مراقبة الله تعالى

سالم العجمي

2024-07-12 - 1446/01/06 2024-07-25 - 1446/01/19
التصنيفات: أحوال القلوب
عناصر الخطبة
1/حياة قلب المسلم 2/عبودية المراقبة 3/أهمية مراقبة الله تبارك وتعالى 4/من فوائد مراقبة الله تعالى 5/مواعظ في حقيقة الدنيا والزهد فيها 6/التوبة المقبولة وعلاماتها.

اقتباس

فعجبًا لمن عاش في هذه الدنيا وكأنه باقٍ إلى طول الأمد، أو أنه سيعيش فيها مخلدًا، فتجده يعمل عمل من لا يرحل عنها، فيخوض في المحرمات، ويُفرّط في الواجبات، ويضحكُ وكأنه أخذ عهدًا من الله ألا يُعذَّب في دار الخلود. وفي كل يوم تراه يزداد ظلمًا لنفسه، وإسرافًا في عمله، ولا يدري لعل الله اطلع على قلبه....

الخُطْبَة الأُولَى:

 

الحمد لله والشكر له على إحسانه العام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تفرَّد بالكمال والتمام، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه هداة الأنام ومصابيح الظلام.

 

أما بعد: فحريّ بالمرء أن يعمل على مراقبة الله -عز وجل- فيما يأتي ويذر، لا سيما ونحن في أزمان تمرُّ كلمح البصر، وتسرع بالأفول سرعة الغيم حين تستدبره الريح.

 

فحياة قلب المسلم في دوام المراقبة لخالقه، والحرص على ما ينفعه من الأعمال الصالحة التي تأتي شاهدةً له يوم القيامة؛ قال -تعالى-: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)[الشعراء: 217 - 220].

 

والمرء ما دام في حال الحياة، فعليه بالاجتهاد بالعمل الصالح، والابتعادِ عن مواطنِ الإثم وأسبابِه، فإنه عما قليل راحل عن هذه الدار، قد فارق اللهو والملذات، وخلَّف الدنيا وراء ظهره، وأقبل على ربه وخالقه؛ (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ)[آل عمران: 30].

 

من أجل ذلك وجب على العبد أن يُراقب أحوالَه ويحصي أعماله ما دام في دار العمل، ولا يمهل حتى يبغته الأجل على حين غرة، وقد قضى عمره بالملهيات، واشتغل عن العمل بالركض خلف متاع الدنيا الزائل حتى مضى وتركه فلم يأخذ منه شيئًا.

 

من أجل ذلك؛ فقد أوصى النبي -صلى الله عليه وسلم- المسلمَ بمراقبة مولاه، وحثّه على ذلك فقال: "اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالِق الناس بخُلق حسن".

 

فيا سعادةَ من أحيا قلبَه بذِكْر الله، ووفَّقه لسلوكِ السبيلِ الموصل إليه -سبحانه-، واستعمله في العمل الصالح الذي يُرضي الله عنه.

 

هل تفكرت في نهاية كلِّ يوم بنعمة الله عليك حيث أمدَّ في عمرك حتى تستعتب إذا كنت مذنبًا، أو تستكثر إذا كنت محسنًا.

 

هل حمدتَ الله حين تصبح وقد أمدَّ بعمرك لتزداد عملاً صالحًا، وقد علمت أنَّ فلانًا قد رحل عن هذه الدنيا وقد كان أحوج ما يكون إلى التزود من الأعمال الصالحة؟

 

هل تفكرت في وقوفك بين يدي الله -سبحانه- يوم القيامة ليس بينك وبينه ترجمان فأعددت لذلك الموقف عدته من العمل الصالح مع حسن الظن بالله؟

 

قال -صلى الله عليه وسلم-: "ما منكم من أحدٍ إلا وسيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدَّم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدَّم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشقِّ تمرة، فإن لم يكن فبكلمة طيبة".

 

إنَّ الواجب على المسلم أن يجتهد في تحصيل الأعمال الذي تُقرِّبه من ربه وخالقه، وكلما كان الزمان مليئًا بالفتن، كان الجهاد لإصلاح النفس أشدَّ وأعظم.

 

والعاقل هو الذي يسعى لتحصيل العمل والإكثار منه في حال حياته، فإذا فاته شيءٌ من أبواب الخير تحسَّر على فواته، وعقَد النيَّة على استحداث عمل صالح آخر يسدُّ به تقصيره، فلا أحد أحرص على نجاة الإنسان من نفسه.

 

وإنما هذه الدنيا دارُ انصرام لا دار دوام، والذي يأمل البقاء فيها دون همٍّ وشقاء، وضنكٍ وبلاءٍ، وفتنٍ ولأْواء، فقد تقحَّم المستحيل.

 

كيف، وهي قد طُبعت على ذلك؟ قال -تعالى-: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي كَبَدٍ)[البلد: 4].

 

لما تُوعد الدنيا به من شرورها *** يكون بكاءُ الطفل ساعةَ يوضعُ

وإلا فما يبكيه منها وإنها *** لأَرْوح مما كان فيه وأوسعُ

إذا أبصر الدنيا استهل كأنما *** يرى ما سيلقى من أذاها ويسمعُ

 

فعجبًا لمن عاش في هذه الدنيا وكأنه باقٍ إلى طول الأمد، أو أنه سيعيش فيها مخلدًا، فتجده يعمل عمل من لا يرحل عنها، فيخوض في المحرمات، ويُفرّط في الواجبات، ويضحكُ وكأنه أخذ عهدًا من الله ألا يُعذَّب في دار الخلود.

 

وفي كل يوم تراه يزداد ظلمًا لنفسه، وإسرافًا في عمله، ولا يدري لعل الله اطلع على قلبه، فكان كمن قال الله -تعالى- عنهم: (أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ)[النحل: 108].

 

فالواجب على المسلم الفطن ألا يغترَّ بالدنيا ويلهيه طول الأمل، فإنه ما دخل في قلبِ عبدٍ إلا أنساه ذكر ربه، وأشغله عن أمر أخراه.

 

لما آلت الخلافة إلى يزيد بن عبد الملك، كتب إليه عمر بن عبد العزيز: "أما بعد: ... فاللهَ الله في أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، فإنك عما قليل ميت، فتدع الدنيا لمن لا يحمدك، وتُفضي إلى مَن لا يعذرك، والسلام".

 

وكتب يزيد بن عبد الملك إلى أخيه هشام: "أما بعد، فإنَّ أميرَ المؤمنين قد بلغه أنك استبطأت حياته، وتمنيت وفاته، ورُمْتَ الخلافةَ، وكتب في آخره:

تمنى رجال أن أموت وإن أَمُت *** فتلك سبيل لستُ فيها بأوحدِ

وقد علموا لو ينفع العلم عندهم *** متى متَّ ما الباغي عليَّ بمخلدِ

منيته تجري لوقتٍ وحتفُه *** يصادفه يومًا على غير موعدِ

فقل للذي يبغي خلاف الذي مضى *** تهيأ لأخرى مثلها فكأنْ قدِ

 

فكتب إليه هشام: "جعل الله يومي قبل يومك، وولدي قبل ولدك، فلا خير في العيش بعدك".

 

وانظروا إلى مَن جمع الدنيا وحيزت له كنوزها، فلم يلبث إلا وقد تحوَّل عنها، وقدم إلى ربه وخالقِه مرتهنًا بعمله، وما قدَّمه في سالفِ أيامه.

 

وعظ عبد الله بن عبد العزيز العمري الرشيدَ يومًا، فقال له وهو واقف على الصفا: "انظر كم حولها من الناس؟ فقال: بشر كثير، فقال: كلٌّ منهم يُسأل يوم القيامة عن خاصة نفسه، وأنت تُسأل عنهم كلهم"، فبكى الرشيد بكاءً كثيرًا، وجعلوا يأتونه بمنديل بعد منديل للدموع.

 

ثم قال له: "يا هارون، إنَّ الرجل ليُسْرِع في ماله فيستحق الحَجْر عليه، فكيف بمن يسرع في أموال المسلمين كلهم؟!" ثم تركه وانصرف، والرشيد يبكي.

 

وقال الفضل بن الربيع: حججت مع الرشيد فمررنا بالكوفة، فإذا بُهلول المجنون يهذي، فقلت: اسكت، فقد أقبل أمير المؤمنين، فسكت، فلما حاذاه الهودج قال: "يا أمير المؤمنين، إنَّ قدامة بن عبد الله العامري قال: رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- بمنى على جمل وتحته رحل رثٌّ، ولم يكن ثمَّ طرد ولا ضرب ولا إليك إليك".

 

فقلت: يا أمير المؤمنين، إنه بهلول المجنون، فقال: قد عرفته، قل يا بهلول، فقال:

فهب أنْ قد ملكت الأرض طرًّا *** ودان لك العباد فكان ماذا؟

أليس غدًا مصيرك جوف قبر *** ويحثو عليك الترب هذا ثم هذا

 

قال: أجدتَ يا بهلول، أفغيره؟

 

قال: نعم يا أمير المؤمنين، من رزقه الله جمالاً ومالاً، فعفَّ في جماله، وواسى في ماله، كُتِب في ديوان الأبرار.

 

فظن هارونُ أنه يريد شيئًا، فقال: إنا قد أمرنا بقضاء دَيْنك.

 

قال: لا تفعل يا أمير المؤمنين، لا تقضِ دَيْنًا بدَيْن، اردد الحق إلى أهله، واقضِ دَيْن نفسك من نفسك.

 

قال: إنَّا أمرنا أن يجري عليك رزق.

قال: لا تفعل يا أمير المؤمنين، فإنه لا يعطيك وينساني، ولا حاجة لي في جرايتك.

 

ولمَّا علم السلف قدْرَ الدنيا زهدوا بها، وأقبلوا على الآخرة لإيثارهم الباقي على الفاني، فسَعِدت بهم الدنيا، وأثَّرت موعظتهم في القلوب.

 

كان الأوزاعي -رحمه الله- كثير العبادة، حسن الصلاة، وكان يقول: من أطال القيام في صلاة الليل هوَّن الله عليه طول القيام يوم القيامة، وقد أخذ ذلك من قوله -تعالى-: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً * إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلاً)[الإنسان: 26- 27].

 

وقال بعضهم: ما رأيت أحدًا أشدَّ اجتهادًا من الأوزاعي في العبادة، حجَّ فما نام على الراحلة، إنما هو في صلاة، فإذا نعس استند إلى القتب، وكان من شدة الخشوع كأنه أعمى.

 

ودخلت امرأةٌ على امرأة الأوزاعي، فرأت الحصير الذي يصلي عليه مبلولاً، فقالت لها: لعلَّ الصبي بال هاهنا، فقالت: لا، هذا من أثر دموع الشيخ في سجوده، وهكذا يصبح كل يوم.

 

ودخل بعض الزهاد على المنصور، فقال: "إنَّ الله أعطاك الدنيا بأَسْرها، فاشتر نفسك ببعضها، واذكر ليلة تبيت في القبر لم تبت قبلها ليلة، واذكر ليلة تمخض عن يوم لا ليلة بعده، فرقَّ المنصور لقوله، وأمر له بمالٍ، فقال: لو احتجت إلى مالك لما وعظتك".

 

ودخل رجل على المنصور، فأكرمه وعظَّمه وأدناه، وسأله عن أهله وعياله، ثمَّ قال له، عظني، فقرأ عليه أول سورة الفجر إلى قوله -تعالى-: (إنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ)[الفجر: 14]، فبكى المنصور بكاءً شديدًا حتى كأنه لم يسمع بهذه الآيات قبل تلك الساعة، ثم قال: زدني، فقال: إنَّ الله قد أعطاك الدنيا بأَسْرها، فاشتر نفسك ببعضها، وإنَّ هذا الأمر كان لمن قبلك، ثم صار إليك، ثم هو صائر لمن بعدك، واذكر ليلةً تُسفر عن يوم القيامة، فبكى المنصور أشد من بكائه الأول حتى اختلف جنباه، فقال له سليمان بن مجالد: رفقًا بأمير المؤمنين، فقال الرجل: وماذا على أمير المؤمنين أن يبكي من خشية الله -عز وجل-؟

 

ثم أمر له المنصور بعشرة آلاف درهم، فقال: لا حاجة لي فيها، فقال المنصور: والله لتأخذنها، فقال: والله لا آخذها.

 

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم وبارك وأنعم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

أما بعد: فإنَّ من سعادة العبد أن يوفِّقه الله إلى التوبة النصوح، فيسلك طريقها، ويخلص من رقِّ الهمّ والشقاء، قال -تعالى-: (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ)[الشورى: 25].

 

هذا وإنَّ للتوبة المقبولة علامات: منها أن يكون حالُ العبد بعد التوبة خيرًا مما قبلها، وأن يبقى الخوفُ مصاحبًا له فلا يأمن مكرَ الله طرفة عين، ويستمرُّ خوفه إلى أن يسمعَ قول الرسل إذا جاءوا لقبض روحه: (أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ)[فصلت: 30]، فهنا يزول الخوف.

 

ومن علاماتها: انخلاعُ القلب وتقطعُه ندمًا وخوفًا، وهذا على قدر عظم الجناية وصغرها، ولذا قال سفيان بن عيينة في قوله -تعالى-: (لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ)[التوبة: 110]، قال: تقطُّعها بالتوبة.

 

ولا ريب أنَّ الخوف الشديد من العقوبة يوجب انصداعَ القلب وخوفَه وانخلاعه، وهذه هي حقيقة التوبة؛ لأنَّه يتقطع قلبه حسرةً على ما فرط منه، وخوفًا من سوء العاقبة، فمن لم يتقطع قلبه في الدنيا على ما فرط منه حسرة وخوفًا، تقطَّع قلبه في الآخرة إذا حقت الحقائق، وعاين ثوابَ المطيعين وعقاب العاصين.

 

ومن علامات التوبة: كسرةٌ خاصة تحصل للقلب لا يشبهها شيءٌ، ولا تكون لغير المذنب، تكسِر القلب كسرةً تامةً تُحيط به من جميع جهاته، وتُلقيه بين يدي ربِّه طريحًا ذليلاً خاشعًا كحال عبدٍ جانٍ فرَّ من سيده، فأُخذ فأُحضر بين يديه، ولم يجد من ينجِّيه من سطوته، ولم يجد منه بُدًّا ولا غَناءً ولا مهربًا، وعلم أنَّ حياتَه وسعادتَه وفلاحَه ونجاحَه في رضا سيده عنه، فيجتمع له في هذه الأحوال كسرةٌ، وذلٌّ، وخضوعٌ، ما أنفعها للعبد، وما أجدى عائدتها عليه، قال يحيى بن معاذ: علامة التائب، إسبالُ الدمعة، وحبُّ الخلوة، والمحاسبة للنفس عند كل همَّة.

 

فللَّه ما أحلى قولَه في هذه الحال: أسألك بعزِّك وذلي إلَّا رحمتني، أسألك بقوتك وضعفي، وبغناك عني وفقري إليك، هذه ناصيتي الكاذبةُ الخاطئة بين يديك، عبيدك سواي كثيرٌ وليس لي سيد سواك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، أسألك مسألةَ المسكين، وأبتهل إليك ابتهال الخاضع الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضرير، سؤال من خضعت لك رقبتُه، ورَغِم لك أنفُه، وفاضت لك عيناه، وذلَّ لك قلبه.

 

هذا ومما لا بدَّ أن يُعلم أنه بالرغم من مقارفة بعض الناس للذنوب إلا أنَّ قلوبهم عامرةٌ بحبِّ الله ورسوله وحبِّ الخير وسبِله، فلما علم الله ما في قلوبهم من الخير وفَّقهم للتوبة للنصوح.

 

تأملوا: قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: إنَّ رجلاً كان على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- كان اسمه عبد الله، وكان يلقَّب حمارًا، وكان يُضْحِك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد جلده في الشراب -أي: الخمر- فأُتي به يومًا، فأمَر به فجُلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه، ما أكثر ما يُؤتَى به، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا تلعنوه، فوالله ما علمتُ إنَّه يحب الله ورسوله".

 

وكان أبو مِحْجَن الثقفي -رضي الله عنه- يشرب الخمر ولطالما جُلِدَ بسبب ذلك، فلمَّا كانت غزوة القادسية شرب الخمر فحبسه سعد بن أبي وقاص -وكان قائدَ المعركة يومئذٍ- وقد أُصيب -رضي الله عنه- بعرق النَّسَا فلا يستطيع ركوب الخيل، فلما اشتد القتال بالمعركة، ونال الكفارُ من المسلمين، وأبو محجن يراقب ذلك كله وهو موثق بقيوده، فتاقت نفسه إلى الجهاد، فأتى إلى سلمى امرأة سعد، فقال: يا سلمى، هل أدلك إلى خير؟ فقالت: وما ذاك؟

 

قال: تحلين قيدي وتعيريني فرس سعد، ولك عهدُ الله عليَّ إن سلمني الله أن أجيءَ حتى أضع رجلي في القيد، وإن قتلت استرحتم مني، فقالت: ما أنا وذاك، فرجع يرفل في قيوده وهو يقول:

 

كفى حَزنًا أن تُرديَ الخيلُ بالقَنا *** وأتركَ مشدودًا عليَّ وثاقيا

إذا قمتُ عنَّاني الحديدُ وأُغلقت *** مصاريعُ دوني قد تصم المناديا

وقد كنت ذا مال كثير وإخوة *** فقد تركوني واحدًا لا أخا ليا

فلله عهدٌ لا أخيس بعهده *** لئن فُرِّجَت ألا أزورَ الحوانِيا

 

فقالت سلمى: إنِّي استخرت الله، ورضيت بعهدك، فأطلقته وأعطته البلقاء فرسَ سعد، فاقتاد الفرس، فأخرجها من باب القصر وركبها، حتى إذا كان بحيال الميمنة كبَّر، ثم حمل على ميسرة القوم يلعب برمحه وسلاحِه بين الصفين، ثم رجع من خلف المسلمين، ثم بَدَر أمام الناس، وجعل لا يحمل على رجل حتى يقتله ويدق صلبه، وكان يقصف الناس ليلتئذٍ قصفًا منكرًا، وتعجَّب الناس منه، وهم لا يعرفونه ولم يروه من النهار، فنظر إليه سعد وجعل يتعجَّب ويقول: من ذاك الفارس؟

 

فلم يلبثوا إلا يسيرًا حتى هزمهم الله، ورجع أبو محجن، وردَّ السلاحَ، وجعل رجليه في القيود كما كان، فجاء سعدٌ، فقالت له امرأته: كيف قتالكم؟ فجعل يخبرها ويقول: لقينا، ولقينا، حتى بعث الله رجلاً على فرس أبلق، فلولا أنِّي تركْتُ أبا محجن في القيود لقلتُ إنَّها بعضُ شمائله، فقالت: واللهِ إنَّه أبو محجن، كان من أمره كذا وكذا، وقصَّت عليه قصَّته، فدعا به فحلَّ قيودَه، وقال: أرجو ألا نجلدك على الخمر أبدًا، فقال أبو محجن: وأنا واللهِ لا أشربُها أبدًا.

 

هذا وإنه لا أسوأ حالاً ممن استعبده هواه، ولا أخسر صفقةً ممن باع آخرته بدنياه، قد شملت الغفلةُ قلبَه، وسترت الجهالة عنه عيبه.

 

وها هي صوارمُ الموت بين الناس لامعة، وقوارعُه بهم واقعة، وفجائعُه لعذرهم قاطعة، وسهامه فيهم نافذة، وأحكامه بنواصيهم آخذة، والسعيد من قطع الطمع في بقاء الأبد، وأناب إلى ربِّه الواحد الصمد، لعلمه أنَّ الموت له بالرصد.

 

المرفقات

مراقبة الله تعالى.doc

مراقبة الله تعالى.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات