اقتباس
الواقع الذي لا يستطيع أن يجادل فيه أحد أن الكلمة العليا دائماً للعقيدة والأيديولوجية . فأونج سان سوكي بوذية ديانة وثقافة ونشأة وعقيدة، ومطالبها بالديمقراطية والليبرالية والحرية واحترام حقوق الإنسان كلها مطالب لبني دينها من البوذيين، أما المسلمين فهو لا يستحقون إلا الذبح. وهذا هو رأيها حتى وهي ترفل في قيود سجانيها..
عجيب أمر هذا العالم الذي يشبع من كل شيء إلا من دم المسلمين، ولا يطيب له حال، ولا يهدأ له بال، حتى يرتوى من دم المسلمين، ويجد لذة غربية ونشوة عجيبة وهو يرى دماء المسلمين تراق في شتى بقاع الأرض، فلا تؤرقه آهات، ولا تحركه صرخات، ولا يضيره مشاهد الأشلاء الممزقة، والأجساد المحروقة، والأعراض المنتهكة، والصور تتلاحق سريعاً من فلسطين إلى أفغانستان إلى البوسنة إلى الشيشان إلى العراق إلى سوريا، إلى بورما حيث الأقلية المسلمة الأكثر اضطهاداً في العصر الحديث بنص شهادات المؤسسات الدولية.
فأين الضمير الانساني؟!
أين حق الانسان في العيش؟!
أين مكان الانسان المسلم من هذا الوجود ؟!
أين العالم الذي يهرع لنجدة حوت عالق في المحيط القطبي قبل هلاكه، ويسد أذنيه عن أنات وصيحات آلاف العالقين من مسلمي بورما في بحر أندمان يكابدون أهواله ؟!
أين العالم الذي هرع لنجدة بعض مئات من عبدة الشيطان - الأقلية الأيزيدية - في العراق بعد قتل العشرات منهم، وتقود أمريكا العالم المتحضر لحلف دولي يضم 80 دولة لنجدة الأيزيديين ؟!
نحن أمام فصل جديد من فصول النفاق العالمي الذي تخصص الغرب في ممارسته حصريا على المسلمين وحدهم . نفاق لم ولن يتوقف ما دام العالم الإسلامي ممزق ومشرذم ومنقسم علي نفسه . فأزمة الروهينجا ليست أزمة محلية أو إقليمية، بل هي أزمة عابرة للحدود والثقافات والحضارات، إنها إحدى أسوأ تجليات فزاعة كراهية الإسلام، هي جزء من حرب أيديولوجية عالمية توظّف الإسلاموفوبيا المتنامية حول العالم، والتي تضيف كل جماعة سياسية أو أمّة شيئاً من أوهامها ومصالحها عليها بحيث تهدم أركان الإنسانية وتجعل من المسلم ضحيّة افتراضية جاهزة لأي إشكال سياسي في العالم.
أزمة الروهينجا سقط فيها الكثيرون، وانكشفت سوءة دول وحضارات ومناهج وأطروحات . أزمة الروهينجا كشفت حجم الزيف الكبير الذي يعيشه ما يسمى بالمجتمع الدولي بهيئاته ومؤسساته وأفكاره وقراراته . غير أن أبرز ما سقط في هذه الأزمة الأخلاقية العالمية ؛ الديمقراطية والليبرالية التي يعتبرها الغرب درة أفكاره وخلاصة تجربته المجتمعية وأعظم منتجات عقله السياسي والاجتماعي . وقد تجسد هذا السقوط المدوي مع وصول " أونج سان سو كي " للرئاسة في بورما.
أونج سان سو كي من السجن إلى قصر الرئاسة:
أونج سان سو كي هي زعيمة المعارضة في بورما والتي ظلت رهينة الاقامة الجبرية 15 سنة بسبب مطالبتها بالديمقراطية والحريات والعدالة الاجتماعية واحترام حقوق الإنسان، وتعرضت للتضيق والإيذاء كثيراً بسبب هذه المطالب. ولدت في 19 يونيو عام 1945م، والدها هو الجنرال سان سوكي الذي قام بمفاوضات أدت إلى استقلال البلاد من المملكة المتحدة في سنة 1947م. وقد تم اغتياله لاحقاً على يد منافسيه في نفس العام. تربت يتيمة وحيدة على يد والدتها في العاصمة البورمية هي واشقائها الاثنين. ولاحقاً غرق أحدهما في حمام السباحة وهو طفل والآخر هاجر إلى الولايات المتحدة. فقاست مرارة اليتم والوحدة منذ صغرها.
تلقت تعليمها في المدارس الكاثوليكية ثم التحقت بإحدى الكليات في الهند عندما عملت أمها كسفيرة لبورما في الهند ونيبال وفي عام 1969م حصلت على البكالوريوس في علوم الاقتصاد والسياسة من اوكسفورد. عملت في الأمم المتحدة في نيويورك لمدة ثلاثة أعوام في مسائل تتعلق أساساً بالميزانية. وفي عام 1985م حصلت على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية من كليه الدراسات الشرقية والأفريقية جامعة لندن وقد عادت إلى بورما عام 1988م فقادت الحركة الديمقراطية في بورما ووضعت تحت القامة الجبرية في منزلها منذ عام 1989م لأنها شغلت منصب أمين عام الرابطة الوطنية من أجل الديموقراطية أهم أحزاب المعارضة في بورما.
خيرها عسكر بورما بين الاستمرار في السجن وبين الحرية شريطة مغادرة بورما وعدم العودة إليها مجدداً ولكنها رفضت، فقام العسكر بالتضييق عليها، فمنع زوجها وأطفالها من رؤيتها طيلة خمس سنوات، حتى مات زوجها حزناً عليها، وأُخذ منها أطفالها وحُملوا إلى لندن عند أعمامهم، ومع ذلك ظلت صامدة على مبادئهم، رافضة التنازل عن الديمقراطية وحقوق الإنسان.
حصلت على جائزة سخاروف لحرية الفكر سنة 1990م وجائزة نوبل للسلام سنة 1991م من أجل دعمها للنضال السلمي. وفي عام 1992م على جائزة جواهر لال نهرو من الحكومة الهندية. كما حصلت على عدد من الجوائز العالمية في مجال حرية الفكر كما قرر مجلس الشيوخ الأميركي بالإجماع منح ميدالية الكونغرس الذهبية وهي أرفع تكريم مدني في الولايات المتحدة لزعيمة المعارضة البورمية مصدقاً قراراً كان اتخذه مجلس النواب بهذا الخصوص..
ومع تصاعد الضغوط الدولية على نظام بورما العسكري، وبعد التقارب الأمريكي والأوروبي مع عسكر بورما، تم الإفراج عنها سنة 2010 م، ثم سمح لها بالعمل السياسي بعد زيارة أوباما لبورما، وبعد زيارة الزعيم الألماني " يواخيم جاوك " لبورما أصبحت وزيراً للخارجية، ثم دخلت الانتخابات سنة 2015، ففاز حزبها " الاتحاد من أجل الديمقراطية " بالأغلبية، فشكلت الحكومة وأصبحت هي رئيسة للبلاد. فماذا قدمت زعيمة الديمقراطية والليبرالية التي قضت أكثر من عشرين سنة في السجن وتعرضت للاضطهاد والتضييق بسبب مطالبها باحترام حقوق الإنسان والحريات، فماذا فعلت تجاه الأقلية المسلمة ببورما والتي تتعرض لمجازر مروعة باستمرار ومنهجية منذ مطلع الألفية الجديدة ؟!
البوذية تنتصر:
الواقع الذي لا يستطيع أن يجادل فيه أحد أن الكلمة العليا دائماً للعقيدة والأيديولوجية . فأونج سان سوكي بوذية ديانة وثقافة ونشأة وعقيدة، ومطالبها بالديمقراطية والليبرالية والحرية واحترام حقوق الإنسان كلها مطالب لبني دينها من البوذيين، أما المسلمين فهو لا يستحقون إلا الذبح. وهذا هو رأيها حتى وهي ترفل في قيود سجانيها.
ففي حوار لها مع قناة البي بي سي سنة 2013 اعتبرت أونج سان أن ما يجري لمسلمي الروهينجا لا يرقى إلى مرتبة المذابح أو حتى التطهير العرقي، وشددت في تصريحاتها على أن البوذيين تعرضوا بدورهم للعنف، وأن الخوف منتشر بين الجانبين . وهي تقول هذا الكلام في أعقاب سلسلة من المذابح المروعة خلّفت 200 قتيل ودمّرت مئات البيوت وأدت إلى تهجير مدروس لأكثر من 120 ألف شخص منهم نحو معسكرات اعتقال جماعية . العجيب في هذا الحوار أن سوكي أبدت امتعاضها من الأسئلة الموجهة لها، ثم تذمرت بشدة عندما عرفت أن من يجري معها الحوار مسلمة بريطانية، فقالت بصوت مسموع غاضب: " لم يقل لي أحد أن المذيعة ستكون مسلمة " !!
ثم عادت سوكي وأكدت نفس الكلام في زيارتها لألمانيا في العام التالي سنة 2014، حيث قالت في حوارها مع صحيفة "دي فليت" أن ما يجري في أراكان لا يعد تطهيراً عرقياً، وساوت بين الضحية والجلاد، وتنصلت ممن وعود الديمقراطية بصورة مهينة، وفي هذا الحوار أزالت سوطي الكثير من الشكوك والتكهُّنات حول رؤيتها المستقبلية حال وصولها للحكم، حيث بدا واضحًا أنها تتنصَّل من مسؤوليتها كسياسية بارزة لها ثقل دولي في إبراز معاناة شعب الروهينجا والتضامن الواضح مع قضيتهم، ونراها تكتفي فقط بانتقاد الأداء الحكومي دون الإشارة إلى الإجرام الذي تمارسه تلك الحكومة في حق مسلمي الروهينجا، بالإضافة إلى أنها لم تتحدَّث عن تهجير المسلمين ولا عن قتلهم وتعذيبهم، ولا عن القوانين المُجحِفة في حقهم، بل نراها تتحدث عن "عنف" متبادَل من جميع الأطراف، كما أنها تُبرِّر - على استحياء - للبوذيِّين ما يقومون به من مذابح في حق مسلمي الروهينجا في إقليم "أراكان"؛ بإشاراتها أن أعداد المسلمين في الإقليم تنمو بشكل هائل، وأن البوذيين يفعلون ما يفعلونه بدافع الخوف من المسلمين. أونج سان سو كي لم تكتفِ بكل هذا، بل راحت تستكثر على الأقلية المسلمة حق الدفاع عن نفسها، مشيرة إلى أن ذلك هو دور الدولة، رغم أنها تعترف في موضع آخر أن الدولة هي جزء كبير من المشكلة، كما أنها تطالب المجتمع الدولي بالتحدث إلى الحكومة وسؤالها عن ذلك الوضع المأساوي للأقلية المسلمة، وألا يتحدث معها أحد في هذا الشأن، وكأنها غير معنية بالأمر برمته،وحتى عندما سئلت عن تعاطفها وتضامنها مع المظلومين من أبناء الأقلية المسلمة، لم تشأ أن تبدي تعاطفها دون الإشارة إلى أنها تتعاطف ليس مع الروهينجا وحدهم، بل مع كل من يُعاني، وبدا واضحًا أن مُحاوري الصحيفة حاولوا الحصول منها على تصريح واضح بالتضامن مع مسلمي الروهينجا، أو إعلان صريح عن إجرام السلطة الحاكمة في بورما تجاههم، لكن دون جدوى.
وقد علّق على هذا الحوار الكاشف مُقرِّر جمعية الدفاع عن الشعوب المهددة في آسيا " أوليرش ديليوس" : " لقد أصابتْنا خيبة أمل عميقة من صمت تلك السياسيَّة المُعارِضة على الإقصاء والطرد الممنهج لأبناء أقلية الروهينجا المسلمة في بلادها، رغم أنها هي نفسها كانت قد تعرَّضت للمُلاحقة والاضطهاد لفترة طويلة ".
لذلك كان من الطبيعي أن تكون أونج سان سوكي مثل أي جنرال حرب بوذي متعطش لدم المسلمين، فأعضاء حزبها الفائز بالأغلبية في مجلس النواب لا يضم أي مسلم، وتشكيلتها الحكومية لا تضم أي مسلم، والمسلم الوحيد في كيانها الوظيفي تم اغتياله في 20 يناير 2017، ثم كانت المحصلة الطبيعية لهذا الفكر العفن العنصري أن تطلق أونج سان سوكي حملة إبادة منظمة بحق مسلمي الروهينجا ابتداء من أواخر العام الماضي تم قتل المئات فيها وتهجير عشرات الألاف واغتصاب المسلمات بصورة غير مسبوقة، وتحولت "القديسة" كما كان يطلق عليها الغرب المنافق إلى مجرم حرب يفوق في وحشيته ودمويته أعتى جنرالات الحكم العسكري في بورما، واتضح أن ديمقراطية سوكي وليبراليتها وحقوق الإنسان والحريات كلها حصرية للبوذيين فقط، أما المسلمين فلا بواكي لهم . حتى أن الأمم المتحدة من شدة ووحشية المجازر بحق المسلمين طالبت الزعيمة البورمية إلى الإنصات إلى صوت ضميرها والتوجه إلى شمال غرب البلاد حيث الجيش متهم بارتكاب أعمال عنف ضد أقلية الروهينجا، كما طالبتها بالرفع عن انتمائها العرقي والديني من أجل رفع معاناة مسلمي الروهينجا.
هؤلاء هم البوذيون، فأين المسلمون ؟
إن كنا نتكلم عن ديمقراطية الغرب الزائفة، وليبراليتها الكاذبة، وأوجه النفاق الكثيرة لديهم، فلنا أن نتساءل أين المسلمون ؟! وأين دورهم في نجدة الأقلية الأكثر اضطهاداً في العصر الحديث.
الإجابة على هذا التساؤل تدمي القلوب وتبكي العيون وتحبط النفوس. ففي الوقت الذي يفترض أن يكون المسلمون هم أحرص الناس على نصرة الروهينجا والوقوف بجانب قضيتهم ونجدتهم في محنتهم، نجد أن المسلمين هم أكثر الأطراف سلبية وانحطاطا ونذالة في الأزمة. فالموقف الماليزي والأندونيسي والبنجلادشي في الأزمة يدعو للأسى والبكاء على حال الأمة. فقد أصرت هذه الدول الثلاثة على عدم استقبال اللاجئين الروهينجا القادمين عبر بحر أندمان حتى تقطعت بمراكبهم السبل . وبعد ضغوط خارجية كبيرة وافقت بنجلادش على مضض واشترطت تسكينهم في جزيرة غير مأهولة قفر في غرب البلاد.
أما باقي دول العالم الإسلامي ومنظماته وهيئاته ومراكزه الخيرية فبعيدة كل البعد عما يجري للروهينجا، ولم يقم أي مسئول أو حاكم عربي أو مسلم بالإشارة لأزمة الروهينجا من قريب أو بعيد، والاستثناء الوحيد في هذا الظلام الدامس من التجاهل والإعراض كان ممثلا في الموقف التركي الداعم سياسيا وإنسانيا واقتصاديا لمسلمي الروهينجا، كذلك الدور السعودي ممثلا في تقنين وضع اللاجئين الروهينجا في السعودية حيث تم إقرار تسوية أوضاع الجالية البورمية التي تضم مئات آلاف المسلمين، بجانب الاعتراف بشهاداتهم التعليمية وقبولهم بالمؤسسات الحكومية وغيرها.
دروس محنة مسلمي الروهينجا كثيرة أبرزها هو سقوط مبادئ الديمقراطية والليبرالية الغربية في امتحان الأخلاق والمسئوليات، فحقوق الإنسان واحترام الحريات والمساواة والعدالة الاجتماعية كلها أكاذيب لاستغفال المسلمين والتدخل في شئونهم، كلها أكاذيب وضعت خصيصاً لغير المسلمين، فالمخلوقات جميعاً لها الحق في الحياة الكريمة إلا المسلمين.
من دروس هذه المحنة أن العداوة الحقيقية هي عداوة الدين، وصدق الشاعر:
كل العداوات قد ترجي مودتها *** إلا عداوة من عداك في الدين
فأونج - القديسة بزعمهم - التي احتملت الكثير من الاضطهاد والعذاب والسجن الطويل، لم يغير ذلك عندها شيئاً من عداوتها وكراهيتها للمسلمين، وعندما آل الأمر إليها تحولت إلى سفاح مصاص دماء المسلمين لا فرق بينهما وبين غيرها ممن كان يجاهر بالعداوة والاضطهاد.
ومن دروس هذه المحنة أن العالم الإسلامي ما زال بعيداً عن الارتقاء لمستوى التحدي والمواجهة مع خصومه، ففي الوقت التي يتفق فيها الصليبي مع اليهودي مع البوذي مع الهندوسي مع الوثني على محاربة المسلمين، نجد المسلمين ممزقين مشرذمين متفرقين متقاتلين فيما بينهم، بأسهم بينهم شديد، تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى . وما دام هذا هو حال المسلمين فلن ينتصروا أبداً على أعدائهم.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم