عناصر الخطبة
1/بعض أمراض القلوب 2/أسباب سلامة القلب من الأمراضاقتباس
منْ أخطرِ الأمراضِ وأشدَّها فتكاً بالقلبِ، وكيفَ يسيرُ قلبٌ إلى خالقِهِ وهُو يجهَلُ أسبابَ حياتِهِ وسعادَتِهِ. وبسببِهِ يُصابُ بأخطرِ الأمراضِ من النفاقِ والرياءِ، والشكِّ والريبةِ، وسوءِ الظّنِّ، والحسدِ والغيرةِ، والكِبرِ والعُجْبِ، والحقدِ والغلِّ، والقنوطِ واليأسِ منْ رحمةِ اللهِ، والتعلُّق بغيرِ اللهِ، والخوفِ من غيره جلَّ وعلَا، وازدراءِ...
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ ربّ العالمين، الرّحمنِ الرّحيمِ، مالكِ يومِ الدّينِ والعاقبةُ للمتقينَ ولا عُدوانَ إِلّا على الظالمينَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ الله وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ: فَاِتَّقُوا اللهَ -أَيُّهَا المُؤَمِّنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ- (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُون)[الحشر: 18].
عبادَ الله: ذكرتُ في جمعةٍ ماضيةٍ أهميةَ القلبِ وعظيمَ شأنِهِ ومكانتِهِ، وأثرَهُ فِي صَلَاح العبدِ وفلاحِهِ، وأنّهُ مَلِكُ الَجوارحِ وراعيهَا وقائدُهَا وهي تبعٌ لهُ وآلاتٌ تصدعُ بأمرِهِ، وتحتَ سيطرتِهِ وقهرِهِ، وحيثما كانَ القلبُ كانت الجوارحُ تبعاً له في كلِّ شيء.
واليومَ -بحولِ اللهِ وتوفيقِهِ- أتكلمُ عن بعضِ الأمراضِ والأدواءِ التي تصيبُهُ وسبُلِ علاجِهَا، لعلَّ اللهَ أنْ يبصّرنا بها، ومن ذلك: أولاً: فتنُ الشبُهَاتِ والشّهَوَاتِ: وهي من أشدِّ ما يكونُ على القلبِ، وخاصةً ما يعرِضُ في زمانِنَا هذا عن طريقِ وسائلِ الإعلامِ بجميعِ أنواعِهَا.
إن كل شبهةٍ وشهوةٍ تُعرضُ على قلبٍ جاهلٍ بأمرِ دينِهِ فهوَ إلى الهلاكِ أقربُ، يقولُ صلّى الله عليهِ وسلّمَ: "تُعرَضُ الفتنُ علَى القلوبِ كالحصيرِ عودًا عودًا فأيُّ قلبٍ أُشرِبَها نُكِتَ فيهِ نُكتةٌ سَوداءُ، وأيُّ قلبٍ أنكرَها نُكِتَ فيهِ نُكتةٌ بَيضاءُ حتَّى تصيرَ علَى قلبَينِ علَى أبيضَ مِثلِ الصَّفا فلا تضرُّهُ فتنةٌ ما دامتِ السَّماواتُ والأرضُ، والآخرُ أسوَدُ مُربادًّا كالكوزِ مُجَخِّيًا لا يعرِفُ معروفًا ولا ينكرُ مُنكرًا إلَّا ما أُشرِبَ مِن هواهُ"(رواه مسلم).
ثانياً: الجهل: وهوَ منْ أخطرِ الأمراضِ وأشدَّها فتكاً بالقلبِ، وكيفَ يسيرُ قلبٌ إلى خالقِهِ وهُو يجهَلُ أسبابَ حياتِهِ وسعادَتِهِ.
وبسببِهِ يُصابُ بأخطرِ الأمراضِ من النفاقِ، والرياءِ، والشكِّ والريبةِ، وسوءِ الظّنِّ، والحسدِ والغيرةِ، والكِبرِ، والعُجْبِ، والحقدِ، والغلِّ، والقنوطِ واليأسِ منْ رحمةِ اللهِ، والتعلُّق بغيرِ اللهِ، والخوفِ من غيره جلَّ وعلَا، وازدراءِ الآخرينَ والسخريةَ بهم، إلى غيرِ ذلكَ منَ الأمراضِ الخفيّةِ التي تصيبُهُ وهو لا يشعرُ بسببِ جهلِهِ بِهَا.
ثالثاً: الهوى: وهو السيرُ وراءَ ما تهوى النفسُ وتشتهي، أو النزولُ على حكمِ العاطفةِ من غيرِ تحكيمِ العقلِ أو الرجوعِ إلى شرعٍ أو تقديرٍ لعاقبة، قال الشعبي -رحمه الله-: "إنما سمي الهوى هوى؛ لأنه يهوي بصاحبه في النار".
وهو من أشدِّ أمراض القلب، فهو يُعمي البَصَرَ والبَصِيرَةَ، فلا يَرى صاحبُهُ إلا ما يُمْلِيهِ عليهِ هواهُ، فيتَّخِذهُ إلهاً من دون اللهِ وهو لا يدري، قال جل وعلا: (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً)[الفرقان: 43].
رابعاً: الغفلةُ عن ذكرِ اللهِ: وهي منْ أقوى أسبابِ تسلّطِ الشيطانِ على القلبِ، يقولُ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: "وآمُركم أن تَذكُروا اللهَ؛ فإنَّ مَثلَ ذلك كمَثلِ رجلٍ خرَج العدوُّ في أثَرِه سِراعًا حتَّى إذا أتى على حِصنٍ حَصينٍ، فأحرَز نفسَه منهم، كذلك العبدُ لا يُحرِزُ نفسَه مِن الشَّيطانِ إلَّا بذِكْرِ اللهِ"(رواه الترمذي، وصححه الألباني).
خامساً: المعاصي والذنوبُ: فإنّ لها ضررًا في القلبِ كضررِ السُّمُومِ في البدنِ، وما في الدنيا والآخرةِ منْ بلاءٍ، ولا شرٍّ، ولا داءٍ إلا وهي سببٌ فيه، وهي سَبَبٌ في جميعِ المصائِبِ والمِحَنِ، وما حلّت في نفوسٍ إلا أفسدتها، ولا في قلوبٍ إلا أعْمَتها، ولا في أجسادٍ إلا عذّبتها، ولا في ديارٍ إلا أهلكتْها، ولا في أمةٍ إلا أذلّتها، وهي سببٌ للحرمانِ من كلِّ خيرٍ، وسبيلٌ للوقوعِ في كلِّ شرٍّ.
سادساً: الرِّفقةُ السيئة: فكلُّ قرينٍ بالمقارِن يَقتدي، يقولُ صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُ الجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالجَلِيسِ السَّوْءِ، كَمَثَلِ صَاحِبِ المِسْكِ وَكِيرِ الحَدَّادِ، لاَ يَعْدَمُكَ مِنْ صَاحِبِ المِسْكِ إِمَّا تَشْتَرِيهِ، أَوْ تَجِدُ رِيحَهُ، وَكِيرُ الحَدَّادِ يُحْرِقُ بَدَنَكَ أَوْ ثَوْبَكَ أَوْ تَجِدُ مِنْهُ رِيحًا خَبِيثَةً"(رواه البخاري ومسلم).
سابعاً: أكلُ المالِ الحرامِ: من الرّبَا والرّشوة والغشّ والخداعِ، وغيرِها، فهو يسبّبُ قسوة القلبِ، وعذابَ البَدَنِ في العاجِلِ والآجِلِ.
ثامناً: الانشغالُ بالدُّنْيَا وحطامِهَا: وجعْلُها جُلَّ همِّهِ وقصدِهِ، فهي رأسُ كلُّ فتنةٍ، وبابُ كلِّ شرٍّ، بما جُبِلَتْ عليهِ منَ الشّهَوَاتِ والملذّاتِ والزِّينَةِ، وهي تعوقُ عن السيرِ إلى اللهِ والعملِ للدَّارِ الآخِرَةِ.
أعوذُ باللهِ منَ الشيطانِ الرجيم: (تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِين)[القصص: 83].
باركَ اللهُ لي ولكُم في القرآنِ العظيم ونفعنِي وإيَّاكم بما فيهِ من الآياتِ والذِّكرِ الحكيمِ. أقولُ ما سمعتمْ، فاستغفروا اللهَ يغفرْ لي ولكُم إنَّهُ هو الغفورُ الرّحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على الرسولِ الكريمِ محمدِ بنِ عبدِ اللهِ الذي علَّم أمتَه كلَّ خيرٍ، وحذَّرهم من كلِّ شرٍّ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعدُ: فاتقوا الله -أيها المؤمنون-، واعلموا أنَّ القلبَ لا يصلُحُ ولا يَفْلَحُ ولا ينعمُ ولا يُسَرُّ ولا يَلْتذُّ ولا يَطِيبُ ولا يَسْكُنُ ولا يطمئِنُّ إلا بعبادةِ ربِّهِ وحُبِّهِ والإنَابَةِ إليهِ، ولوْ مَلَكَ الدُّنْيَا ومَا فِيهَا، إذْ هو فقيرٌ إلى ربِّه -سبحانهُ-؛ فهو معبودُهُ ومحبوبُهُ ومطلوبُهُ.
أيُّها المؤمنون: ومنْ أسبابِ صحّة القلبِ وسلامتِهِ من الأمراضِ؛ ما يلي: أولًا: الإيمانُ باللهِ، وتعظيمُه وإجلالُه، وكمالُ الخوفِ منه ورجاؤُهُ ومحبتُهُ؛ وحسنُ الظنِّ بِهِ، والتوكُّلُ عليهِ، وتسليمُ الأمرِ لهُ جَلَّ وعَلَا.
ثانياً: إخلاصُ العملِ لهُ وحدهُ: فلا يقبلُ اللهُ عملَ عبدٍ حتى يكونَ خالصًا لهُ جلَّ وعَلَا، يقولُ اللهُ -تعالى-: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ)[البينة: 5].
ثالثًا: حُسنُ المتابعةِ: بأن يكونَ عملُهُ واعتقادُهُ وِفْقَ مَا أَمَرَ بِهِ رسولُ اللهِ -صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ-، يقولُ اللهُ -تعالى-: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ)[آل عمران:31]، ويقولُ عزّ وجلَّ: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)[الحشر:7].
رابعاً: قراءةُ القرآنِ العظيمِ: وتدبُّرِهِ وفَهْمِ معانِيهِ، والقيام بأوامره ونواهيه، وتحكيمه في جميع شؤون الحياة.
خامساً: الحرصُ على الفرائضِ، والازديادُ من النوافلِ: وكلّمَا حَرِصَ العبدُ على ذلك فاضَ قلبُهُ بنورِ الإيمانِ واليَقينِ، ونالَ معيَّةَ اللهِ وإعانتَه وجودَه وكرمَه.
سادساً: ذكْرُ اللهِ -جلَّ وعلَا- على كلِّ حالٍ: فإنَّه يَجلو صدأَ القلوبِ، ويُذهبُ ما رانَ عليها من الآثامِ والمعاصي والذنوبِ، ويزيدُ الحسناتِ، ويرفعُ الدرجاتِ، ويقرِّبُ من الكريمِ المنَّانِ.
سابعاً: المراقبةُ والمحاسبةُ: وهي من أهمِّ العواملِ لعلاجِ القلبِ واستقامتِهِ، يقولُ ابنُ القيِّمِ: "وهلاكُ النفسِ من إهمالِ محاسبتِهَا، ومن موافقتِها واتباعَ هواها”، ولذلك وَرَدَ في الأثرِ: "الكيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ، وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا، وَتَمَنَّى عَلى اللهِ الأماني".
ثامناً: العلمُ، وتحقيقُ التقوى، والتوبةُ الصّادقةُ، وقيامُ اللّيلِ، وكثرةُ الدُّعَاءِ خاصةً في الثلثِ الأخيرِ من اللّيلِ، وغضُّ البصرِ، وكفُّ الأذى، والإحسانُ إلى الخلقِ، وحبُّ الخيرِ لهم، وأنْ يكونَ همُّه للهِ وفي ذاتِ اللهِ، وأنْ يكونَ أشحَّ بوقتِهِ منْ مَالِهِ، وأنْ يكونَ اهتمامُهُ بتصحيحِ العملِ أكثرَ من اهتمامِهِ بالعملِ ذاتِهِ.
أسألُ اللهَ -جلَّ وعلَا- أنْ يُصْلِحَ قلوبَنا، وأن يقيهَا شرَّ أمراضِهَا.
هَذا، وصلُّوا وسلّموا على الحبيبِ المصطفى والنبيّ المجتبى محمد بن عبد الله فقد أمركم الله بذلك، فقال جل من قائل عليماً: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)[الأحزاب: ٥٦].
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم