عناصر الخطبة
1/ علم الله تعالى الكلي 2/ ثمرات مراقبة الله تعالى 3/ أمور تعين على استشعار رقابة الله تعالىاقتباس
حين يستشعر المرء رقابة الله تهون عليه الدنيا, ويرتبط بالعَليِّ الأعلى, فلو كادته السماوات والأرض كلها فهو مطمئن القلب, تشتد عليه الدنيا فيذكر قول المولى: (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنِا)، فتهون عليه كل شدة؛ تهجم عليه الهموم فيذكر قول الحي القيوم: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزيزِ الرَّحيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حينَ تَقُومُ)، فتنقشع الهموم ..
النفس قد تميل للمعاصي, قد تستهويها الشهوات, قد تروق لها الملذات؛ والشيطان يسعى بجهده ليوقع الناس معه في النار, ويزدادوا من السيئات, والنفس والهوى والشيطان قد تؤز الإنسان إلى العصيان، وتبعده عن محاب الرحمن.
وفي كل هذا فإن النفس حين ترغب المعصية, وتتيسر لها وسائلها, فثمة وازع يزع عنها، وواعظ يردع عن دربها, إنه أمر نحن بحاجة إلى استذكاره كلما علا القلوب رانها, واعترى النفوس ما اعتراها, إنه استشعار مراقبة الله في السر والعلانية, واليقين باطلاعه على الظاهر والباطن.
المخلوق -أيها الكرام- ضعيف جاهل, يسهو وينام, يغفل ويُخدع, يمرض ويموت؛ واللهُ حي لا يموت, المخلوق -أيها الكرام- رقابته قاصرة، ومتابعته ناقصة, إن تنبه يوماً غفل في آخر, أو تيقظ ليلة نام أخرى, لا يعلم المخلوق ما وراء الجدران, ولا يطلع المخلوق على ما في الفؤاد والجنان, لا يعلم المخلوق بما يقضى في الأرض من الإنس والجان, إنه رقيب ضعيف, ومتابِع متابَع, والله وحده الرقيب الحق, يعلم ما يحدث في الأرض بعُد أو قرب.
بل ويعلم ما يسقط في فيافي الأرض، وقعر البحر, ما تسقط من ورقة إلا يعلمها، ولا يولد مولود إلا وبعلمه, ولا يقع في الأرض شيء على اتساع فضائها وتباعد أقطارها، بل ولا في السماء على تعددها وارتفاع بنائها، إلا والله يعلمه، وهو قد كتبه, (وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِى ظُلُمَـاتِ الأرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِى كِتَـابٍ مُّبِينٍ) [الأنعام:59].
الله تَسمى بالرّقيب والحفيظ والعليم والسميع والبصير، وكلها أسماء تدل على رقابة الله الشاملة؛ الله يعلم ما تسره الآن، ولو اجتمع الخلق كلهم، على أن يعلموا ذلك ما قدروا, (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَىْء فِي الأرْضِ وَلاَ فِى السَّمَاء) [آل عمران:5]، (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعْيُنِ وَمَا تُخْفِى الصُّدُورُ) [غافر:19].
يعلم ما ينطوي عليه قلبك بعد أعوام، وأنت لا تعلم ما ينطوي عليه قلبك بعد دقائق أو لحظات! (وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) [يونس:61].
سمْع الله كامل لا يخفى عليه الأصوات وإن دقت, والحديث وإن أُخفي فعلى الله لا يخفى، (مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَـاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُواْ ثُمَّ يُنَبّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ) [المجادلة:7].
قالت عائشة -رضي الله عنها-: تبارك الذي وسع سمعه، والذي لا إله غيره! إني لفي الحجرة، والمجادلة تجادل النبي -صلى الله عليه وسلم- وما بيني وبينها إلا رداء، وأنا يخفى عليّ كثير من كلامها، فأنزل الله: (قَدْ سَمِعَ اللهُ فَولَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا) [المجادلة:1]. (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) [الزخرف:80].
وبصر الله تامٌ لا يغيب عنه شيء في ليل أو في نهار, يكون المرء في جوف الليل وظلماته فيراه البصير ولا تخفى عنه حركاته.
هُو الَّذي يَرى دبيبَ الذّ رّْ *** في الظلُماتِ فوقَ صُمِّ الصَّخْرْ
وسامِعٌ للجهرِ والإِخْفاتِ *** بسَمْعِهِ الواسِعِ لِلأصْواتِ
وَعِلْمُهُ بِما بدا ومَا خَفِي *** أحاطَ عِلْماً بالجَليِّ والخَفِي
وَإِذَا خلوْتَ بِرِيبـةٍ في ظُلْمَةٍ *** والنَّفْسُ داعـيةٌ إلى الطغيانِ
فاسْتَحْيِ مِن نَظَرِ الإلهِ وَقُلْ لَهَا *** إِنَّ الَّذِي خَلَقَ الظلامَ يَرَانِي
وبعد: وماذا يورث في القلب استشعارنا لمراقبة الله؟ أما إن المرء حين يستشعر رقابة الله فإنه لا يستهين بذنوب الخلوات؛ لأنه يعلم أنه تحت نظر رب الأرض والسماوات, فإذا خلا عن الخلق، وغاب عن العين، ونأى عن الديار, وتغرب في الأقطار، تذكر أن الله يراه في كل بلد، وفي كل زمان ومكان.
وإذا تتابعت الغفلة على قلب الإنسان فإنه قد يستحيي من مخلوق ضعيف، ولربما كان صبياً صغيراً، أن يفعل ما لا يليق بحضرته، ولكنه يفعل العظائم! والله -تبارك وتعالى- يراه، ويطلع عليه، وينظر إليه, وبئس المرء يراقب الناس ويستخف برقابة رب الناس؟ وسيرى الأثر حينها عند الله وعند خلقه.
قال أبو الدرداء: ليتّق أحدكم أن تلعنه قلوب المؤمنين وهو لا يشعر، يخلو بمعاصي الله فيُلقي الله له البغض في قلوب المؤمنين. وقال سليمان التيمي: إن الرجل ليصيب الذنب في السر، فيصبح وعليه مذلته. وقال غيره: إن العبد ليذنب الذنب فيما بينه وبين الله تعالى، ثم يجيء إلى إخوانه فيرون أثر ذلك عليه.
وفي الحديث المروي: "لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا، فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا"، قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللَّه! صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ، وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ، قَالَ: "أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ، وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا".
والمرء حين يتذكر رقابة الله حقاً فإنه سيأتي بالعبادات على وجهها، ولن يقصد بها غير وجه ربه؛ لأن الله يعلم ما في قلبه، وسيجازيه على سريرته لا على ما يظهره.
وحين تستقر في القلب رقابة الله فإن المرء لن يقدم على فعل أو قول إلا وفي قلبه كيف سيجيب الله عنه, وقد قال ابن دقيق العيد: مَا تَكَلَّمت كلمة، وَلَا فعلت فعلا، إِلَّا وأعددت لَهُ جَوَابا بَين يَدي الله -عز وَجل-.
حين يستشعر المرء رقابة الله تهون عليه الدنيا, ويرتبط بالعَليِّ الأعلى, فلو كادته السماوات والأرض كلها فهو مطمئن القلب, تشتد عليه الدنيا فيذكر قول المولى: (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنِا) [الطور:48]، فتهون عليه كل شدة, تهجم عليه الهموم فيذكر قول الحي القيوم: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزيزِ الرَّحيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حينَ تَقُومُ) [الشعراء:217-218]، فتنقشع الهموم.
استشعار الموظف برقابة الله تجعله يؤدي عمله على وجهه ولو غاب الرقيب, ولو استشعرنا الرقابة الإلهية لما احتجنا لتكثيف الرقابة البشرية، ولا لمكافحة الفساد؛ لأن كل عاملٍ إنما يتعامل مع الله، وينشد رضاه.
استشعارنا لرقابة الله تجعل المؤمن يطمئن, فما يحدث له من أذى واستهزاء وعنت وابتلاء يراه الله ويراقبه، وعليه سيأجره؛ وإذا رأيت ذل المسلم، وتسلط الظالم، وعدوان الفاجر، فلا تنسَ أن الله يرى؛ وإذا دعوت إلى الله فلم يُستجب لدعوتك وجُعلت الأصابع في الآذان، واستُغشيت الثياب، وزاد الإصرار والاستكبار، فلا تحزن، إن الله يعلم ويسمع ما تقول وما يقال لك.
وحين يراقب الداعية الله يصدق في أفعاله قبل أقواله, وما أجمل تلك العبارة من أحد السلف واعظاً أحد المتكلمين: إذا جلست للناس فكن واعظاً لقلبك ولنفسك، ولا يغرنك اجتماعهم عليك؛ فإنهم يراقبون ظاهرك، والله يراقب باطنك.
الخطبة الثانية:
إذا كان ما مضى هو في أثر المراقبة وتحقيق المراقبة, فإن ثمة أموراً تعين على تحقيق المراقبة في القلوب, وإن من أجلى الأمور تأمُّل المرء في أسماء الله الحسنى, فالله تسمى بالرقيب، وكذلك بالحفيظ، وبالقريب, وبالعليم ، وبالخبير ، وبالشهيد ، وبالمحيط؛ وكلها أسماء لها معانٍ تملأ القلوب إيماناً برقابة الله على عباده.
ويقين العبد أن الأعضاء يوم القيامة ستسأل وتستنطق, وأنها وإن سكتت اليوم على فعالك فالله سينطقها، وأنت تسمع ولا حيلة لك, (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النور:24]، ومع هذا فيعينك على المراقبة حين تتذكر أن الأرض يوم القيامة ستشهد, وستُحدِّث أخبارها فيما عمل فيها من خير أو شر، وأن الملكين يقيِّدان, وهما على ما عمل ابن آدم شاهدان, وأن الله من فوق سماه وفي عليائه يرى ويسمع، كل ذلك معين على المراقبة.
والإكثار من ذكر الله يورث في القلب مراقبة الإله, ويوصل العبد إلى الإحسان، حين يعبد الله كأنه يراه.
وحين يحاسب المرء نفسه على الأفعال والأقوال, ويذكر أن ما يخفيه من عمل أو قول سيظهر -وإن أخفاه- على فلتات اللسان، وحركات الأبدان، فإن هذا يورث مراقبة الله في الخلوات.
وبعد، معاشر الكرام: فثمة كلمة كان أهل العلم يكتب بها بعضهم إلى بعض، ويتواصون بها، وكم نحن بحاجة لأن تملأ جوانحنا، وتستشعرها أفئدتنا! بل قال ابن القيم عنها: لو نقشها العبد في لوح قلبه يقرؤها على عدد الأنفاس لكان ذلك بعض ما يستحقه:
"من أصلح سريرته أصلح الله علانيته, ومن أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس, ومن عمل لآخرته كفاه الله مؤنة دنياه".
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم