مسؤولية الكلمة

ناصر بن محمد الأحمد

2015-01-31 - 1436/04/11
عناصر الخطبة
1/اللسان سلاح ذو حدين 2/تنزيه اللسان والسمع عن الكلمة الباطلة واللغو 3/أهمية كلمة التوحيد وفضلها 4/خطورة الكلمة والتحذير من إطلاق اللسان 5/خطر القول على الله بغير علم 6/بعض آفات اللسان 7/فضل القول الحسن 8/بعض المقالات السيئة المنشورة في بعض الصحف المحلية

اقتباس

كم من كلمة أفرحت، وأخرى أحزنت، وكم من كلمة فرقت، وأخرى جمعت، وكم من كلمة أقامت، وغيرها هدمت، وكم من كلمة أضحكت، وأخرى أبكت، فكم من كلمةٍ انشرح لها الصدر، وأنس بها الفؤاد، وأحس بسببها سعة الدنيا، وأخرى انقبضت لها النفس، واستوحشها القلب، وألقت قائلها أو سامعها...

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله ...

 

أما بعد:

 

الكلمة -أيها الإخوة- وما أدراكم ما الكلمة، فإن الكلمة، هي: تلك الحروف والأصوات، التي تنطق بها الألسن، وتتحرك بها الشفاه، لكنها كلمة وكلمة، فكم من كلمة أفرحت، وأخرى أحزنت، وكم من كلمة فرقت، وأخرى جمعت، وكم من كلمة أقامت، وغيرها هدمت، وكم من كلمة أضحكت، وأخرى أبكت، فكم من كلمةٍ انشرح لها الصدر، وأنس بها الفؤاد، وأحس بسببها سعة الدنيا، وأخرى انقبضت لها النفس واستوحشها القلب، وألقت قائلها أو سامعها في ضيق أو ضنك، فضاقت الدنيا على رحبها والأرض على سعتها، فكم من كلمة واست جروحاً، وأخرى نكأت وأحدثت حروقاً.

 

وقديماً قيل: في اللسان عشر خصال: أداة يظهر بها البيان، وشاهد يخبر عن الضمير، وحاكم يفصل به القضاء، وناطق يرد به الجواب وشافع تقضى به الحوائج، وواصف تعرف به الأشياء، وواعظ ينهي به عن القبيح، ومعز تسكن به الأحزان، وملاطف تذهب به الضغينة ومونق يلهي الأسماع.

 

أيها المسلمون: باللسان تتبادل المعرفة، ويحصل التعليم، وتزكو المعارف، وبه يدعو الأقوام إلى عقائدهم ونحلهم، ويُحسّنون في أعين غيرهم طبائعهم وعاداتهم.

 

ومن هنا ذكر الله عباده بمنته عليهم بخلق وسيلة الكلمة، حيث قال: (أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ)[البلد: 9].

 

وقديماً قال موسى كليم الرحمن -عليه السلام-: (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي)[طه: 28].

 

وقال: (وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي)[القصص: 34].

 

نظر معاوية إلى ابن عباس -رضي الله عنهما- فأتبعه بصره ثم قال متمثلاً:

 

إذا قال لم يترك مقالاً لقائلٍ *** يصرف بالقول اللسان إذا انتمى

مصيب ولم يثن اللسان على هُجر *** وينظر في أعطافه نظر الصقر

 

أيها الإخوة في الله: لا عجب بعد هذا أن نجد الأمم كلها تعتني بلسانها، وتهذب بيانها، وتنشر لغتها هنا وهناك ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، بل إن اهتمام الأمة بلغتها قرين ملازم لإحساسها بعزها وكرامتها، وشعورها بقيمتها وأهميتها، وما ماتت لغة إلا بعد أن ماتت غيرة ناطقيها، وانمحت شخصية متكلميها.

 

ولئن كان للأمم كلها اهتمام بهذا، فلأمه الإسلام في ذلك القدح المعلى، وإذا كان الناس يعتنون بكلماتهم من منطلق النفع الدنيوي، وحيازة الشرف، فإن المسلم يعتني بكلماته من منطلق الاستجابة الإيمانية لأوامر دينه، وتوجيهات شريعته.

 

فليست الكلمة في الإسلام حركات يؤديها المرء دون شعور بتبعتها، بل إن الانضباط في الكلمة سمة من سمات المؤمنين الصادقين، قال الله -تعالى-: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ)[المؤمنون: 1- 3].

 

ولئن كان المسلم ينزه نفسه عن شغل هذا اللسان بالكلمة الباطلة، فإنه يجب عليه أيضاً أن ينزه سمعه عن استماع الكلمة الباطلة انطلاقاً من قول الله -جل وعلا-: (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ)[القصص: 55].

 

ألم تر مفتاح الفؤاد لسانه *** إذا هو أبدى ما يقول من الفم

وكائن ترى من ساكت لك مُعجبٍ *** زيادته أو نقصه في التكلم

لسان الفتى نصف ونصف فؤاده *** فلم يبق إلا صورة اللحم والدم

 

أيها الأحبة في الله: قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 71].

 

قال ابن كثير في تفسيره -رحمه الله تعالى-: "يقول الله -تعالى- آمراً عباده المؤمنين بتقواه، وأن يعبدوه عبادة من كأنه يراه، وأن يقولوا قولاً سديداً، أي مستقيماً لا اعوجاج فيه، ولا انحراف، ووعدهم أنهم إذا فعلوا ذلك أثابهم عليه بأن يصلح أعمالهم، أي يوفقهم للأعمال الصالحة، وأن يغفر لهم الذنوب الماضية، وما قد يقع في المستقبل يلهمهم التوبة منه".

 

أيها المسلمون -عباد الله-: أرأيتم بوابة الإسلام، ومفتاح الدخول في رضوان الله إنها كلمة، كلمة "لا إله إلا الله، محمد رسول الله" قاتل من أجلها المصطفى -صلوات ربي وسلامه عليه- وجاهد الناس من أجل النطق بهذه الكلمة: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي، وبما جئت به"[رواه مسلم].

 

وهي مفتاح الدعوة إلى هذا الدين، علمها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معاذاً حين أرسله إلى اليمن، فقال له: "إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب، فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله".

 

وقد ضرب الله -عز وجل- مثلاً في كتابه يستحق أن نقف معه، لندرك أهمية الكلمة سواءً كانت طيبة أم باطلة، قال الله -تعالى-: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ * يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء)[إبراهيم: 24- 27].

 

يقول صاحب الظلال سيد -رحمه الله تعالى-: إن الكلمة الطيبة كلمة الحق كالشجرة الطيبة ثابتة سامقة مثمرة، ثابتة لا تزعزعها الأعاصير ولا تعصف بها رياح الباطل، ولا تقوى عليها معاول الطغيان، وإن خُيّل للبعض أنها معرضة للخطر الماحق في بعض الأحيان، سامقة متعالية تطل على الشر والظلم والطغيان من علٍ، وإن خيل إلى البعض أحياناً أن الشر يزحمها في الفضاء مثمرة، لا ينقطع ثمرها؛ لأن بذورها تنبت في النفوس المتكاثرة آناً بعد آن.

 

وإن الكلمة الخبيثة كلمة الباطل كالشجرة الخبيثة قد تهيج وتتعالى وتتشابك، ويخيَّل إلى بعض الناس أنها أضخم من الشجرة الطيبة وأقوى، ولكنها تظل نافشة هشة جذورها في التربة قريبة، حتى لكأنها على وجه الأرض، وما هي إلا فترة ثم تجتث من فوق الأرض، فلا قرار لها ولا بقاء.

 

أيها المسلمون: إن الكلمة لها شأن عظيم، فلربما كانت سبب الرضوان أو كانت سبب الحرمان؛ ففي حديث أبي هريرة المتفق عليه: "إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوى بها في جهنم".

 

وفي لفظ: "يزل بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب".

 

وإليكم قبساً من أحاديث المصطفى -صلى الله عليه وسلم- لبيان شأن الكلمة؛ فعن أبي موسى -رضي الله عنه- قال: "قلت يا رسول الله أي المسلمين أفضل؟ قال: "من سلم المسلمون من لسانه ويده"[متفق عليه].

 

وقال صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيراً أو ليصمت"[متفق عليه من حديث أبي هريرة].

 

وفي البخاري من حديث سهل بن سعد الساعدي: "من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه، أضمن له الجنة؟".

 

وفي بيان خطر الكلمة على المرء ما لم يضبطه، يخاطب عليه الصلاة والسلام ثلاثة من أصحابه، وهم: سفيان بن عبد الله الثقفي، وعقبة بن عامر، ومعاذ بن جبل، فيقول لسفيان حين سأله: "يا رسول الله حدثني بأمر أعتصم به؟ قال: "قل ربي الله ثم استقم" قلت: يا رسول الله ما أخوف ما تخاف عليّ؟ فأخذ بلسان نفسه، ثم قال: "هذا".

 

وقال عقبة بن عامر: يا رسول الله ما النجاة؟ قال: "أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك".

 

ولما دلّ معاذاً على خصال الخير -الصلاة والزكاة والصوم والحج والصدقة وقيام الليل والجهاد- قال له: "ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قلت: بلى يا رسول الله، فأخذ بلسانه، وقال: كف عليك هذا، قلت: يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: "ثكلتك أمك، وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم".

 

وعن المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن الله كره لكم ثلاثاً: قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال".

 

أيها المسلمون: وإذا كانت الكلمة هي مفتاح الدخول في الإسلام، فإن الكلمة من أكثر أسباب الخروج من الدين -والعياذ بالله- والتردي في حفرة الكفر، فالإنكار والجهود والاستهزاء بدين الله، والسب لله ولرسوله والتنقص للدين والتصريح بأفضلية النظم الوضعية والشرائع الأرضية، سيئات كفرية تتعلق بالكلمة.

 

بل إن الفعل المجرد أوسع من الكلمة، فلو فعل العبد فعلاً كفرياً، فإنا لا نحكم بكفره بمجرد الفعل، بل نحتاج قبل الحكم عليه إلى تعريفه وتعليمه وبيان خطورة فعله عن طريق الكلمة، فإن عاند وأمر بكلامه، فقد قامت عليه الحجة، وانتفت المعذرة.

إن أصل البدع والضلالات، وأُسَّ الكفر والشرك مبني على الكلمة- القول على الله بغير علم - قال الله -تعالى-: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)[الأعراف: 33].

 

وقال جل وعز: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ)[الحاقة: 44- 46].

 

فحذاري حذاري -أيها المكلف- من زلة لسانك، واحذر خطورة الكلمة.

 

إنك بالكلمة بإمكانك أن ترضى الله، أو الناس، وتحببهم فيك، وبالكلمة تسخط الناس، وتنفرهم منك.

 

لسان الفتى حتف الفتى حين يجهل *** وكل امرئ ما بين فكيه مقتلُ

وكم فاتح أبواب شر لنفسه *** إذا لم يكن قفلٌ على فيه مُقفَلُ

إذا ما لسان المرء أكثر هذره *** فذاك لسانٌ بالبلاء موكل

إذا شئت أن تحيا سعيداً مُسّلَّماً *** فدبر وميز ما تقول وتفعل

 

اللهم إنا نعوذ بك من شر كلامنا، وشر ألسنتنا، وشر ما نقول ونفعل، إنك ولي ذلك.

 

أقول ما سمعتم، وأستغفر الله ...

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله ...

 

أما بعد:

 

أيها المسلمون: فإن الكلمة الطيبة، والكلمة السيئة، مخرجهما واحد، وبإمكانك -أيها المسلم-، أن تستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، قال الله -تعالى-: (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)[الإسراء: 53].

 

وإليك -أخي المسلم- نماذج متفرقة من سيء الكلمة نحذرك منها:

 

القذف؛ جرم لساني عن طريق الكلمة، يعاقب عليها القاذف، بثمانين جلدة تلهب ظهره، وتقوم كلمته، قال الله -تعالى-: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)[النور: 4].

 

الحلف؛ كلمة ولو خالف الإنسان ما حلف عليه قصداً لزمته الكفارة، قال الله -تعالى-: (لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)[المائدة: 89].

 

الطلاق؛ يقع بكلمة، وكذلك العتق والرجعة ولو كان الرجل مازحاً في قولها: "ثلاث جدهن جد، وهزلهن جد: النكاح، والطلاق، والرجعة"[رواه الترمذي وغيره].

 

الكذب؛ لا يكون إلا بالكلمة، وهي رذيلة خلقية: "إياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال العبد يكذب، ويتحرى الكذب، حتى يكتب عند الله كذاباً".

 

الغيبة والنميمة؛ وهل هي إلا كلمة، قال الله -تعالى-: (وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ)[الحجرات: 12].

 

ولما عرج بالرسول -صلى الله عليه وسلم-: "مرَّ بأقوامٍ لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم، فسأل عنهم من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس، ويقعون في أعراضهم".

 

وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة نمام"[متفق عليه].

 

اللعن؛ كلمة يطلقها الرجل، يقول عليه الصلاة والسلام: "لا يكون اللعانون شفعاء، ولا شهداء يوم القيامة"[رواه مسلم].

 

وفي حديث أبي الدرداء مرفوعاً: "إن العبد إذا لعن شيئاً صعدت اللعنة إلى السماء، فتغلق أبواب السماء، دونها ثم تهبط إلى الأرض، فتغلق أبوابها دونها ثم تأخذ يميناً وشمالاً، فإن لم تجد مساغاً رجعت إلى الذي لُعن، فإن كان أهلاً، وإلا رجعت إلى قائلها".

 

إفشاء السر؛ خيانة بالكلمة، حديث جابر مرفوعاً: "إذا حدث الرجل الحديث، ثم التفت فهي أمانة".

 

السخرية والاستهزاء؛ وسيلتها الكلمة، وبالكلمة، قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا)[الحجرات: 11].

 

المراء والجدال والخصومة؛ نوع من إضاعة الجهد والوقت فيما يوغر الصدور، ويولد الأحقاد عن طريق الكلمة، يقول عليه الصلاة والسلام: "ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل".

 

وفي البخاري: "إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم".

 

كل هذه وغيرها -أخي المسلم- كلمات نحذرك منها تصب كلها في واد واحد، الكلمة الباطلة، فعليك -يا عبد الله- بالكلمة الطيبة ما دام مخرجهما واحداً، كما أسلفنا، فعليك بالذكر والاستغفار، وقراءة القرآن، والتسبيح، ورد السلام، وتشميت العاطس، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله، وإرشاد الناس عن طريق الكلمة الطيبة الهادفة.

 

ليكن -أخي المسلم- اختيارك للكلمة الاختيار الحسن، كما قال تعالى: (وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً)[البقرة: 83].

 

وكما في حديث أبي مالك الأشعري المرفوع: "إن في الجنة غرفاً يرى باطنها من ظاهرها، وظاهرها من باطنها، هي لمن أطاب الكلام، وأطعم الطعام، وصلى بالليل، والناس نيام".

 

وإن المشكلة التي تعانيها مجتمعاتنا القريبة والبعيدة، هو عدم سماع الكلمة الحسنة الهادفة إلا فيما ندر، وغالب ما يبث على الناس، الكلمة السيئة.

 

افتح المذياع واستمع لأية محطة في العالم الإسلامي كله، لمدة أربع أو خمس ساعات، كم كلمة طيبة تسمعها، مقارنة، لهذا الهراء من الكلمات لا أقول السيئة، بل القبيحة والنتنة في الغالب، من الأغنية العارية، والشعر البذيء، ناهيك عن كلمات الشرك والإلحاد، وبث الأفكار الدخيلة، وناهيك عن كلمات تبجيل الكفار، وتعظيم حظيرة الغرب.

 

ووصف الرجل الكافر الذي قد حكم الله عليه بأنه خالد مخلد في نار جهنم إذا لم يسلم بأنه الرجل المخلص، وغيرها من الكلمات التي تمرض من يسمعها.

 

واقرأ إن شئت بعض هذه الأطنان من الكلمات التي تطبع يومياً على صحف ومجلات العالم الإسلامي كله ما بين جريدة، ومجلة وصحيفة، كم من كلمة طيبة تقرأها وتستفيد منها، في الدنيا والآخرة، مقابلة بما يكتب من خلاعة ورذيلة، بل ودعوة إلى العلمنة وإلى العقائد الفاسدة، بل وصل الأمر خذوا هذا النموذج:

 

جريدة البلاد نشرت يوم السبت الماضي مقالاً طويلاً لرجل منحل بعنوان: "خصوصيتنا في عصر العولمة".

 

يقول في ثنايا كلامه العفن، والذي قد تشم منه رائحة الردة: "فليس هناك في نهاية التحليل ما يمكن أن يطلق عليه اسم ثقافة صافية أو نقية بالكامل، ولا هدية مكتملة، ثابتة الأركان".

 

يا مجرم إذا لم تكن ثقافة الإسلام وعقيدته هي الصافي النقي الكامل، فماذا يكون؟!

 

وبعد أسطر صرح، وقال: "فإنه ليس لثقافتنا عقيدة واحدة، ولا عقل واحد، ولا ذهن واحد، ولا تطلعات واحدة، بل هذه الأمور تختلف من عصر إلى عصر، وتتجاوب مع ظروف البيئة الجبلية والسهلية والفلاحية والصناعية".

 

إلى أن قال: "وأنماط مشتركة في الثقافات المتوسطية، وغيرها، والمتعلقة بالنبي العائلية، والقواعد المطبخية، والفنون الشعبية، وغيرها".

 

ويقول أيضاً في نفس المقال: "فالحداثة الغربية، وما أنتجته من ثقافة علمية، وتقنية في طريقها؛ لأن تكون ثقافة عالمية بكل ما في الكلمة من معنى، وبغض النظر عن موقفنا الوجداني منها سواء كان بالرفض المطلق، أو الإيجاب المطلق، فالثورة التاريخية الثالثة للإنسان ثورة المعلومات والاتصالات وتقنية الشريعة، والإليكترون في طريقها؛ لأن تقلب كل ما عرفه الإنسان من أوضاع اقتصادية واجتماعية وثقافية عرفها في الماضي القريب أو البعيد.

 

ولن تستطيع الثقافات التقليدية المتشبثة بوهم الخصوصية المطلقة، وهوس التفرد الثقافي المميز، أن تفعل شيئاً تجاه هذه الثورة العالمية التاريخية المكتسحة لكل أنماط التفكير المعتادة"[المقال بقلم/تركي الحمد].

 

الرد على تركي الحمد:

 

وأظنك تتحدث عن نفسك ومن هم على شاكلتك ممن لم يفعلوا شيئاً تجاه ما أسميته بالثورة العالمية التاريخية.

 

أما المسلمون الصالحون من هذه الأمة، فإنهم يقولونها، وبملء أفواههم، أن لهم ثقافتهم الخاصة، ولهم تميزهم المتفرد شئت أنت وأمثالك أو أبيت.

 

فهذا -أيها الأحبة- نموذج قريب من الكلمة الخبيثة، والتي يدعو بها كاتبها لفكر الحداثة والعلمنة، وينتقد أن يكون للمسلمين ثقافتهم الخاصة بهم.

 

جريدة البلاد - السبت 15/6/1420هـ - السنة 69 العدد 15772.

 

إلى كتابه الكفر والشرك والإلحاد -والعياذ بالله- وغالبه مدح وثناء على الفسقة والمنافقين.

 

وإذا كتب كلمة حق، فإنه يحجز في زاوية ضيقة، أو في عمود لا يكاد يرى إلا بالمكبر.

 

إن الكلمة شأنها خطير -أيها الإخوة- فما غُزي العالم الإسلامي إلا عن طريق الكلمة، وما غُرر بهؤلاء الشباب والشابات إلا عن طريق الكلمة، وما رُوَّج للفساد والانحلال إلا بالكلمة.

 

وما فسد المجتمع إلا بيت الفكر الدخيل، والعادات السيئة بواسطة الكلمة ثم وما تخاصم رجلان إلا بكلمة، وما تنافرت العائلات وانتشر الحسد والبغض في بعض الأسر إلا عن طريق الكلمة.

 

فالله الله -أيها الإخوة- فيما تقولون وما تتكلمون، ليكن كلماتكم لكم، ولا تكن عليكم.

 

ليكن كلماتكم، كلمات جمع ومحبة وائتلاف، ولا تكن كلمات فرقة، وبغض وتحاسد.

 

اللهم احفظ ألسنتنا من الكذب، وأعيننا من الخيانة، وقلوبنا من النفاق، وجوارحنا من المعصية.

 

 

 

المرفقات

الكلمة1

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات