اقتباس
ويُلحَظ في خطاب النبي -صلى الله عليه وسلم- لغيره مراعاته للعوامل المؤثرة في شخصية المخاطَب، ويَبرز منها: ديانته، ومستوى تديُّنه، وبيئته التي عاش فيها واكتسب طباعها، ومنزلته الاجتماعية أو الوظيفية التي تضفي عليه طابعاً معيَّناً، وجنسه (ذكراً أو أنثى) وعُمُره (كهلاً أو شاباً أو طفلاً) وصفاته السلوكية التي يتصف بها..
إذا كان الداعية إلى الله مأموراً ببلاغة القول، وقد قال الله -عز وجل- لنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-: (وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا)[النساء:63]؛ فإن البلاغة مدارها على رعاية المتكلم في كلامه الفصيح لمقتضى الحال. و(الحال) هي مجموعة الأمور التي تحيط بالكلام وتؤثِّر فيه، فتدعو إلى التكلم على وجه مخصوص؛ بحيث يكون للكلام خصوصية زائدة على أصل المراد، وهذه الخصوصية هي (مقتضى الحال)؛ فـ (الحال) في المخاطَب هي الإنكار، و(مقتضى الحال) هو تأكيد الكلام.
وللعرب وأهل العلم والبلاغة والأدب مقالات في شأن رعاية مقتضى الحال، من ذلك المقولة المشهورة عن العرب: "لكل مقام مقـال"، وفيهـا قال الحطيئـة لعمـر بن الخطـاب -رضي الله عنه-: تَحنَّـن علَيَّ هداك المليكُ *** فإنَّ لكلِّ مقامٍ مقالاً
وكلما كان المرء مراعياً في مخاطَباته وكتاباته لبلاغة الكلام ومقتضيات الأحوال كان أسَدَّ قولاً، وأكثر تأثيراً، وأقوى إقناعاً، وأقدر على التواصل، وأقرب للقبول، وأبعد عن عثرات الكلام وسقطاته. مع التنبيه إلى أن مطابقة مقتضى الحال أمر نسبي؛ فلا يمكن لبشر أن يحيط بالأحوال جميعها، بل لا يمكن في الحال الواحدة أن يحيط بها ويدرك تمامها؛ فإن هذا لا يكون إلا لله الخبير القدير. قال تعالى: (ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْـحِكْمَةِ وَالْـمَوْعِظَةِ الْـحَسَنَةِ)[النحل:125].
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: "بالحكمة؛ أي: كل أحد على حسب حاله وفَهْمِه وقوله وانقياده"(تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان).
ويُلحَظ في خطاب النبي -صلى الله عليه وسلم- لغيره مراعاته للعوامل المؤثرة في شخصية المخاطَب، ويَبرز منها: ديانته، ومستوى تديُّنه، وبيئته التي عاش فيها واكتسب طباعها، ومنزلته الاجتماعية أو الوظيفية التي تضفي عليه طابعاً معيَّناً، وجنسه (ذكراً أو أنثى) وعُمُره (كهلاً أو شاباً أو طفلاً) وصفاته السلوكية التي يتصف بها.
1- مستوى التدين: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يُلين القول للأعراب، ثم هو قد يشتد في القول على بعض أصحابه الأقربين، ومن ذلك حديث أسامة -رضي الله عنه- الذي يقول فيه: بعثَنَا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الحُرَقَة فصبَّحنا القوم، فهزمناهم، ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلاً منهم، فلما غشيناه قال: "لا إله إلا الله"، فكف الأنصاري، فطعنته برمحي حتى قتلته، فلما قَدِمنا بلغ النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يَا أُسَامَةُ! أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ: لا إِلَهَ إِلا الله؟" قلت: "كان متعوذاً".
وفي رواية قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أَفَلا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لا؟" قال أسامة: "فما زال يكررها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم"(أخرجه البخاري: [4269 و6872]، ومسلم: [96]).
قال القرطبي: "وتكرار ذلك القول إنكار شديد، وزَجْر وَكِيْد، وإعراض عن قبول عذر أسامة"(المفهم لما أشكل من كتاب مسلم).
ومن ذلك ما رواه جابر -رضي الله عنه- أن معاذاً -رضي الله عنه- كان يصلي مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم يأتي قومه فيصلي بهم الصلاة. فصلى ليلة مع النبي -صلى الله عليه وسلم- العشاء، ثم أتى قومه فأمَّهم، فافتتح بسورة البقرة فانحرف رجل فسلَّم، ثم صلى وحدَه صلاة خفيفة، فبلغ ذلك معاذاً، فقال: "إنه منافق"، فبلغ ذلك الرجلَ فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يا رسول الله! إنا قوم نعمل بأيدينا، ونسقي بنواضحنا، وإن معاذاً صلى بنا البارحة، فقرأ البقرة، فتجوزت، فزعم أني منافق"، فأقبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على معاذ، فقال: "يَا مُعَاذُ! أَفَتَّانٌ أَنْت؟ -أَوْ: أَفَاتِنٌ؟ ثَلاثَ مِرَارٍ-، فَلَوْلا صَلَّيْتَ بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ، وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا، وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى"(أخرجه البخاري: [705 و6106] ، ومسلم: [465]).
ولعل توجيه الخطاب إلى معاذ -رضي الله عنه- مع تقديم النداء في مقام الإنكار، واختيار صيغة المبالغة (فَتَّان) في الرواية المشهورة، وتكرار القول ثلاث مرات، لعله ليوقع في نفس معاذ -رضي الله عنه- عِظَم ما ارتكبه، مع أمْـنِ جانب معـاذ -رضي الله عنه- أن يرتد أو يتردد، وهو من خاصة أصحاب الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
2- نوع الديانة: يتـأثر الخطـاب بديانة المخاطَب التي يدين بهـا، ويظهـر مثلاً في خطـابه لليهـود تعظيـمُ الله -عز وجل- وتنزيهُـه، والتأكيـد على نبوته -صلى الله عليه وسلم- وصِدْق رسالته، وهذه المعاني يبرز خلافُها لدى يهود؛ فهم ينسبون النقائص والقبائح إلى الله -عز وجل- كقولهم: (إن الله فقير ونحن أغنياء)... وغيرها، تعالى الله عما يقولون علوّاً كبيراً.
كما يراعي صلى الله عليه وسلم ما عليه يهود من صفات الكذب والمكر والخداع، التي صارت فيهم كالجبِلَّة والديانة، ويأتي الخطاب مع اليهود يحمل معه قوة الحق وقوة الأسلوب؛ لأن اليهود أهل عناد واستكبار. ومن أمثلة ذلك:
أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لـمَّا دخل خيبر غازياً، وكان أهلها يهوداً قال لـمَّا رآهم: "اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ. خَرِبَتْ خَيْبَرُ..."(أخرجه البخاري: [610]، ومسلم: [1365]) وجملة التكبير المكررة بهذه الصيغة الموجَزة التي تقدَّم فيها لفظ الجلالة (الله) لتُشعر بكمال التنزيه لله -سبحانه وتعالى- وتأكيده.
ومن ذلك حديث البراء ابن عازب -رضي الله عنه- قال: مُرَّ على النبي -صلى الله عليه وسلم- بيهودي مُحمَّماً مجلوداً فدعاهم صلى الله عليه وسلم فقال: "هَكَذَا تَجِدُونَ حَدَّ الزَّانِي فِي كِتَابِكُمْ؟" قالوا: "نعم!" فدعا رجلاً من علمائهم، فقال: "أَنْشُدُكَ بِاللهِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى؛ أَهَكَذَا تَجِدُونَ حَدَّ الزَّانِي فِي كِتَابِكُمْ؟" قال: "لا. ولولا أنك نشدتني بهذا لم أُخبِرك، نجده الرجم"(أخرجه مسلم: [1700]).
ويُلحظ هنا الاختلاف بين خطاب العامة والعالِم؛ فالعالم سأله النبي -صلى الله عليه وسلم- كما سأل العامة؛ لكنه قدَّم بين يدي سؤاله له استنشاداً بالله -عز وجل- تذكيراً له ووعظاً، أما العامة فلم يستنشدهم؛ لأن العالم يردعه علمه عما يسوء إذا ذُكِّر ووُعِظ، خصوصاً أن علماء اليهود يدركون صدق النبي -صلى الله عليه وسلم- فإذا اجتمع هذا وذاك في مثل هذا الموقف؛ فإنه يغلب أن هذا العالم سيرتدع عن الكذب، وقد حصل، فأجاب بالصدق.
أما في خطابه للنصارى؛ فنجد النبي -صلى الله عليه وسلم- يدعوهم إلى العبودية ويؤكد لهم وحدانية الله وألوهيته، وعدم الإشراك به. وخطابه لهم فيه رقة لا تكون مع يهود، وقد يكون ذلك لِـمَا قاله الله -سبحانه- فيهم: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ)[المائدة:82-83].
ومن خطاب النبي -صلى الله عليه وسلم- للنصارى الذي تظهر فيه تلك الخصائص كتابه -صلى الله عليه وسلم- إلى هرقل وقومه، وفيه: "بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللهِ وَرَسُولِهِ، إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ. سَلامٌ عَلَى مَن اتَّبَعَ الْهُدَى. أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الإِسْلامِ أَسْلِمْ تَسْلَمْ، وَأَسْلِمْ يُؤْتِكَ اللهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ؛ فَإِنْ تَوَلَّيْتَ، فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الأرِيسِيِّينَ"(أخرجه البخاري: [7 و2941 و4553]، ومسلم: [1773]).
3- البيئة: للبيئة تأثير كبير في تكوين شخصية المرء، وتظهر رعاية النبي -صلى الله عليه وسلم- لهذا العامل المؤثِّر في اختياره -صلى الله عليه وسلم- الدعاء على كفار مكة في الحرم؛ لما للحرم من مكانة خاصة في نفوس أهل الجاهلية، ويرون أن الدعـوة فيه لا تُرَدُّ، كمـا روى عبـد الله ابن مسعود -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يصلي عند البيت، وأبو جهل وأصحاب له جلوس، إذ قال بعضهم لبعض: "أيكم يجيء بسلى جزور بني فلان فيضعه على ظهر محمد إذا سجد؟" فانبعث أشقى القوم فجاء به، فنظر حتى سجد النبي -صلى الله عليه وسلم- وَضَعه على ظهره بين كتفيه، وأنا أنظر لا أغني شيئاً، لو كان لي منعة! قال: فجعلوا يضحكون ويحيل بعضهم على بعض، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- ساجد لا يرفع رأسه، حتى جاءته فاطمة، فطرحت عن ظهره، فرفع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأسه، ثم قال: "اللَّهُمَّ! عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ" ثلاث مرات، فشق عليهم؛ إذ دعا عليهم. قال: وكانوا يرون أن الدعوة في ذلك البلد مستجابة.
ومنذ أن بعث الله -عز وجل- رسوله -صلى الله عليه وسلم- والمشركون يعادونه ويسبُّونه ومن معه من المسلمين؛ فما كان منـه -صلى الله عليه وسلم- إلا أن اختار أشد الكلام عليهم وقعاً وأنفذَه ذِكراً وسَيراً بين العرب؛ فدعا شعراء المسلمين وخاصة الأنصار إلى هجائهم، كما روت عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "اهْجُوا قُرَيْشاً؛ فَإِنَّهُ أَشَدُّ عَلَيْها مِنْ رَشْقٍ بِالنَّبْلِ" قال حسان: "والذي بعثك بالحق! لأَفْرينَّهم بلساني فري الأديم". قالت عائشة: فسمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول لحسان: "إِنَّ رُوْحَ الْقُدُسِ لا يَزَالُ يُؤَيِّدُكَ مَا نَافَحَتَ عَن اللهِ ورَسُولِه" وقالت: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "هَجَاهُمْ حَسَّانُ، فَشَفَى وَاشْتَفَى"(أخرجه مسلم: [2490]).
ولعله أَمَر الأنصار بهذه المهمة؛ لأنه لا يربطهم بقريش نَسَب فيضعفوا في هجائهم، كما أنهم هم الذين آووا الرسول -صلى الله عليه وسلم- واستماتوا في نصرته؛ فنصروه بأيديهم؛ فحق لهم نصره بألسنتهم.
ومن مراعاة البيئة اختيار الألفاظ والتعبيرات منها؛ ويظهر هذا جلياً في الصور البيانية التي لا تخرج عن عناصر البيئة التي يعيش فيها المخاطَبون، ومن أمثلة ذلك:
تصوير حدود العبد في الحلال والحرام وما بينهما من المشتبهات بصورة الراعي مع الحمى، وتصوير القائم على حدود الله أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر، والواقع فيها بصورة قوم في سفينة في البحر، والتصوير بجبل أُحُد في أكثر من صورة لبيان عِظَمِ الشيء، والتشبيه بالإبل.
ومن ذلك تخصيص المخاطَب ببعض المنهيات؛ لكونها مما اعتاده وكَثُر تعاطيه لها في بيئته التي يعيش فيها، ومن ذلك مبايعته -صلى الله عليه وسلم- لرهط قال لهم فيها: "أُبَايِعُكُمْ عَلَى أَنْ لا تُشْرِكُوا بِاللهِ شَيْئاً، وَلا تَسْرِقُوا، وَلا تَزْنُوا، وَلا تَقْتُلـوا أَوْلادَكُـمْ، وَلا تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَـهُ بَيْنَ أَيْدِيكُـمْ وَأَرْجُلِكُـمْ، وَلا تَعْصُونِي فِي مَعْرُوفٍ"(أخرجه البخاري: [18 و6801]، ومسلم [1709]).
ولما نزل قول الله -عز وجل-: (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ)[الشعراء:214]، خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى صعد الصفا، فهتف: "يَا صَبَاحَاهْ!"(أخرجه البخاري: [4770 و4801]، ومسلم [208]). وصعود الجبل والنداء بمثل: (يا صباحاه!) عادة اعتادوها في الأمر الجلل، فصنع النبي -صلى الله عليه وسلم- مثـل ما اعتادوه في بيئتهم، إشعاراً بخطر ما يريده ويدعوهم إليه؛ ولذا أقبلوا عليه واجتمعوا إليه.
ومما يُلحظ مراعاةً للبيئة أيضاً: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يراعي في خطابه طبيعة اللين والرِّقة لدى الأنصار، وطبيعة الغلظة والجفاء والجهل لدى الأعراب.
4- المنـزلة: منزلة المخاطَب -سواء أكانت سياسية أم وظيفية أم اجتماعية أم غيرها- لها أثر في رعاية المتكلم له في خطابه، وهذا جانب قرر القرآن الكريم رعايته. قال سبحانه: (لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضًا)[النور:63].
ومن ذلك ما قاله الله -عز وجل- لموسى وهارون -عليهما السلام- حين أرسلهما إلى فرعون: (اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي . اذْهَبَا إلَى فِرْعَوْنَ إنَّهُ طَغَى . فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى)[طه:42-44]، فبيَّن الله -عز وجل- لهما حاله، وكيف يخاطبانه بما يناسب هذه الحال.
وفي رسائله -صلى الله عليه وسلم- إلى الملوك والرؤساء نلحظ تأثير هذا الجانب جلياً في وصفه للمرسَل إليهم، كما في رسالته إلى هرقل: "مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ"(أخرجه البخاري: [7]، ومسلم: [1773])، وفي رسالته إلى المقوقس قال: "مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الْـمُقَوقِسِ عَظِيمِ القِبْطِ".
قال النووي في رسالة هرقل: "لم يقل: إلى هرقل فقط، بل أتى بنوع من الملاطفة، فقال: "عظيم الروم" أي الذي يعظمونه ويقدِّمونه، وقد أمر الله -تعالى- بإلانة القول لمن يُدعى إلى الإسلام، فقال تعالى: (ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْـحِكْمَةِ وَالْـمَوْعِظَةِ الْـحَسَنَةِ)[النحل:125] وقال تعالى: (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا)[طه:44] وغير ذلك"(شرح صحيح مسلم: 12/108)، وقال ابن حجر: "لم يخلِّه من إكرام لمصلحة التألُّف"(فتح الباري: 1/38).
ويختار النبي -صلى الله عليه وسلم- في رسائله إلى الملوك الألفاظ التي تُشعِرهم بالاطمئنان على مُلْكهم إذا أسلموا ترغيباً لهم في الإسلام، ويظهر ذلك في رسالة النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى هرقل؛ حيث نلحظ معنى (السلام) يتكرر في نص الرسالة ست مرات بدءاً من مطلعها إلى ختامها (سلام، الإسلام، أسلم، تسلم، أسلم، مسلمون) وهذه الكلمات تصرِّح وتلمِّح وتوحي إلى هرقل بأن المقصود هو الإسلام، وأما مُلْكه فباق إن أسلم.
ومن ملاطفته -صلى الله عليه وسلم- ما خاطب به ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة حينما جيء به أسيراً إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ورُبط في المسجد؛ فكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يمرُّ به ويقول له: "مَـاذَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟" كرر ذلك ثلاث مرار في ثلاثة أيام، فلما كان اليوم الثالث قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ"؛ فانطلق إلى نخل قريب من المسجد، فاغتسل، ثم دخل المسجد (أخرجه البخاري: [462 و4372]، ومسلم: [1764]).
قال النووي: "قوله -صلى الله عليه وسلم-: "مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟" وكرر ذلك ثلاثة أيام، هذا من تأليف القلوب، وملاطفة لمن يرجى إسلامه من الأشراف الذين يتبعهم على إسلامهم خَلْق كثير"(شرح صحيح مسلم: 12/89).
5- الجنس والعمر: ومن ذلك: أنه حينما يخاطب النساء؛ فإنه يناديهن ويصفهن بما يدل على وَصْف الأنثى إذا كان الخطاب مختصاً بهن، من مثل قوله: "يا معشر النساء!... يا نساء المسلمات!...".
ولما طلب النساء منه أن يجعل لهُنَّ يوماً يخصهن بالحديث، وَعَدَهُنَّ يوماً لقيهُنَّ فيه، فوعظهن وأمرهُنَّ، فكان مما قال لهن: "مَا مِنْكُنَّ مِن امْرَأَةٍ تُقَدِّمُ بَيْنَ يَدَيْهَا مِنْ وَلَدِهَا ثَلاثَةً لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ إِلا كَانُوا لَهَا حِجَاباً مِن النَّارِ"(أخرجه البخاري: [101 و102 و7310]، ومسلم: [2634])، وهذا الحديث خاطب النبي -صلى الله عليه وسلم- بمثله المسلمين عامة، والرجال خاصة؛ ففي البخاري عن أنس -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَا مِن النَّاسِ مِنْ مُسْـلِمٍ يُتَوَفَّـى لَـهُ ثَلاثٌ لَمْ يَبْلُغُـوا الْحِنْثَ إِلا أَدْخَلَهُ اللهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ إِيَّاهُمْ"(أخرجه البخاري: [1248])، قال ابن حجر في حديث النساء: "إنما خص المرأة بالذكر؛ لأن الخطاب حينئذٍ كان للنساء، وليس له مفهوم لما في بقية الطرق"(فتح الباري: 3/121).
ويراعي النبي -صلى الله عليه وسلم- في خطابه حال الأنثى حين يحصل لها ما يختص به النساء من الحيض وما يصحبه من تغيُّرات واضطرابات لدى الأنثى، ومن ذلك ما ورد في حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: خرجنا لا نرى إلا الحج، فلما كنا بسَرِف حضت، فدخل عليَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنا أبكي، فقال: "مَا يُبْكِيْكِ؟" فقلت: "والله! لوددت أني لم أكن خرجت العام". قال: "مَا لَكِ أَنَفِسْتِ؟" وفي رواية: "مَا لَكِ؟ لَعَلَّكِ نَفِسْتِ" قلت: "نعـم!" قـال: "إِنَّ هَـذَا أَمْرٌ كَتَبَـهُ اللـهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ، فَاقْضـي مَا يَقْضِي الْحَاجُّ، غَيْرَ أَنْ لا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِي"(أخرجه البخاري: [294]، ومسلم: [1211].
وسَرِف: بفتح السين، وكسر الراء، موضع قرب مكة، بين وادي فاطمة والتنعيم)، وفي حديث أم سلمة قالت: بينما أنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مضطجعة في الخميلة، إذ حضت فانسللت فأخذت ثياب حيضتي، فقال: "مَا لَكِ أَنَفِسْتِ؟" قلت: "نعم!" فدعاني فاضطجعت معه في الخميلة (أخرجه البخاري: [298]، ومسلم: [296]).
في قوله -صلى الله عليه وسلم-: "نَفِسْتِ" عدول عن التعبير بـ (الحيض) إلى التعبير بـ (النفاس) مع أن التعبير المعدول عنه هو الأشهر عند المخاطبة في التعبير عن حالها، وهو تعبير القرآن أيضاً، وعبَّر به أيضاً النبي -صلى الله عليه وسلم- في أحاديث أُخْرى؛ لكنْ فَرْق بين خطاب موجَّه إلى امرأة حصل لها الحيض، وأخرى لم يحصل لها ويبيَّن لها أحكام الحيض مجردة عن أي حالة نفسية تقع فيها.
أما التي حصل لها الحيض فهي تعيش حالة من التغيرات والاضطرابات النفسية والعقلية والجسدية تؤدي إلى هبوط نفسِيٍّ وعقليٍّ دون المستوى الطبعي، تكون المرأة فيه أشبه بالمريضة؛ فتحتاج إلى رعاية وعَطْف وحنان، وهذا الذي حصل من النبي -صلى الله عليه وسلم- حيث خاطب زوجتيه بخطاب رقيق، فيستفهم بهمزة الاستفهام قائلاً: "أَنَفِسْتِ؟" أو تأتي العبارة بصورة الترجي توقعاً لحصول الأمر: "لَعَلَّكِ نَفِسْتِ" واختار لفظة تؤدي المعنى لكن من مادة أخرى تناسب الحال؛ إذ المادة (ن ف س) تتكون من حروف أسهل مخرجاً ونطقاً من حروف مادة (ح ي ض) فخروج اللفظة سيكون هادئاً رقيقاً، يُشعِر باللين واللطف، وربما كان لهذه اللفظة إيحاء بمعانٍ أخرى تشاركها في المادة كالتنفس والتنفيس... وغيرهما، وهي معاني إيجابية، لا توحي بها لفظة (الحيض) التي صارت لها دلالة مشهورة تأنف منها الأنثى كثيراً. ويُتْبِع النبي -صلى الله عليه وسلم- استفهامه لعائشة -رضي الله عنها- بخبر مؤَكَّد يريد به تسليتها وتخفيف مصابها، فيقول: "إِنَّ هَذَا أَمْرٌ كَتَبَهُ اللهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ؛ فَاقْضِي مَا يَقْضِي الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِي".
ومن الألفاظ التي اختارها النبي -صلى الله عليه وسلم- قوله: "بَنَاتِ آدَمَ": أما (بنات) فلعله لأجل إضافتها إلى (آدم) أو لكون عائشة -رضي الله عنها- لا زالت شابة صغيرة، ولعل إضافة (بنات) بصيغة الجمع إلى (آدم) ليشمل جميع الخلق من النساء بلا استثناء نساء قوم أو دين، وهذا فيه تسلية لها؛ لأن النفس البشرية تتعزى وتتسلى حينما ترى من يشاركها مصابها وهمومها؛ فلا تكون وحيدة المصاب حينئذٍ.
ومع أن الغرض من خطاب النبي -صلى الله عليه وسلم- لزوجيه -رضي الله عنه-ما هو تسليتهما والتخفيف عنهما مما وقعتا فيه، إلا أنه يُلحظ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- اختلف أسلوبه بين خطاب عائشة وخطاب أم سلمة، -رضي الله عنهما؛ ولعل ذلك لأن أم سلمة لم يظهر منها جزع وبكاء كما حصل لعائشة، ولعل لفارق العمر بين الاثنتين أثراً في ذلك، لكن النبي -صلى الله عليه وسلم- يُتْبِع قوله الرقيق لأم سلمة بفعل رقيق؛ فيدعوها لتضطجع معه في الخميلة، ويكفي هذا تسلية ولطفاً، والله أعلم.
ومن المعاني التي خاطب النبي -صلى الله عليه وسلم- بها النساء: النهي عن التطيب إذا أرادت المرأة الخروج إلى الصلاة في المسجد، وخاصة في صلاة العشاء؛ ومع أن النهي عن خروج المرأة متطيبةً عامٌّ في كل الأوقات، إلا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- خص العشاء الآخرة بمزيد من النهي؛ ولعل ذلك لأن العطر يستثير الشهوة، ويستميل إلى المرأة، والليل وقت الظلمة وخُلوِّ الطريق؛ فكان الخوف عليهن في الليل أكثر، وقيل: لأن عادتهن استعمال البخور في الليل لأزواجهن، والله أعلم (ينظر: الكاشف عن حقائق السنن: [3/30]، وفيض القدير: [3/173]، وحاشية السندي على سنن النسائي: [8/154و155]، ومرقاة المفاتيح: [3/135]).
ومن تأثير عُمُرِ المخاطَب في أساليب النبي -صلى الله عليه وسلم- ما ورد في خطابه مع الأطفال، ومن ذلك ما جاء في الصحيحين عن أنس -رضي الله عنه- قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس خُلُقاً، وكان لي أخ يقال له: أبو عمير؛ فكان إذا جاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فرآه قال: "أَبَا عُمَيْر! مَا فَعَلَ النُّغَيْر؟" نَغْر كان يلعب به، وفي رواية: "يَا أَبَا عُمَيْرٍ!"(أخرجه البخاري: [6129 و6203]، ومسلم: [2150]).
وفي هذا الموقف ما راعى فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- حال المخاطب وعُمُره وحاجته، ومن ذلك:
1- أن موت النَّغْر قد لا يعني شيئاً للكبار، لكنه بالنسبة لهذا الصغير شيء محزن؛ فهو يرى لعبته جزءاً من حياته؛ فيحزن لفقدها. وحينما يحزن؛ فإننا ينبغي أن نعامله ونخاطبه من منطلق نظرته هو، لا من نظرتنا نحن؛ فنخضع لمشاعره ونحترم أحاسيسه ونشاركه عواطفه، ومن هنا كـان خطـاب النبي -صلى الله عليه وسلم- لهذا الفطيم الـذي قد لا يدرك من كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا أنه يُحِس بحزنه، ويشاركه ألمه، ويضفي عليه عَطْفه وحنانه. وبهذا نفسر نداء النبي -صلى الله عليه وسلم- للطفل: "أَبَا عُمَيْرٍ": إما بحذف حرف النداء، وإما -في الرواية الأخرى- بذكره وهو (يا) وقد يكون الحذف الأقرب إلى المقام ملاطفة للمخاطَب، وإشعاراً له بسرعة الاستجابة لمشاعره والقرب منه وزوال الحواجز النفسية بينهما، وهذان (الملاطفة والتقريب) من الأغراض التي يُحذَف لها حرف النداء (ينظر: الكشاف: 2/444، وخصائص التعبير القرآني: [2/7]، وعلم المعاني لـبسيوني فيود: [2/146]).
2- أن تصغير الأسماء (عمير) و(نغير) وهذا يتلاءم مع خطاب طفل صغير، ويأتي التصغير أيضاً ليحقق السجع، الذي يُحدِث تأثيـراً فـي النفـس؛ إذ هو يخـاطب الوجـدان والمشـاعـر أكثـر مـمـا يخـاطـب العقـول.
3- ومما يلائم الصغير في هذا الخطاب: الإيجاز في التركيب مع وضوح الألفاظ؛ فخطاب النبي -صلى الله عليه وسلم- مكوَّن من جملتين: ندائية "أَبَا عُمَيْرٍ" واستفهامية "مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ؟" وكلتاهما موجزتان واضحتان، لم يتعدَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- فيهما الألفاظ التي يفهمها الطفل؛ لأن الطفل في مثل هذا السِّن لا يستوعب كل ما يقال له، وثروته اللفظية محدودة (ينظر: من أساليب الرسول صلى الله عليه وسلم في التربية).
ومن مراعاة حال العُمُر في الخطاب النبوي البليغ، أَمْرُ الشباب بالزواج، أو ما يخفف حدَّة الشهوة، والنهي عن إتيان دواعيها، ومــن ذلـك مـا رواه عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- شباباً لا نجد شيئاً، فقال لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ! مَن اسْتَطَاعَ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ؛ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ"(أخرجه البخاري: [1905 و5066]، ومسلم: [1400])، قال ابن حجر: "خص الشباب بالخطاب؛ لأن الغالب وجود قوة الداعي فيهم إلى النكاح بخلاف الشيوخ"(فتح الباري).
والأمر بالزواج هنا لمن استطاع مؤنته مقدَّم على الأمر بالصيام لمن لم يستطعها، تنبيهاً إلى أن الأصل في الشاب أن يُشبِع رغبته، لا أن يحسم مادتها، وأن الزواج هو الذي يُشبِع هذه الرغبة؛ فإذا بلغ الزواجَ فعليه أن يعْجَل به ويبادر إليه؛ ولذا جاء الأمر به في جواب الشرط مقروناً بالفاء، وجاءت صيغتا (الغضِّ والإحصان) في تعليل الأمر على أفعل التفضيل.
6- الصفات السلوكية: في خطاب النبي -صلى الله عليه وسلم- ما يراعي مقتضى هذه الصفات والحالات التي تؤثر في الصفات، ومن شواهد ذلك ما رواه أبو هريرة من أن رجلاً دخل المسجد فصلى، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ناحية المسجد، فجاء فسلم عليه، فردَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- السلام، وقال له: "ارْجِعْ، فَصَلِّ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ!" فرجع فصلى كما صلى، ثم جاء فسلم، فرد عليه السلام، وقال: "ارْجِعْ، فَصَلِّ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ!" فقال: "والذي بعثك بالحـق! ما أُحْسِن غيره، فعلِّمني!" فقال: "إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلاةِ فَأَسْبِغْ الْوُضُوءَ، ثُمَّ اسْتَقْبِل الْقِبْلَةَ، فَكَبِّرْ، وَاقْرَأْ بِمَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِن الْقُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعاً، ثُمَّ ارْفَعْ رَأْسَكَ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِماً، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِداً، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَسْتَوِيَ وَتَطْمَئِنَّ جَالِساً، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِداً، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَسْتَوِيَ قَائِماً، ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلاتِكَ كُلِّهَا"(أخرجه البخاري: [757 و793 و6667]، ومسلم: [397]).
قال النووي في فوائد الحديث: "وفيه الرفق بالمتعلم والجاهل وملاطفته، وإيضاح المسألة، وتلخيص المقاصد، والاقتصار في حقه على المهم دون المكملات التي لا يحتمل حاله حفظها والقيام بها"(شرح صحيح مسلم). وقد يقول قائل: إذا كان المخاطَب افتقد الطمأنينة في أفعال الصلاة عن جهل، وكان مقتضى حاله أن يوجز معه في ما يحتاج إليه؛ فلِمَ أطنب النبي -صلى الله عليه وسلم- فذكر إسباغ الوضوء واستقبال القبلة، وليسا من الصلاة؟ والجواب: إن هذا من الأسلوب الحكيم، وقد أشار إليه النووي؛ حيث قال في فوائد الحديث: فيه أن المفتي إذا سئل عن شيء، وكــان هنــاك شــيء آخـــر يحتـاج إليــه الســـائل ولم يسأله عنه، يُستحَب له أن يذكره له، ويكون هذا من النصيحة لا من الكلام في ما لا يعني، وموضع الدلالة أنه قال: "علمني يا رسول الله!" أي علمني الصلاة، فعلمه الصلاة، واستقبال القبلة والوضوء، وليسا من الصلاة، لكنهما شرطان لها"(شرح صحيح مسلم).
ولعل النبي -صلى الله عليه وسلم- لـمَّا رأى استعجاله في الصلاة، ظن أنه يستعجل في غيرها مما هو شـرْط لهـا، فـلا يأتـي به علـى ما ينبغي؛ ولذا جاء الأمر بـ (إسباغ الوضوء) لا مجرد الوضوء.
إن النبي -صلى الله عليه وسلم- لو كان يريد أن يعلم الرجل ترتيب الأفعال لربما اكتفى بقوله: اركع، فقم، فاسجد، فارفع، فاسجد فقم، لكنه -صلى الله عليه وسلم- أراد أن يعلمـه الطمأنينة في أداء صلاته، ولم يكن تعليمه إياها ابتداءً؛ وإنما عن خطأ ناشئ من جَهْل، واستعجال قد يكون طبعاً في المخاطَب؛ ولذا لم يكتفِ النبي -صلى الله عليه وسلم- بدلالة (ثم) وحدها وإلا قال: اركع ثم قم ثم اسجد ثم ارفع ثم اسجد... ولا بدلالة (حتى) وحدها وإلا قال: اركع حتى تقوم، فقم حتى تسجد، فاسجد حتى ترفع، فارفع حتى تسجد... ولا بدلالتهما معاً، بل نص على ما قصَّر فيه المخاطَب، وكرره ليتقرر لديه ويتأكد، ولم يكتفِ أيضاً بذلك، بل أتى بالحال التي تتعلق بالطمأنينة في كل فِعْل؛ ليزيد الأمر تأكيداً وتقريراً، والله أعلم.
ومن المواقف التي راعى فيها النبي -صلى الله عليه وسلم- الصفة السلوكية لدى المخاطَب، ما جاء من أن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- رأى أن له فضلاً على مَنْ دونه، فقال له الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "هَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إِلا بِضُعَفَائِكُمْ"(أخرجه البخاري: [2896]).
ففي هذا الموقف ظن سعد -رضي الله عنه- أنه بشجاعته وقوَّته وماله لا يساوى في الغنيمة بمن دونه من الضعفاء والفقراء؛ فخاطبه الرسول -صلى الله عليه وسلم- بخطاب فيه مراعاة لمقتضى حاله، فأعلى مِن شأن مَنْ يرى أنهم دونه، وأضعف ما في نفسه مما يُظن من الإعجاب والزهو، ومن ذلك:
1- جاء الخطاب بأسلوب القصر، بطريق النفي والاستثناء، و(هل) هنا فيها معنى النفي؛ أي: ما تُنصرون وتُرزقون إلا بضعفائكم.
إن القصر هنا جاء مراعاة لمقتضى حال المخاطَب، الذي صدر عنه ما يُظن أنه احتقار للمقصور عليه وغفلة عن أهميته، وأن النصر لا يكون إلا بالشجاعة وكثرة المال؛ فقوبل ذلك بقصر يؤكد خلاف ما يظنه المخاطَب؛ فيعلي من شأن المقصور عليه، ويبيِّن أن الأسباب الأخرى متوقفة عليه، وجاء هذا القصر على النوع المسمى بـ (قصر القلب) لما فيه من قلب وتبديل لحُكْم المخاطَب كله بغيره، مبالغة في التأكيد على أهمية شأن الحُكْم الذي تضمنته جملة القصر، وحضاً للمخاطب على الاتصاف بالتواضع.
2- جاء القصر في رواية الصحيح بصيغة الاستفهام مراداً به النفي؛ لما في الاستفهام من معنى التقرير، وكأن الأمر حقيقة متقررة لدى المخاطَب، فيراد تذكيره بها وتأكيدها له.
3- لم يُسنَد فِعْل النصر إلى المخاطَب، بل أُسنِد إلى غيره، فبُنِي لِـمَا لم يُسـمَّ فاعله، والفـاعـل هـو اللـه -عز وجل- كما جاء معلوماً في الرواية الأخرى، ولعل ذلك مقابل ما قد يكون في نفس المخاطَب من تعظيم أسباب القوة البشرية، فأراد النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يذكِّــر المخـاطَــب بأن النصـر لا يكـون إلا من الله -عز وجل- الذي يقدِّره ويحدِّد أسبابه ويـيسرها؛ وأن القوة البشرية مهما بلغت، ما هي إلا سبب من أسباب النصر التي يريدها -سبحانه وتعالى- والله أعلم. وبما سبق يتضح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان من منهجه في خطاب الناس أن يراعي أحوالهم والعوامل المؤثرة فيها، وقد ظهر ذلك في اختيار الألفاظ والعبارات والمعاني والأساليب البلاغية واختيار الوسائل والقوالب التي تحمل تلك الألفاظ والمعاني والأساليب.
أسأل الله أن يرزقنا حُسْنَ الاتباع لهدي نبيه -صلى الله عليه وسلم- والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المصدر/ طريق الإسلام
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم