مرض كورونا وموقف بلادنا منه

الشيخ أ.د عبدالله بن محمد الطيار

2022-10-10 - 1444/03/14
عناصر الخطبة
1/الضعف صفة ملازمة للبشرية جمعاء 2/كورونا بين الابتلاء والعقوبة 3/موقف الإسلام من الأوبئة وأسباب الوقاية منها 4/الشريعة كفيلة بالوقاية من الأوبئة 5/خطوات موفقة اتخذتها المملكة العربية السعودية للوقاية من فيروس كورونا

اقتباس

أيُّها المؤمنونَ: موقفُ الإسلامِ وَسَطٌ في التَّعاملِ مَعَ الوباءِ بينَ التَّهوينِ والتَّهويلِ، فلا يَصحُّ التَّهاونُ والتَساهلُ كما لا يصحُّ التَّفخيمُ والتَّضْخِيمُ، وتَخْويفُ النَّاسِ، وبثُّ الرُّعبِ والقلقِ في نفوسِهم. الإسلامُ يَأمرُ بالوقايةِ والحمايةِ، ويَأمرُ بعدَ ذلكَ بالتَّداوي، فَلِكُلِّ داءٍ دواءٌ، ولكلِّ مَرَضٍ شِفَاءٌ، عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ، وجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَه، إلا...

الخطبة الأولى:

 

الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، الرحمنِ الرحيمِ، مالكِ يومِ الدينِ، والعاقبةُ للمتقينَ، ولا عدوانَ إلا علَى الظالمينَ؛ وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ وليُّ الصالحينَ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه النبيُّ الأمينُ، صلَّى اللهُ وسلَّم وباركَ عليهِ وعلى آلِه وأصحابِه وأزواجِه وأتباعِه إلى يومِ الدينِ وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

 

أما بعدُ: فأوصيكم -عبادَ اللهِ- ونفسي بتقوى اللهِ -جلَّ وعلا-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون)[آل عمران: 102].

 

أيُّها المؤمنونَ: البشريةُ مهما بَلَغُوا منْ علمٍ وأُوتُوا مِنْ قُوةٍ وإمكاناتٍ ماديةٍ وتَقنيةٍ فَهمْ أمامَ قُدرةِ اللهِ -تَعالى- ضُعفاءُ، فاللهُ -جلَّ وعلا- يَمْلكُ هذا الكونَ بما فيه، ويُسلِّطُ بعضَ آياتِه على عبادِه، تذكيرًا واعتبارًا بعظَمتِه وشديدِ بطشِه، وقدرتِه حتى يُراجِعُوا أنفسَهم ويُسلِّموا لهُ أمرَهُم، قالَ جلَّ وعلا: (وَمَا نُرْسِلُ بِالآياتِ إِلا تَخْوِيفَا)[الإسراء: 59]، وإذَا اغترَّ البشرُ بما أُوتُوا أَتَاهمُ اللهُ مِنْ حيثُ لمْ يَحْتَسبوا، وقذفَ في قُلوبِهم الخوفَ والرُّعبَ كمَا هُو مشاهدٌ في البلادِ التي ابْتُليتْ بهذا المرضِ، فَلمْ يُغْنِ عَنْهم ما في أَيْدِيْهمْ مِنْ إِمكَاناتٍ هائلةٍ وقُدراتٍ كبيرةٍ.

 

هذَا المرضُ أَسْقطَ كلَّ الْقُوى، وغَلبَ الإمكاناتِ ولَمْ يَبقَ إلا قُدرةُ اللهِ -جلَّ وعلا- ولُطْفُه، فأَمْرهُ نَافذٌ، وصَدَقَ اللهُ العظيمُ: (وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ)[الرعد: 11].

 

أيُّها المؤمنونَ: الوباءُ جُنْدٌ منْ جُنْدِ اللهِ يُرْسِلُه على أقوامٍ ابتلاءً ورفعةً وتمحيصًا وتكفيرًا وتطهيرًا، ف "ما يُصيبُ المُسْلِمَ مِنْ وَصَبٍ ولا نَصَبٍ حتَّى الشوكةَ يُشَاكُها إلا كَفْرَ اللهُ بهَا مِنْ خَطايَاه"، ويُرسِلُه على أقوامٍ عِقَابًا وعَذَابًا: (بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)[الروم: 41].

 

أيُّها المؤمنونَ: موقفُ الإسلامِ وَسَطٌ في التَّعاملِ مَعَ الوباءِ بينَ التَّهوينِ والتَّهويلِ، فلا يَصحُّ التَّهاونُ والتَساهلُ كما لا يصحُّ التَّفخيمُ والتَّضْخِيمُ، وتَخْويفُ النَّاسِ، وبثُّ الرُّعبِ والقلقِ في نفوسِهم.

 

الإسلامُ يَأمرُ بالوقايةِ والحمايةِ، ويَأمرُ بعدَ ذلكَ بالتَّداوي، فَلِكُلِّ داءٍ دواءٌ، ولكلِّ مَرَضٍ شِفَاءٌ، عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ، وجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَه، إلا الموتَ فَليسَ له عِلاجٌ، قالَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: "فإذَا كانَ بأرضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا، فَلا تَخْرُجُوا مِنْها، وإذَا سَمِعْتُمْ بِهِ في أرضٍ، فلا تَدْخُلُوهَا"(رواه أحمد).

 

وقَدْ وردَ أَنَّ ظُهُورَ بَعْضِ الأَوْبِئَةِ والطَّواعينِ مِنْ أشراطِ السَّاعةِ وعلاماتِ قُربِهَا، فعنْ عَائشةَ -رضَّي اللهُ عَنْها- أنَّهَا سَأَلَتْ رَسولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- عَنِ الطَّاعُونِ، فأخْبَرَهَا نَبِيُّ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أنَّه كانَ عَذَابًا يَبْعَثُهُ اللَّهُ علَى مَن يَشَاءُ، فَجَعَلَهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، فليسَ مِن عَبْدٍ يَقَعُ الطَّاعُونُ، فَيَمْكُثُ في بَلَدِهِ صَابِرًا، يَعْلَمُ أنَّه لَنْ يُصِيبَهُ إلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ له، إلَّا كانَ له مِثْلُ أجْرِ الشَّهِيدِ"(رواه البخاري)، وقَدْ وَرَدَ أنَّ النَّبِيَ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- قالَ: "الطَّاعونُ شَهادةٌ لكلِّ مُسلمٍ"(رواه البخاري)، وقالَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: "يَأتيْ الشُّهداءُ والمتوفّونَ بالطَّاعونِ، فيقولُ أصحابُ الطَّاعون: نَحنُ شُهداءُ، فيُقالُ: انْظُروا، فإنْ كَانَتْ جِراحُهم كَجِراحِ الشُّهداءِ تسيلُ دَمًا ريحَ المسكِ، فهمْ شُهداءُ. فيَجِدونَهم كَذلكَ"(رواه أحمد والطبراني).

 

عبادَ اللهِ: ومِنَ الأسْبابِ الشَّرعيةِ للحفظِ -بعدَ اللهِ- مِنْ هذهِ الأَوبئةِ مَا يلِي: مَا وَرَدَ أنَّ النَّبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "مَنْ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ الَّذِي لَا يَضُرُّ مَعَ اسْمِهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لَمْ تُصِبْهُ فَجْأَةُ بَلَاءٍ حَتَّى يُصْبِحَ، وَمَنْ قَالَهَا حِينَ يُصْبِحُ ثَلَاثُ مَرَّاتٍ لَمْ تُصِبْهُ فَجْأَةُ بَلَاءٍ حَتَّى يُمْسِيَ"(رواه أبو داود)، وقالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للرَّجلِ الذي جاءَهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا لَقِيتُ مِنْ عَقْرَبٍ لَدَغَتْنِي الْبَارِحَةَ؟ قَالَ: "أَمَا لَوْ قُلْتَ حِينَ أَمْسَيْتَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، لَمْ تَضُرَّكَ"(رواه مسلم)، وقالَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)، وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ حِينَ تُمْسِي وَحِينَ تُصْبِحُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ تَكْفِيكَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ"(رواه التِّرمذيّ، وأبو داود)، وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي دِينِي وَدُنْيَايَ، وَأَهْلِي وَمَالِي، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِي، وَآمِنْ رَوْعَاتِي، اللَّهُمَّ احْفَظْنِي مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ، وَمِنْ خَلْفِي، وَعَنْ يَمِينِي، وَعَنْ شِمَالِي، وَمِنْ فَوْقِي، وَأَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِي"(رواه أبو داود، وابن ماجه، وصحَّحه الألبانيّ في صحيح أبي داود).

 

وكَانَ مِنْ دُعَائهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْبَرَصِ وَالْجُنُونِ وَالْجُذَامِ، وَمِنْ سَيِّئْ الْأَسْقَامِ"(رواه أحمد، وأبو داود، والنَّسائي، وصحَّحه الألباني).

 

عبادَ اللهِ: إنَّ أَحْكامَ الشَّريعةِ تَكْفُلُ -بإذنِ اللهِ- الوقايةَ قَبَلَ نُزولِ الوَباءِ، والحمايةَ بَعْدَ نُزُولِه، فالوضوءُ والنَّهيُ عن التَّنَفْسِ في الإناءِ والنفخ فيه، وتغطية الوجه عند العطاس، والأمر بالحجر، وعزل المصابين، وعدم دخول أرض الوباء، كلها جاء بها الإسلام وهي من العبادة وفيها الوقاية والحماية.

 

أعوذُ باللهِ منَ الشيطانِ الرجيمِ: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُون)[الروم: 41].

 

باركَ اللهُ لي ولكمْ في القرآنِ العظيمِ، ونفعني وإيَّاكم بما فيهِ من الآياتِ والعظاتِ والذِّكرِ الحكيمِ.

أقولُ ما سمعتمْ، فاسْتَغفروا اللهَ يغفرْ لي ولكُم إنَّه هو الغفورُ الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على الرسولِ الكريمِ محمدِ بنِ عبدِ اللهِ النبيِّ الأمينِ، صلى اللهُ عليه وعلى آلهِ وصحبِه أجمعين.

 

أما بعدُ: فاتَّقوا اللهَ -عبادَ اللهِ-، واعْلَمُوا أنَّ تَقْوَاهُ هيَ طريقُ النجاةِ.

 

أيُّها المؤمنونَ: لَقَدْ اتَّخَذَتْ بلادُنا -وللهِ الحمدُ والمنَّةِ- خطواتٍ جادةً للوقايةِ مِنْ هذَا الفيروسِ، وذلكَ بِتَوفيرِ مراكزَ المراقبةِ الصحيةِ بجميعِ المنافذِ للتَّأكُّدِ مِنْ توافرِ الإجراءاتِ والتجهيزاتِ، مِنْ وسائلِ الحمايةِ الشخصيةِ، وَتَوفرِ العاملينَ المدرَّبينَ على تقييمِ حالاتِ الاشتباهِ وكيفيةِ التَّعاملِ معهَا، والإجراءاتِ الضَّروريةِ فيمَا يَتَعلَّقُ بحالاتِ الاشتباهِ بينَ المسافرينَ، والتَّنسيقِ بينَ الجهاتِ المسؤولةِ لِنقلِ الحالاتِ المُشْتَبِهةِ إلى المنشآتِ الصِّحيةِ الملائمةِ.

 

وقيامها بوضعِ إجراءاتٍ احترازيةٍ للتَّصدِّي لانتشارِ هذا الفيروسِ كُورونَا على أراضِيهَا؛ ومِنْها: قرارُها تعليقُ دخولِ زوَّارِ المسْجِدِ النَّبويَّ والُمعتمرينَ مؤقتاً، ووقْفُ العمرةِ لزوَّارِ الدَّاخلِ أيضًا مِنْ المواطنينَ والمقيمينَ هذِه الأيامِ حتَّى يزولَ هذَا الوباءُ بإذنِ اللهِ -تعالى-، وحتَّى يَسْلَمَ المعتمرونَ وزوارُ المسجدِ النَّبويِّ.

 

وقيادةُ المملكةِ العربيةِ السعوديةِ حريصةٌ كلَّ الحرصِ على سلامةِ الحجاجِ والمعتمرينَ وزوَّارِ مَسجدِ رسُولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-، وما اتَّخَذَتْهُ منْ إجراءاتٍ جاءَ في هذا السياقِ، وهيَ السبَّاقةُ والحريصةُ دائمًا على مصالحِ المسلمينَ، والبُعدِ بهم عمَّا يَضُرُّهُمْ في أنفسِهم وأجسادِهم وعقولِهم استجابةً؛ لقولِ الرسولِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: "لا عَدْوَى ولا طِيرَة"(رواه مسلم).

 

عبادَ اللهِ: لقدْ بيَّنَ رسُولُنَا -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- أنَّ المخالطةَ تكونُ سببًا لنقلِ المرضِ منْ الصَّحيحِ إلى المريضِ، بإذنِ اللهِ -تَعَالى-، ولهَذا قالَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: "لا يُوردُ مُمْرِضٌ على مُصِّحٍّ"(رواه البخاري) فيجبُ على جميعِ المسلمينَ التَّعاونُ مع الدولةِ في مثلِ هذِه الإجراءاتِ؛ لأنَّها وُضِعتْ لمصلحتِهم، وهيَ مِن توجيهاتِ الإسلامِ الذي أَمَرنَا أنْ نُحافظَ على أنفسِنَا ولا نُلقي بهَا إلى التهلكةِ.

 

وعلى كلِّ مسلمٍ أنْ يَتَضرَّعُ إلى اللهِ -تَعالى- بِالدُّعاءِ بِأنْ يَصرفَ عنَّا هذَا الوباءَ وعنْ سائرِ بلادِ المسلمينَ، فاللهُ -تعَالى- وعدَ منْ دَعَاهُ بإِجَابتِه.

 

أسألَ اللهَ -تعالى- أنْ يحفظَ علينَا ديننَا وأمننَا وعافيتنَا، وأنْ يصرفَ عنَّا كلَّ مرضٍ ووباءٍ، إنَّهُ على كلِّ شيءٍّ قديرٍ.

 

هذا وصلُّوا وسلِّموا على الحبيبِ المصطفَى، والقدوةِ المجتبى؛ فَقَد أمَرَكُم اللهُ بذلكَ، فقالَ جلَّ وعلا: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].

 

المرفقات

مرض كورونا وموقف بلادنا منه

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات