مسائل يكثر السؤال عنها في الحج ( 2 )

فريق النشر - ملتقى الخطباء

2022-10-07 - 1444/03/11
التصنيفات:

طواف الحامل والمحمول :

قد يطوف الإنسان ومعه آخر يحمله كطفل محرم – أيضاً – فيقع الطواف عن الحامل والمحمول ، ولا يلزم الحامل أن يطوف لنفسه طوافاً مستقلاً ، لأن كل واحد منهما طاف بنية صحيحة ، ويصدق عليه أنه طاف بالبيت ، والصبي إن كان مميزاً نوى الطواف ، وإن كان غير مميز نوى عنه وليه ، وهذا هو الراجح إن شاء الله تعالى ، ويؤيد ذلك حديث ابن عباس رضي الله عنهما في قصة المرأة الخثعمية ، وفيه : ( فرفعت إليه امرأة صبياً ، فقالت : ألهذا حج ؟ قال :  » نعم ، ولك أجر « ) أخرجه مسلم (1336) .

ووجه الدلالة : أن النبي r أخبر المرأة بصحة حج الصبي ، ولم يأمرها أن تطوف به طوفاً مستقلاً مع أن المقام مقام بيان وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز ، فلما لم يأمرها دل على جواز طوافها  به محمولاً ، ويجزئ الطواف عنهما معاً .

وذهب بعض العلماء إلى أن الصبي إذا كان غير مميز فلا بد لوليه أن يطوف عن نفسه ثم يطوف بالصبي أو يسلمه إلى ثقة يطوف به ، لأن الصبي لم يحصل منه نية ولا عمل ، وإنما النية من حامله ، ولا يصح عمل واحد بنيتين لشخصين ، والسعي يأخذ حكم الطواف في هذا الحكم على هذا التفصيل .

وكذا لو دفع عربة يركبها الطفل أو الكبير أو المريض أجزأ ذلك عن الراكب ومن يدفع العربة ، والله أعلم .

تحية المسجد الحرام :

تحية المسجد الحرام صلاة ركعتين كغيره من المساجد لعموم الأدلة ، وهذا في حق من دخله لانتظار الصلاة، أو انتظار رفقة ، ونحو ذلك .

أما من دخله لقصد الطواف ، سواء كان لحج أو عمرة أو كان تطوعاً ، فهذا يبدأ بالطواف ، وهو تحية المسجد في حقه ، وليس له أن يصلي ركعتين ثم يبدأ الطواف – كما يفعله بعض الناس – فإن هذا خلاف السنة، لأنه r لما دخل المسجد بدأ بالطواف ، كما في حديث جابر t وغيره ، ولأن المقصود افتتاح مكان العبادة بعبادة ، وعبادة الطواف تحصِّل هذا المقصود .

تقديم السعي على الطواف :

السنة تقديم الطواف على السعي ، سواء كان في حج أو عمرة تأسياً بالنبي r ، بل قال جمهور من أهل العلم : إنه لا يجوز تقديم السعي على الطواف ، فمن قدمه أعاد بعد الطواف .

وحجتهم في ذلك قوله r : ( لتأخذوا مناسككم ) وهذا هو الذي ينبغي للمسلم أن يأخذ به ، لكن لو سعى قبل أن يطوف جاهلاً أو ناسياً صح سعيه – إن شاء الله – ولا يلزمه إعادته بعد الطواف ، وقد قال بذلك بعض أهل العلم قديماً وحديثاً ، ولكن بعضهم قيد ذلك بالنسيان دون العمد ، وبعضهم أطلق فلم يقيد .

وقد ورد في ذلك حديث أسامة بن شريك t قال : خرجت مع النبي r حاجاً ، فكان الناس يأتونه ، فمن قال : يا رسول الله ! سعيت قبل أن أطوف أو قدمت شيئاً أو أخرت شيئاً ، فكان يقول : ( لا حرج ، لا حرج ، إلا على رجل اقترض عرض رجل مسلم وهو ظالم فذلك الذي حَرِجَ وهَلَكَ ) أخرجه أبو داود (2015) وإسناده صحيح ، كما قال الشيخان : الألباني وابن باز ، عليهما رحمة الله ، [ ومعنى ( اقترض ) أي : اقتطع ، والمراد : نال منه ] .

وهو عام في سعي العمرة وسعي الحج ، لكن طعن بعض الأئمة في لفظة ( سعيت قبل أن أطوف ) فقد قال الحافظ البيهقي في ( السنن الكبرى ) (5/146) : ( هذا اللفظ  » سعيت قبل أن أطوف « غريب ، تفرد به جرير عن الشيباني ، فإن كان محفوظاً فكأنه سأله عن رجل سعى عقيب طواف القدوم قبل طواف الإفاضة ، فقال :  » لا حرج « والله  أعلم ) وتبعه على ذلك ابن القيم في ( زاد المعاد ) (2/259) فقال :     ( قوله : » سعيت قبل أن أطوف « في هذا الحديث ليس بمحفوظ ، والمحفوظ: تقديم الرمي والنحر والحلق بعضها على بعض ) .

وعلى هذا فالأحوط ألا يقدِّم السعي ، ومن قدمه جاهلاً أو ناسياً ثم طاف بعده فلعله أن يجزئه ، وإن احتاط لنفسه وخرج من خلاف العلماء ، فسعى ثانية بعد طوافه فهو أكمل وأحسن ، لأن الحديث كما ترى فيه مقال ، والعلم عند الله تعالى .

وجوب البقاء في عرفة حتى الغروب:

ذهب الجمهور من أهل العلم إلى أن الوقوف بعرفة إلى ما بعد غروب الشمس فيمن وقف نهاراً واجب من واجبات الحج ، فمن خرج قبل الغروب فقد ترك واجباً ، وصحَّ حجه ، والواجب هو الجمع بين النهار وجزء من الليل لما يلي :

1 – أن النبي r وقف كذلك ، وقال : « لتأخذوا مناسككم » ، وكونه r مكث بعرفة إلى ما بعد الغروب ثم دفع ، دليل على وجوب ذلك ، لأن الدفع نهاراً أسهل ، ولا سيما في ذلك الزمان ، حيث يمشي الناس على الإبل والأقدام ، ومع هذا لم يدفع إلا بعد الغروب .

2 – أن الرسول r دفع من عرفة قبل أن يصلي المغرب ، مع أن وقت المغرب قد دخل ، فلو كان الدفع قبل الغروب جائزاً لدفع وصلى المغرب في مزدلفة في أول وقتها ([1]) .

وقد ورد في حديث عروة بن المضرِّس أن النبي r قال : « من شهد صلاتنا هذه – يعني الفجر – ووقف معنا حتى ندفع ، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد تمَّ حجه ، وقضى تفثه » أخرجه أبو داود (1950) والنسائي(5/263) والترمذي (891) وابن ماجه (3016) وأحمد (26/142) وقال الترمذي:( هذا حديث حسن صحيح ) وهذا يستدل به من يرى جواز الانصراف من عرفة قبل الغروب ، لأن قوله : « أو نهاراً » يفيد أن من وقف نهاراً ودفع قبل الغروب أنه تم حجه ، والتعبير بلفظ التمام ظاهر في جواز ذلك ، وأنه لا يُحتاج إلى جبره بالدم . وهذا استدلال واضح ، إلا أنه معارض بفعل النبي r وخلفائه من بعده ، فإنهم لم يدفعوا إلا بعد غروب الشمس ، فقُيِّد بذلك إطلاق الحديث .

الانصراف من مزدلفة بعد مغيب القمر :

دلت السنة الصحيحة على أن للضعفة من النساء والصبيان ومن كان برفقتهم أن ينصرفوا من مزدلفة إلى منى بعد مغيب القمر ، كما في حديث ابن عباس وابن عمر وحديث أسماء – رضي الله عنهم –  ، وهي في الصحيحين ، وكذا غيرها من الأحاديث .

فإذا قدموا منى رموا جمرة العقبة ، ولهم أن يحلقوا ويطوفوا بالبيت .

وأما الأقوياء فليس لهم أن يرموا جمرة العقبة قبل طلوع الشمس ، لأن جميع الأحاديث الواردة في الترخيص في الرمي قبل طلوع الشمس كلها في الضعفة ، وليس شيء منها في الأقوياء الذكور .

لكن من كان تابعاً للضعفة فله حكمهم على ما يستفاد من ظواهر الأدلة ، وأما حديث ابن عباس – رضي الله عنهما – قال : قال لنا النبي r : ( لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس ) أخرجه أحمد وأصحاب السنن ، ففي سنده ضعف ، وقد ضعفه الإمام البخاري – رحمه الله – في [التأريخ الصغير ص (135) ] وعلى فرض صحته – كما يرى الترمذي وابن حبان رحمهما الله – فهو محمول على الندب ، كما نبه على ذلك الحافظ ابن حجر – رحمه الله – في (فتح الباري 3/529) والله أعلم  .

وهذا التيسير المستفاد من الأدلة مناسب جداً لهذا الزمان ، فإن كون التابع يذهب بالضعفة كالنساء إلى جمرة العقبة ويرمين ، ثم هو لا يرمي ، ويذهب بهم إلى البيت للطواف فمتى يرمي ؟ ثم ما حاله مع الزحام في آخر الليل لترمي النساء ، ثم يرجع للزحام بعد طلوع الشمس ليرمي لنفسه ؟؟.

أعمال يوم النحر وترتيبها :

أعمال يوم النحر أربعة : رمي جمرة العقبة ، وذبح الهدي – إن كان عليه هدي وهو المتمتع والقارن – والحلق ، وطواف الإفاضة ، وبالرمي والحلق يحصل التحلل الأول – على الأظهر في هذه المسألة – وليس للهدي أثر في التحلل ، إلا أن الأفضل للقارن أن لا يتحلل حتى ينحر هديه تأسياً بالنبي r .

والأفضل أن يرتب الحاج هذه الأعمال ، كما فعل النبي r حيث رمى ثم نحر ثم حلق ثم طاف ، ولا يقدم بعضها على بعض إلا إن كان ناسياً أو جاهلاً – كما دلت السنة على ذلك وهو محل إجماع – ، أما العامد فهو موضع خلاف بين أهل العلم ، لذا فالأحوط للمكلف ألا يتعمد تقديم شيء على شيء متى كان قادراً على الترتيب بلا مشقة تلحقه ، بل يرتبها تأسياً بالنبي r وخروجاً من خلاف العلماء ، وإن كنت أميل إلى أن الحكم عام في الجاهل وغيره ، لكن من الناس من يخالف ترتيب النبي r لأقلِّ سبب أو بدون سبب ، وهذا لا ينبغي ، لأن الترتيب هو الأصل ، فإنه r فعل المناسك أمام الأمة ، وقال : ( لتأخذوا مناسككم ) .

مكان نحر الهدي :

ذهب الجمهور من أهل العلم إلى أن نحر الهدي لا بد أن يكون داخل الحرم في مكة أو منى أو مزدلفة ، سواء كان هدي تطوع أو هدي تمتع أو قران ، لقوله تعالى : ] ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ [ [الحج/33] والمراد بذلك : الحرم كله ، كما ذكر المفسرون ، وقال r : ( نحرت هاهنا ومنى كلها منحر ) أخرجه مسلم من حديث جابر t (1218) (149) ، وعند أبي داود (1937) وابن ماجة (3048) وأحمد (22/381) بلفظ ( كل فجاج مكة طريق ومنحر ) وأخرجه البيهقي (5/239) عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : ( مناحر البدن بمكة ، ولكنها نزهت عن الدماء ، ومنى من مكة ) وإسناده صحيح ، وعلى هذا فلا ينحر هديه في عرفة أو غيرها من الحل ، لأنها خارج الحرم ، فلا يجزئ على المشهور عند أهل العلم ، وبعض الناس قد يغفل عن ذلك ، فينبغي التنبه له .

أما الهدي لفعل محظور – كحلق الرأس – فهذا يجوز أن يكون في محل فعل المحظور ويجوز أن يكون في الحرم ، لأن ما جاز في الحل جاز في الحرم إلا جزاء الصيد فلا بد أن يكون في الحرم ، لقوله تعالى : ] فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ [ [المائدة/95] .

وأما هدي الاحصار – وهو وجود مانع من الوصول إلى البيت – فإنه يذبحه في مكان الإحصار لقوله تعالى : ] فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ[ [البقرة/196] ، لكن لو أراد نقله إلى مساكين الحرم فلا بأس لما تقدم ، والله أعلم .

مكان تفريق لحم الهدي :

يفرق لحم الهدي داخل حدود الحرم ، ثم إن كان هدي تمتع أو قران أو تطوع فله أن يأكل منه ويهدي ويتصدق على مساكين الحرم ، لأنه r أكل من لحم الهدي ، كما في حديث جابر t عند مسلم ، ولأنه دم نسك فهو بمنزلة الأضاحي ، فإن أرسل منه إلى الفقراء في العالم الإسلامي فهذا عمل مشكور وجهد طيب .

وإن كان لترك واجب – على القول به – فإنه يتصدق بجميع لحمه على مساكين الحرم ، ولا يأكل منه شيئاً .

الحلق أو التقصير :

الحلق أو التقصير نسك في الحج والعمرة ، لأن النبي r دعا لمن فعل ذلك بالمغفرة بقوله : ( اللهم اغفر للمحلقين ، قالوا : يا رسول الله وللمقصرين ، قال : اللهم اغفر للمحلقين ، قالوا : يا رسول الله وللمقصرين ، قال : اللهم اغفر للمحلقين ، قالوا يا رسول الله وللمقصرين ، قال : وللمقصرين ) أخرجه البخاري (1728) ومسلم (1302) عن أبي هريرة t ، وفي حديث ابن عمر – رضي الله عنهما – الدعاء بالرحمة ، أخرجه البخاري (1727) ومسلم (1301) .

والحلق : إزالة شعر الرأس كله بالموسى ونحوه ، والتقصير : قص أطراف شعر الرأس من جميع نواحيه بالمقص أو بالآلة المعروفة .

والحلق أفضل للقارن والمفرد والمعتمر عمرة مفردة ، ولا يستثنى إلا المتمتع الذي قدم مكة متأخراً بحيث لا ينبت شعره قبل الحج ، فهذا التقصير في حقه أفضل ، كما أمر النبي r بذلك أصحابه في حجة الوداع ، ليجمعوا بين التقصير في العمرة والحلق في الحج ، ولو حلقوه في العمرة حينئذٍ لم يبق في الرأس شعر يحلق في الحج ، وما عدا ذلك فالحلق أفضل لأن الله تعالى قدمه في قوله :] مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ [ [الفتح/27] ، ولأنه فِعْلُ النبي r كما أخرجه مسلم (1304 – 1305) من حديث أنس – رضي الله عنهما – ، وما كان أقرب إلى موافقة فعله فهو أفضل ، ولأنه r كرر الدعاء للمحلقين بالمغفرة والرحمة ، ودعا للمقصرين مرة واحدة – كما تقدم – ، ولأنه أكمل في التعبد لله تعالى والتعظيم .

ويلاحظ على كثير من الناس – ولا سيما الشباب – أنهم لا يحلقون رؤسهم بل يكتفون بالتقصير ، ويظهر ذلك جلياً في العمرة – كما في الإجازة الصيفية أو في رمضان – وهذا فيه رغبة عن فعل الأفضل ،   وضَنٌّ (1) بالشعر ، والنسك تكره الضِّنَّةُ فيه بالمال والنفس ، فكيف بالشعر ؟! .

مقدار التقصير :

وقع الخلاف بين أهل العلم في مقدار ما يُقَصَّرُ من شعر الرأس ، والقول الذي يظهر صوابه – والله أعلم – أنه لا بد من تقصير جميع شعر الرأس ، وذلك بأن يعم ظاهر الرأس ، وليس معناه أن يأخذ من كل شعرة بعينها ، ووجه ذلك أن الله تعالى قال : ] مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ [ [الفتح/27] والفعل المضاف إلى الرأس يشمل جميعه ، ومن قصر بعض رأسه لا يقال : إنه قصر رأسه ، وإنما قصر بعضه ، ولأن النبي r أمر أصحابه الذين ليس معهم هدي بالتقصير بعد فراغهم من الطواف والسعي ، والظاهر أنه تقصير لجميع الرأس ، لأن ظاهر اللفظ ينصرف إلى ذاك ، ولأن التقصير يقوم مقام الحلق ، والحلق لجميع الرأس فكذا التقصير ينبغي أن يكون لجميع الرأس .

وجوب الرمي بسبع حصيات :

جمهور العلماء على أن الرمي بسبع حصيات شرط من شروط صحة الرمي ، فإن نقص واحدة لم يصح الرمي ، وعليه  الرجوع إلى إتمام ما نقص ، لأن النبي r رمى كل جمرة بسبع حصيات – كما نقل ذلك جابر وغيره من الصحابة – وقال : ( لتأخذوا مناسككم ) فيجب الاقتداء به r في ذلك ، ولا يعرف أنه أذن لأحد أن يرمي بأقل من سبع .

وأما ما أخرجه النسائي (5/275) وغيره ، عن مجاهد قال : قال  سعد t  : ( رجنا في الحجة مع النبي r وبعضنا يقول : رميت بسبع حصيات ، وبعضنا يقول : رميت بست ، فلم يَعِبْ بعضهم على بعض ) فهو أثر منقطع ، لأن مجاهداً لم يسمع من سعد بن أبي وقاص t ، كما قاله ابن القطان ، والطحاوي وغيرهما ، نقل ذلك في ( الجوهر النقي ) (5/149) وذكر أن الأخبار تظاهرت بوجوب السبع ، ولم يثبت أن الرسول r أقر الصحابة على ذلك ، ولا اجتهاد في موضع النص .

مكان أخذ حصى الجمار :

ليس لحصى الجمار مكان معين تُلقط منه ، بل تؤخذ من أيّ مكان من مزدلفة أو من منى أو من الطريق ، لأن النبي r لم يحدد لذلك مكاناً ، وعلى هذا فليس من السنة أن الحاج إذا وصل مزدلفة ليلاً أن يشتغل بلقط حصى جمرة العقبة أو جمار أيام التشريق ، كما يفعل بعض الحجاج .

وفي حديث ابن عباس – رضي الله عنهما – ( وفي روايةٍ الفضلُ بن  عباس ) قال : قال رسول الله r غداة العقبة وهو واقف على راحلته :   ( هاتِ الْقُطْ لي  … الحديث ) أخرجه أحمد (3/350) والنسائي (5/197) وابن ماجة (3029) وإسناده صحيح على شرط مسلم .

وليس في الحديث نص على المكان ، وإن كان ظاهره أنه لقطها له من مزدلفة ، لأن قوله ( غداة العقبة ) يدل على أنه أول النهار ، وقد كان r أول النهار في مزدلفة ، ولكنه ليس صريحاً في ذلك بل يحتمل أنه أخذها من منى عند الجمرة ، فإنه لم يحفظ عنه r أنه وقف بعد مسيره من مزدلفة إلى منى ، ولأن هذا هو وقت الحاجة إليه ، فلم يكن ليأمر بلقطها قبله لعدم الفائدة فيه ، وتَكَلُّفِ حمله ،وعلى فرض المعنى الأول ، فليس عاماً في جميع الجمار ، بل هو خاص بجمرة العقبة ، والمقصود أنه يلقط حصى الجمار من أيِّ مكان ، والله أعلم  .

حكم الشك في عدد الحصى :

يجب الرمي بسبع حصيات لكل جمرة من الجمار الثلاث في أيام التشريق ، وعلى من نقص حصاةً أو اكثر أن يرجع ويتم ما نقص .

ومن سقط منه حصاة أو أكثر قبل الرمي فله أن يأخذ من الحصا الموجود عند الحوض ويرمي به ، ولو كان قد رُمي به ، وهذا هو الصحيح في هذه المسألة ، وقد نص الإمام الشافعي – رحمه الله – على جواز ذلك ، إذ لا دليل على المنع ، ولأنه حجر لم يتغير منه شيء ، ويمكن رميه مرة أخرى ، والمعنى الذي من أجله شرع الرمي موجود فيه ، مع ما في ذلك من التيسير على الناس ، فإن الإنسان قد يسقط منه حصاة وهو على الحوض ، فكونه يؤمر بأن يخرج ويأتي بها من بعيد ، ثم يدخل للرمي مرة أخرى – وقد يكون زحاماً – لا يخلو ذلك من مشقة .

ومن شك في عدد الحصا ، فقاعدة الفقهاء أنه لا يلتفت إلى الشك بعد الفراغ من العبادة ، ومع ذلك فالأحوط أن يزيل الشك باليقين إذا كان عند الجمرة ، فإن رجع إلى منزله لم يلتفت إلى ذلك ، والله أعلم .

التوكيل في رمي الجمار :

الأصل أن الحاج يرمي الجمار بنفسه ، سواء كان رجلاً أم امرأة ، ولا يوكل أحداً يرمي عنه ، سواء كان الحج فرضاً أم نفلاً ، لأن الرمي نسك من مناسك الحج وجزء من أجزائه فلا بد أن يفعله بنفسه ، لكن إن وجد عذر من مرض أو كبر أو صغر أو كانت امرأة معها أطفال وليس عندها من يحفظهم ، ونحو ذلك مما لا يستطيع الرمي بسببه ، جاز أن ينيب من يرمي عنه ، سواء لقط الموكِّل الحصا وسلمها للوكيل ، أو لقطها الوكيل بنفسه .

أما مع القدرة فلا ينبغي التساهل في هذا النسك ، لأنه عبادة والمطلوب من المكلف أن يباشرها بنفسه .

وصفة ذلك أن يرمي الوكيل عن نفسه أولاً ، ثم يرمي عن موكله بالنية في موقف واحد ، ولا يلزمه أن يرمي عن نفسه جميع الجمار ثم يرجع مرة أخرى للرمي عن موكله ، لعدم الدليل على ذلك ، ولأن ذلك فيه مشقة ، ولا سيما في هذا الزمان ، وقد يؤدي إلى تقليل التعاون ، فيحصل الامتناع عن الرمي عمن هو بحاجة إلى الاستنابة .

والأظهر – والله أعلم – أنه إذا زال عذر الموكِّل – كأن يبرأ من مرضه – وأيام الرمي باقٍ بعضها أنه يرمي جميع ما رُمي عنه ، لأن التوكيل إنما أبيح للضرورة ، فإذا زال العذر والوقت باقٍ فعليه أن يباشر العبادة بنفسه .

 

الرمي ليلاً :

رمى النبي r جمرة العقبة ضحى يوم النحر ، ورمى بعد ذلك في أيام التشريق بعد الزوال ، وقال : ( لتأخذوا مناسككم ) .

وقد اتفق العلماء على جواز الرمي إلى غروب الشمس من أيام التشريق ، وكذا يمتد رمي جمرة العقبة إلى غروب الشمس من يوم العيد على القول الراجح .

ووقع الخلاف في جواز الرمي ليلاً عن اليوم الذي غابت شمسه ، والراجح جوازه ، لأن النبي r حدد أول وقت الرمي بفعله ، ولم يحدد آخره ، وقد ورد عن ابن عمر – رضي الله عنهما – أن النبي r رخَّص للرعاة أن يرموا بالليل ، أخرجه البزار (782 مختصر زوائده ) والبيهقي (5/151) ، وحسنه الحافظ في ( التلخيص 2/282 ) ، وله شاهد من حديث ابن عباس – رضي الله عنهما – ، أخرجه الطحاوي ( شرح معاني الآثار 2/221) والطبري ( تهذيب الآثار 1/222) .

وجاء في الموطأ (1/409) عن مالك عن أبي بكر بن نافع عن أبيه ، أن ابنة أخٍ لصفية بنت أبي عبيد نُفِسَتْ بالمزدلفة ، فتخلفت هي وصفية حتى أتتا منى بعد أن غربت الشمس من يوم النحر ، فأمرهما عبد الله بن عمر أن ترميا الجمرة حين أتتا ، ولم يَرَ عليهما شيئاً ، وإسناده صحيح .

وفي مصنف ابن أبي شيبة (4/30) عن عبد الرحمن بن سابط ، قال : كان أصحاب رسول الله r يقدمون حجاجاً فيدعون ظهرهم ، فيجيئون فيرمون بالليل ، وإسناده صحيح .

ولأن اليوم وقت للرمي ، والليل يتبعه في ذلك ، كليلة النحر تابعة ليوم عرفة في صحة الوقوف إلى طلوع الفجر .

فمن يشق عليه الرمي نهاراً كالمرأة ونِضْوِ الخلقة وكبيرِ السن فله أن يرمي ليلاً ، وكذا من يكون رميه ليلاً أيسر له وأكثر طمأنينة فإنه يرمي بالليل ، بل إنني أؤكد على من معه نساء ألا يرمي إلا ليلاً لا سيما في اليوم الحادي عشر ، لشدة الزحام ، أما اليوم الثاني عشر وهو يوم النفر الأول فالرمي قبيل الغروب ممكن بلا مشقة حتى للنساء ، ولا سيما من أراد أن يتعجل ليخرج من منى قبل غروب الشمس .

المبيت بمنى :

المبيت بمنى ليلة الحادي عشر والثاني عشر – وكذا الثالث عشر لمن لم يتعجل – واجب من واجبات الحج ، لأن النبي r بات بها وقال:(لتأخذوا مناسككم ) ولأنه r رخص للسقاة والرعاة في ترك المبيت ، والتعبير بالرخصة يدل على وجوب المبيت لغير عذر .

ومن اجتهد ولم يجد مكاناً يليق بالمبيت سقط عنه ، وله أن يبيت خارجها ، ولا شيء عليه ، لعموم قوله تعالى : ] فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا     اسْتَطَعْتُمْ [[التغابن/16] وقوله تعالى : ] لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا [ [البقرة/286] وقوله r : ( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ) أخرجه البخاري (7288) ومسلم (1337) .

وليس من ذلك المبيت في الشوارع أو على الأرصفة في طرق الناس والسيارات ، فإن في ذلك ضرراً عظيماً وخطراً جسيماً لا تأتي الشريعة بمثله ، ولا سيما في مناسك الحج القائمة على التيسير والتسهيل على المكلفين ، وأعظم من ذلك أن يبيت في الشوارع أو على الأرصفة ومعه نساء ، فهذا ومن قبله يسقط عنه المبيت ، لما في ذلك من الضرر ، فإن المرأة إن بقية جالسة فهذا فيه مشقة ، وإن اضطجعت فليس من الأدب أن تضطجع في طريق الناس ، وقد يظهر شيء من بدنها دون أن تشعر ، ومن يفعل ذلك فإنما يفعله بدافع الحرص على تأدية الواجب ، وهذا أمر مطلوب في المناسك ، لكن إذا وجد العذر سقط الواجب ، والله أعلم .

الرمي قبل الزوال :

لا يجوز الرمي قبل الزوال في أيام التشريق ، لأن النبي r رمى بعد الزوال ، وقال : ( لتأخذوا مناسككم ) فيكون الرمي داخلاً في هذا العموم .

وقد رمى النبي r يوم النحر ضحى ، ورمى في أيام التشريق بعد الزوال ، كما ذكر ذلك جابر t ، فدل على اختلاف الحكم ، ثم لو كان الرمي جائزاً قبل الزوال لفعله النبي r ، لما فيه من المبادرة بالعبادة في أول وقتها ، ولما فيه من التيسير على الناس ، وتطويل وقت الرمي .

وقد ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : ( كنا نتحين ، فإذا زالت الشمس رمينا ) أخرجه البخاري (1746) .

وهذا قول الجمهور من أهل العلم ، وهو الراجح في هذه المسألة    – إن شاء الله – فمن رمى قبل الزوال وجب عليه أن يعيد ، لأنه رمى قبل دخول وقت الرمي ، ولا فرق في ذلك بين اليوم الثاني عشر وهو يوم النفر الأول ، أو غيره من أيام التشريق ، وإن كان بعض العلماء أجاز الرمي قبل الزوال في يوم النفر الأول وهو اليوم الثاني عشر ، واستدل بالآية الكريمة : ] فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [ [البقرة/203] لكن ذلك معارض بفعل الرسول r  – كما تقدم – .

ووقت الرمي فيه سعة – ولله الحمد – ولا موجب للرمي قبل الزوال إلا العجلة التي عليها غالب الناس في زماننا هذا ، والله المستعان .

من تعجل في اليوم الثاني عشر وأدركه الغروب :

من تعجل في الخروج من منى في يوم النفر الأول ، وهو اليوم الثاني عشر من أيام التشريق بأن حمل متاعه وركب سيارته قبل الغروب ثم حبسه المسير في سيارته ، لكثرة السيارات ، أو لعذر آخر فإنه يتعجل ويستمر في سيره ولا يلزمه المبيت بمنى تلك الليلة والرمي من الغد ، لأنه قد أخذ في التعجل وتهيأ له ثم حُبِسَ بغير اختياره ، وكذا لو خرج من منى قبل الغروب ثم عاد إليها بعده لحاجة نسيها أو نحو ذلك جاز له أن يستمر في طريقه ولا يلزمه المبيت ، لكن من أخَّر الرمي إلى ما بعد الغروب لزمه المبيت ، لأنه لا يصدق عليه أنه تعجل ، والله أعلم .

إجزاء طواف الإفاضة عن طواف الوداع :

إذا أخر طواف الإفاضة – وهو طواف الحج – فطافه عند خروجه من مكة أجزأ عن طواف الوداع ، لكن ينوي طواف الحج ، لأنه ركن ، وطواف الوداع واجب ، فيجزئ الأعلى عن الأدنى لا العكس ، وإنما أجزأ طواف الإفاضة عن الوداع ، لأن المأمور به أن يكون آخر عهده بالبيت ، وقد فعل ، وهما عبادتان من جنس واحد فأجزأت إحداهما عن الأخرى .

وهذا واضح بالنسبة للمفرد والقارن الذي سعى سعي الحج مع طواف القدوم ؛ إذ ليس عليه بعد ذلك إلا الطواف ، ويكون آخر عهده بالبيت .

أما المتمتع الذي أخرَّ طواف الإفاضة إلى وقت خروجه من مكة فإن عليه السعي بعده ، فلا يكون آخر عهده بالبيت ، فهل يحتاج إلى وداع بعده ؟

الأظهر – والله أعلم – أنه لا يحتاج إلى وداع بعد السعي ، لأن السعي تابع للطواف ، فلا يضر الفصل بين الطواف وبين الخروج بالسعي ، وقد بوب البخاري – رحمه الله – فقال (3/612) : ( باب المعتمر إذا طاف طواف العمرة ثم خرج هل يجزئه من طواف الوداع ؟ ) ثم أورد حديث عائشة – رضي الله عنها – ، وفيه : ( أخرج بأختك من الحرم فَلْتُهِلَّ بعمرة ثم افرُغا من طوافكما ) وظاهره أنها لم تؤمر بوداع ، قال ابن بطال – رحمه الله –  في شرحه على البخاري (4/445) : ( لا خلاف بين العلماء أن المعتمر إذا طاف وخرج إلى بلده أنه يجزئه من طواف الوداع ، كما فعلت عائشة ) ونقله عنه الحافظ ابن حجر في فتح الباري ، وأقرَّه .

لكن يشكل على ذلك رواية أخرى للبخاري (1560) وفيها تقول عائشة – رضي الله عنها – بعد أن أمر الرسول r أخاها أن يخرج بها لأداء العمرة : ( فخرجنا حتى إذا فرغتُ ، وفرغتُ من الطواف ) فهذا ظاهره أن الفراغ لأول من العمرة ، والفراغ الثاني من طواف الوداع ، ولعل هذا هو الذي جعل البخاري ساق الترجمة بلفظ الاستفهام ، ولم يبتَّ في الحكم ، والله أعلم  .

 

 

( من مسائل العمرة )

 

من سافر إلى جدة لحاجة وهو يريد العمرة :

من سافر إلى جدة لحاجة وهو يريد العمرة ، ففيه تفصيل ، فإن كان قصده السفر لأجل النسك وهو إرادة العمرة وحاجته تبع لذلك ، فإنه يجب عليه الإحرام إذا وصل الميقات أو حاذى أحد المواقيت – كذي الحليفة مثلاً – لقوله r في المواقيت : ( هن لهن ، ولمن أتى عليهن من غيرهن ممن أراد الحج والعمرة ) أخرجه البخاري (1524) ومسلم (1181) من حديث ابن عباس – رضي الله عنهما – ، وهذا يصدق عليه أنه أتى على ميقات وهو مريدٌ العمرة ، فيلزمه الإحرام .

وإن كان قصده السفر لحاجته ، و النسك جاء تبعاً ، بمعنى أنه إن تيسر له وكان عنده متسع من الوقت أتى به ، فهذا لا يلزمه إحرام إذا مرَّ بالميقات ، بل له أن يتجاوزه بدون إحرام ، لأنه وقت مروره بالميقات غير مريدٍ الحجَّ ولا العمرةَ .

فإذا انتهت حاجته وهو في جدة وأراد العمرة أحرم منها ، ولا يلزمه أن يذهب إلى أحد المواقيت ، لأن جدة ميقات لأهلها ولمن وفد عليها غير مريد للحج والعمرة ، ثم أنشأ إرادة الحج أو العمرة منها ، أما القادمون إليها ممن أراد الحج أو العمرة فليست ميقاتاً لهم ، لأنها داخل المواقيت ، فمن أحرم منها فقد تجاوز الميقات ، والله أعلم .

من لبس ثيابه قبل الحلق في العمرة :

 

إذا طاف المحرم وسعى ثم لبس ثيابه ناسياً قبل أن يحلق أو يقصر فعليه أن يخلع ثيابه متى ذكر ويلبس ثياب الإحرام ، ثم يحلق رأسه أو يقصر ، ثم يعيد ثيابه ، سواء تذكر ذلك في مكة أو في غيرها ، لأن الحلق أو التقصير نسك لا بد أن يأتي به في حال الإحرام .

وإن حلق أو قصر وعليه ثيابه جاهلاً أو ناسياً فلا شيء عليه ، وكذا لو فعل قبل الحلق شيئاً من محظورات الإحرام ناسياً فلا شيء عليه ، لعموم قوله تعالى : ] رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا[ [البقرة/286] وقوله r : ( إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ) أخرجه ابن ماجة (2045) والبيهقي (7/356) وغيرهما ، وهو مروي عن عدد من الصحابة – رضي الله عنهم – ، وله طرق ، وشواهد من القرآن تدل على صحته .

طواف الوداع للعمرة :

دلت السنة الصحيحة على أن طواف الوداع من مناسك الحج وشعائره ، لحديث ابن عباس – رضي الله عنهما – ، قال : ( أُمِر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت ، إلا أنه خفف عن الحائض ) أخرجه البخاري (1755) ومسلم (1328) (380) ، وعنه – أيضاً – t ، قال : كان الناس ينفرون في كل وجه ، فقال رسول الله r : ( لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت ) أخرجه مسلم (1327) وفي لفظ : ( كان الناس ينفرون من منى إلى وجوههم ، فأمرهم رسول الله r أن يكون آخر عهدهم بالبيت ، ورخص للحائض ) أخرجه الحاكم (1/476) وقال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ، ووافقه الذهبي .

فهذا الحديث بألفاظه نص صريح في أن طواف الوداع خاص بالحج من وجهين :

الأول : أن النبي r قال ذلك في حجة الوداع ، وخاطب به الحجاج ، ولم ينقل أنه قال ذلك في عمرة من عُمَرِهِ .

الثاني : أن الأوصاف المذكورة لا تنطبق إلا على الحج ، لأنه لولا الوداع لكان الناس ينفرون من منى بعد رمي الجمرات إلى حيث شاءوا ، فأمروا أن يكون آخر عهدهم الطواف بالبيت .

وأما العمرة فليس لها وداع ، بل نقل ابن رشد في ( بداية المجتهد ) (2/266) الإجماع على أنه ليس على المعتمر إلا طواف القدوم ، أي : طواف العمرة ، وقد صرح جمهور الفقهاء بأن طواف الوداع لا يجب على غير الحاج ، وذلك أنه لم يثبت عن النبي r أنه أمر الأمة بطواف الوداع للعمرة ، ولأنه r قد اعتمر أربع عُمَرٍ ولم ينقل أنه طاف للوداع في واحدة منها ، ولا أمر أحداً من أصحابه بذلك ، ولو حصل لنقل إلينا كنقل سائر المناسك ومنها طوافه للوداع في الحج .

وقد اعتمر أصحابه r و التابعون لهم بإحسان ولم ينقل أنهم كانوا يطوفون للوداع ، ولا تكلموا بذلك ، والأصل براءة الذمة ، فلا يُنتقل عنها إلا بدليل صحيح سالم عن المعارض ، وعلى هذا فليس للعمرة وداع سواء خرج المعتمر بعد أداء المناسك ، أو أقام في مكة ثم خرج ، والله  أعلم .

تكرار العمرة :

دلت الأحاديث الصحيحة على فضل العمرة ، واستحباب الإكثار منها ، ومن ذلك ما تقدم من حديث أبي هريرة t أن الرسول r قال : ( العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما ، والحج المبرور ليس له جزاء إلا  الجنة ) متفق عليه .

وعن ابن مسعود t أن رسول الله r قال : ( تابعوا بين الحج والعمرة ، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب ، كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة ، وليس للحج المبرور ثواب إلا الجنة ) أخرجه أحمد (1/387) والنسائي (5/115) والترمذي (810) وهو حديث حسن ، وصححه الترمذي ، وله شواهد .

لكن ينبغي أن يعلم أن تكرار العمرة الذي ثبت فيه الثواب هو ما كان من الميقات في سفرة مفردة ، كما قرر ذلك أهل العلم ، ومنهم العلامة ابن القيم – رحمه الله – في زاد المعاد (2/94-175-176) .

وأما الإحرام بالعمرة ثم الإحرام بأخرى بعد فراغه من الأولى ، فهذا ليس من هدي سلف هذه الأمة ، وهم أدرى منا بمعاني نصوص الشرع ، والعمرة عبادة ، ولا بد من دليل يفيد استحباب ذلك ، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – كما في الفتاوى (26/145) : ( والإكثار من الطواف من الأعمال الصالحة ، فهو أفضل من أن يخرج الرجل من الحرم ويأتي بعمرة مكية ، فإن هذا لم يكن من أعمال السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ، ولا رغَّب فيه النبي r أمته ، بل كرهه السلف ) .

وقال – أيضاً – (26/249) : ( فأما كون الطواف بالبيت أفضل من العمرة لمن كان بمكة ، فهذا مما لا يستريب فيه من كان عالماً بسنة رسول الله r وسنة خلفائه وآثار الصحابة وسلف الأمة وأئمتها … ) .

وقال – أيضاً – (26/264) : ( وهذا الذي ذكرناه مما يدل على أن الطواف أفضل ، فهو يدل على أن الاعتمار من مكة وترك الطواف ليس بمستحب ، بل المستحب هو الطواف دون الاعتمار ، بل الاعتمار فيه حينئذٍ بدعة ، لم يفعله السلف ، ولم يؤمر بها في الكتاب والسنة ، ولا قام دليل شرعي على استحبابها ، وما كان كذلك فهو من البدع المكروهة باتفاق العلماء  ) .

وعلى هذا فما يفعله كثير من الناس من الإكثار من العمرة في رمضان أو بعد الحج أو في أوقات أخرى ، حيث يخرجون إلى التنعيم أو غيره من جهات الحل ، وقد سبق أن أتى الواحد منهم بعمرة من الميقات الذي مرَّ به ، فهذا كله غير مشروع ، لعدم الدليل عليه – كما تقدم – بل الأدلة تدل على تركه ، فإن النبي r وأصحابه لم يفعلوا ذلك في حجة الوداع ولا غيرها ، إلا عائشة – رضي الله عنها – ، كما سيأتي ، مع ما في ذلك من إيجاد الزحام في المطاف لأناس يطوفون إتماماً لمناسك حجهم      – كما في أيام الحج – أو يطوفون لنسك أحرموا به من الميقات – كما في رمضان أو غيره – أو يطوفون تطوعاً – وهم أفضل من هؤلاء كما تقدم – ، وأما كون عائشة – رضي الله عنها – اعتمرت بعد حجتها فهذا لا دليل فيه على تكرار العمرة أو الإتيان بها بعد الحج لمن اعتمر قبله ، وذلك لأمرين:

الأول : أن عمرة عائشة – رضي الله عنها – من التنعيم إما أن تكون قضاء لعمرتها المرفوضة عند من يقول بذلك ، وإما أن تكون زيادة محضة وتطيباً لقلبها عند من يقول : إنها كانت قارنة .

الثاني : أن النبي r انتظر عائشة في الأبطح ومعه أصحابه وتأخروا لأجلها ، فلو كانت العمرة مشروعة لذهبوا جميعاً ، حرصاً على الثواب ، واستفادة من الوقت ، لكن لم يحصل ذلك ، فينبغي للمسلم أن يتأسى بنبيه وقدوته محمد بن عبد الله r ، وأن يكثر من الطواف بالبيت والدعاء ، فهذا هو الأفضل ، والله أعلم .

([1])   انظر : الشرح الممتع (7/418) .

(1) الضن : بالضاد هو : البخل ، يقال : ضَنَّ بالشيء يَضَنُّ ، من باب ( تعب ) بخل .

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات