فأكلناها نَيِّئةً، ثُّمَ قَالَ: لا يُستطاعُ العلمُ براحةِ الجسدِ".
وكانَ أحدُهم إذا استغرقَ في العلمِ نسيَ ما حولَه من الأشغالِ، وأصبحَ بالعلمِ وحدَه منشغلَ البالِ، فهذا العَلامةُ النَّحويُّ مُحمدٌ بنُ أحمدٍ أَبو بَكرٍ الخَياطُ البَغداديُّ يَدرسُ العلمِ في جَميعِ أوقاتِه حتى في الَّطريقِ، مَعه كِتابٌ يَقرأُ وهو يَمشي، وكَانَ ربما سَقطَ في حُفرةٍ أو خَبطتَه دَابةٌ، فعجباً لنَهمِ العلمِ!.
باركَ اللهُ لي ولكم في القُرآنِ العَظيمِ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيمِ، أقولُ هذا القولَ وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ من كلِّ ذَنبٍ، فاستغفروه إنه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ حَمداً طَيباً كثيراً مُباركاً فيه؛ كما يُحبُّ ربُّنا ويَرضى، وأَشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه، صلى اللهُ وسلمَ عليهِ, وعلى آلِه وأصحابِه, ومن تبعَهم بإحسانٍ، وبعدُ:
هل سمعتُم بطريقةِ التَّعليمِ عن بُعد كيفَ كانتْ في عامِ 466 للهجرةِ؟! ذلكَ أن حاكم أُوزَجَنْدَ تَزوَّجَ جَاريةً قبلَ أن يَستبرأها، فسُئلَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ السَّرَخْسِيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- عن ذلك فقَالَ: "فِعلُه حَرامٌ لا يجوزُ، ونِكاحُه بَاطلٌ"، فغَضبَ عليهِ الحاكمُ وسَجنَه في جُبٍّ؛ أي: بِئرٍ، وبَقيَ في البئرِ مَحبوساً نحو عَشرِ سنينَ، فسَألَه بعضُ طُلابِه أن يَشرحَ لهم كتابَ الكافي في الفقهِ على مَذهبِ الأحنافِ، فأملى على الطُّلابِ الشَّرحَ وهو في داخلِ الجُبِّ, لا يرونَه وإنما يسمعونَ صوتَه، حتى بلغَ الشَّرحُ نَحو ثَلاثينَ مُجلداً في كتابٍ اسمُه المبسوطِ، حتى قالَ في نهايةِ شرحِ العباداتِ: "أَمْلَاهُ الْمَحْبُوسُ عَنْ الْجَمْعِ وَالْجَمَاعَاتِ، مُصَلِّيًا عَلَى سَيِّدِ السَّادَاتِ، مُحَمَّدٍ الْمَبْعُوثِ بِالرِّسَالَاتِ، وَعَلَى أَهْلِهِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ".
وهكذا مسيرةُ العلمِ لا ينبغي لها أن تتعطَّلَ، وعجلةُ المعرفةِ لا ينبغي لها أن تتوقفَ، مهما كانتْ الظَّروفَ والأحوالَ، والحمدُ للهِ أننا في هذه البلادِ المباركةِ، نجدُ أن العلمَ له العنايةُ الخاصةُ والاهتماماتُ، وتبذلُ في سبيلِ تطويرِه الأموالُ والأوقاتُ، فمعَ جائحةِ كورونا التي ضربتِ العالمَ حتى اشرأبتْ الأعناقُ، نجدُ أنَّ الاستعداداتِ للتَّعليمِ عن بُعدٍ على قدمٍ وساقٍ؛ حفاظاً على صحةِ المُعلمينَ والمُعلماتِ والطلابِ والطالباتِ، وحرصاً على تطبيقِ الاجراءاتِ التي تُدارُ بها الأزماتُ.
فيا أولياءَ الأمورِ: آن لكم أن تُساهموا مُباشرةً في منظومةِ التَّعليمِ، وأن تشعروا بما كانَ يبذلُ المعلمُ من الجُهدِ العظيمِ، ويا أيَّها المعلمُ: آنَ لكَ أن تستريحَ قَليلاً، ولا يزالُ مقامُك في عيونِ الجميعِ شريفاً جليلاً، ويا أيُّها الطالبُ: نريدُ أن نفتخرَ بهذا الجيلِ من الأجيالِ، فكلُّ ذلكَ يُبذلُ لأجلِكَ فلا تُخيِّبِ الآمالُ.
اللهمَّ وَفِّقْ الطلابَ والطالباتِ في عامِهم الدراسيِّ الجديدِ، ونَوِّرْ طريقَهم، واجعلهم من النَّاجحينَ الفَالحينَ في الدُّنيا والآخرةِ، اللهمَّ سدِّدِ المُعلمينَ والمُعلماتِ، اللهم اجعل هذا البلدَ آمناً مُطمئناً وارزقْ أهلَه من الثمراتِ وسائرَ بلادِ المسلمين، اللهمَّ من أرادَ بنا شراً فأشغله في نفسِه ورُدَّ كيدَه في نحرِه، اللهمَّ احفظ لنا أمنَنا وإيمانَنا واستقرارَنا وصلاحَ ذاتِ بيننا يا ربَّ العالمينَ.
هَذَا, وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم؛ كَمَا أَمَرَكُمْ بِذلِكَ رَبُّكُمْ فَقَالَ: (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56]، وَقَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً؛ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا"(رَوَاهُ مُسْلِم).
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم