اقتباس
وليس بمنطق لجماعة أن تختزل الحق كله في أفرادها وجماعتها، وأن غيرها ضُلال أو مبتدعة أو جهَلة، أو القول أن غيرها تعمل خارج إطار الحق، أو غير ذلك من الأوصاف المقززة والألقاب المنفرة التي لا تزيد الصف الإسلامي إلا فُرقة، وجسده إلا هشاشة، وكلمته إلا ضعفًا، فيطمع حينها العدو، ويفرح وقتها المتربص... إذ إن هذا المكر الذي يحيق بالإسلام، ويكيد بأهله ويتربص بحملته ودعاته وسائله متعددة، وطرقه متنوعة، وأهدافه خبيثة، ورموزه كثر، ورقعته واسعة، وبالتالي لا بد أن تتنوع المواجهة السلفية بتنوع وسائل العدو المتخذة...
الحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الآمين وعلى آله وصحبه والتابعين وسلم تسليماً كثيراً، وبعد:
لم تزل منابرنا، وما برحت أقلامنا تفتأ تدعو الناس للتربية (علم، عمل، دعوة)، وقد ظلت النداءات من قِبل العلماء وتوصلت المطالبات من قبل الدعاة إلى الله –تعالى- والمربين عبر المؤسسات العلمية والمناشط الدعوية وغيرها، كلها تدعو وتحرّض الناس أفرادًا وجماعات على ذلك، وكنا على يقين حينها ويومنا وسنظل أنها بمفهومها العام التكليف الرباني والهدي النبوي والمخرج الشرعي، قال تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) [الجمعة: 2].
كما أن التربية الحل الفعلي لاستقامة الأفراد وإصلاح المجتمعات وحلحلة الكثير من العوائق، وفكفكة العديد من القضايا المتعلقة بكل النواحي الدينية والاقتصادية، والسياسية والأمنية، والاجتماعية والأسرية، والثقافية وغيرها، ونحن إذ نقول ذلك مؤكدين أن ارتباط تلك القضايا بالتربية وعلاقتها بها كارتباط الرأس بالجسد ومكانته منه.
إلا إنه مع تلك المطالبات طفت على السطح الدعوي ردود أفعال وأقوال من جماعات أخرى مغايرة، ومن طوائف مختلفة حول مسألة الاقتصار على التربية بمفهومها التنفيذي والتطبيقي المطروح يومئذ بعدم جدوى ذلك، وكانت تلك الردود وما زالت متباينة بين ناقد وناقم، وبين محق ومبطل، وبين متوسط ومعدل حول هذه التربية كما أسلفت وقصورها في تلبية الطلب، وإنجاز الهدف وتحقيق الغاية وتنفيذ المهمة.
نعم لقد كان الاقتصار على بعض معانيها مع التغافل عن بعض جوانبها أمر لا يستقيم مع المعنى الشرعي ولا يتناسب مع واقع الحال ولا مع مجريات الأحداث، ولا يتناغم مع ظروف الحياة خصوصًا في ظل العداء العالمي للإسلام، ولا يجدي في ظل المكر الكبار بالمسلمين والهجمة الشرسة من أعداء الخارج وأبواق الداخل تحت غطاء بما يسمى بالتحالف الدولي لمحاربة الإرهاب، والقضاء على التطرف، وأعظم به من مكر، قال تعالى: (وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ) [إبراهيم: 46]، كذا تمرير مجلس الأمن قراراته وما تتضمن من الكفر الصراح، وفرض هيمنته على الشعوب المسلمة منها خاصة.
وفي المقابل لم يقف المنادون بهذه الدعوى وهذا الطرح -وهم القائلون بالتربية- مكتوفي الأيدي ولا مكممي الأفواه؛ فقد صاحب هذا الاقتناعَ طرح واسع وانتقاد لاذع لمخالفيهم في أساليب دعوتهم وطرقهم التغييرية مع أتباعهم والتأثيرية في الآخرين، محذرين إياهم وبال تلك الطرق وعاقبة تلك الأساليب بأنها غير مجدية ولا ناجحة، وأنها مخالفة للشريعة، ومجانبة للهدي النبوي الذي سار عليه –عليه الصلاة والسلام- وواصل عليه من بعده، واصفين أهدافها بالفشل، ونتائجها بالإخفاق.
وفي ظل ذالك المعترك النقدي وردود الأفعال والأقوال المتباينة كان الكل يدعي أن طريقته هي الأكثر فاعلية، والأقوى تأثيرًا، والأنسب حلاً وعلاجًا، والأصوب شرعية، والكل جعل من الواقع خير شاهد ونصب له المستقبل ليكون أعظم دليل على صحة طريقته وكان كلٌ منهم كما قيل:
وكل يدَّعي وصلاً بليلى *** وليلى لا تقر لهم بذاكا
وقد كان الصواب للكل أن يهتدوا لقول الحق سبحانه: (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا ) [الإسراء: 84]، كما كان الأحرى بالكل -ومن وجهة نظري القاصرة- والأولى بالجميع بدلاً من تصفير كل جماعة عداد الأخرى ونسفها من قواعدها، وهضمها جهودها وأنشطتها، وإبطالها مشروعها والتي باتت واضحة للعيان؛ حيث سُمع صداها ورُئيت مخرجاتها، وقُطفت ثمارها، وشُوهدت نتائجها ولو نسبيًّا، وفي قول الحق هذا والاعتراف به تحقيق للتقوى، قال ربنا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) [المائدة: 8].
كما يتحقق بذلك العدل، كما ورد الأمر به في قوله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ ) [النحل: 90]، ومن السنة حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "ثلاث مهلكات، وثلاث منجيات... وأما المنجيات: فالعدل في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى، وخشية الله في السر والعلانية..." (صحيح الترغيب والترهيب(453)). يقول المناوي –رحمه الله-: فإذا عدل فيهما – أي في حال الرضا والغضب - صار القلب ميزانا للحق، لا يستفزه الغضب، ولا يميل به الرضا، فكلامه للحق لا للنفس، وهذا عزيز -نادر- جداً، إذ أكثر الناس إذا غضب لم يُبال بما يقول، ولا بما يفعل"،،، فيض القدير(3/292).
وعودا لمسألة الانتقاد السالفة الذكر، حيث لم يكن ذلك الانتقاد بمستور ولا ذاك التشنيع بخفي، فقد لُوحظت تلك التهكمات من خلال ما كنت تسمع وتقرأ من إطلاق بعض العبارات المجحفة، وربما الإنكار الشديد، بل وصل الأمر أحيانًا إلى الهجر والتقاطع، وغاب على الكثير وتجاهل الأكثر قول النبي -عليه الصلاة والسلام- كما في حديث أبي هريرة –رضي الله عنه-:" لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يكذبه، ولا يحقره، التقوى هاهنا - ويشير إلى صدره ثلاث مرات - بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام : دمه وماله وعرضه" (رواه مسلم).
ولقد كان الأسلم أن يقيم كل منهم الآخر لا أن ينتقم منه، ويعترف بالآخر لا أن يلغيه، ويكمل النقص في بنائه لا ليهدمه، ويقوّي الضعف الذي لديه لا ليزيده وهنًا وضعفًا، ويزيل الفجوة التي عنده لا ليوسع الهوة، ويلتمس ما عنده من خير ونفع، ويشيد بما لديه من قدرات لا يملكها هو نفسه وطاقات لا يحظى بها هو عينه، وخبرات لا يحوزها، وأساليب لا يجيدها، بدلاً من إتلافها والاستغناء عنها ووصفها بلا شيء، والحقيقة أنها لو سُخرت جميعها ودُعمت كلها وخُدمت؛ لكان لها تأثير فاعل في تربية المجتمعات ونتائج مرضية في إصلاح الأمة.
وهنا استرجع في مسيرتنا الدعوية، متعبدًا ربي بقول الحقيقة، والاعتراف بالقصور والتقصير، وهو زبدة المقالة ومحورها- وبصراحة أنه حتى التربية التي وُفّقنا لها ونظَّرنا عنها كثيرًا، وعبنا بسببها الكثير، ونقمنا من الأكثر لم تكن هي التربية المطلوبة، التربية المتكاملة الشاملة التي ترتقي بالفرد المسلم والجماعة المسلمة للمستوى المطلوب؛ بحيث تزرع عقيدة وفكرًا وتؤسس لشعبية وقاعدة وكيان، ولم تكن المشروع المتكامل الذي يحقق دولة ويكوّن شرعية ويخلق سياجًا ويوجد حصانة للدعوة وحَمَلتها وأتباعها.
والدليل على ما ذكرت هذه النوازل المتتالية، والشاهد هذه المستجدات المتتابعة وما صحبها من مفاجآت، فلم يكن الإسلاميون يفكرون أنهم سيكون يومًا ما طُعْمًا وهدفًا فيها، مما كان من المفترض عليهم أن يأخذوا بالأسباب الشرعية والمادية والحسية والمعنوية سلفًا تحسبا لها، ولم يفكروا أنَّ وقتا سنضطر للمدافعة والمواجهة ليأخذوا الاحتياط مسبقًا؛ حفاظًا على النفس، وصونًا للعِرض، ودفاعًا عن العقيدة، وسياجًا على الدين، وكذلك حماية لمكتسبات دعوتهم ومخرجاتها.
ومن هنا وبعد الذي جرى ويجري ينبغي شرعًا وواقعًا وعقلا ألا تتغنى كل طائفة من الطوائف بالحق الذي تحمله على حساب طائفة أخرى، فتسخر منها أو تشمت بها، أو يحملها ذلك أن تُسقِط غيرها أو تلغيها من الحق، أو تنفي الحق عنها، بل علينا أن نسدّد ونقارب، فالجميع فيه خير، وكل إلى خير، وفي كلٍ خير، وكل يدور في فلكه ما بين مسدّد ومقارب، وما بين مجتهد مصيب ومجتهد مخطئ.
كما يجب أن يعترف الجميع بالقصور والخلل الذي ظهرت نتائجه عند أول متغير، وبزغت أعراضه عند أول حدث، وليس بمنطق لجماعة أن تختزل الحق كله في أفرادها وجماعتها، وأن غيرها ضُلال أو مبتدعة أو جهَلة، أو القول أنَّ غيرها تعمل خارج إطار الحق، أو غير ذلك من الأوصاف المقززة والألقاب المنفرة التي لا تزيد الصف الإسلامي إلا فُرقة، وجسده إلا هشاشة، وكلمته إلا ضعفًا، فيطمع حينها العدو، ويفرح وقتها المتربص.
وفي ظني أن كل جماعة غير قادرة لمواجهة صنوف المكر الذي يحيق بالإسلام وأهله؛ إذ إن هذا المكر الذي يحيق بالإسلام، ويكيد بأهله ويتربص بحملته ودعاته وسائله متعددة، وطرقه متنوعة، وأهدافه خبيثة، ورموزه كثر، ورقعته واسعة، ومكونه كبير، واستعداده للمواجهة ضخم، وبالتالي لا بد أن تتنوع المواجهة السلفية بتنوع وسائل العدو المتخذة، وبالتالي فإن وجود كل تلك الجماعات مناسب لتصدي ذلك؛ حيث إنَّ لكل طائفة من وسائل الرد والدفاع ما ليس للأخرى، وبهذا نقول: إن الحق متناثر بين كل تلك الجماعات بنِسَب مختلفة، تختلف قُربًا وبُعدًا عنه، وكل جماعة يجب ألا يؤتى الإسلام مِن قِبلها، وعليها أن تسد الثغرة التي تجيد حراستها وتحسن سدّها وتتقن ضبطها.
وبهذا أصل بإخواني القراء إلى ختام هذه المقولة راجيا ربي فيها الإخلاص والقبول ومتمنيا لإخواني منها النفع والفائدة.
اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنا لما اختُلف فيه من الحق بإذنك، واعصمنا من مضلات الفتن، ووفقنا لرضاك، والعمل في هداك، وبصِّرنا بعيوب أنفسنا وهيئ لنا من أمرنا رشدًا!.
وسلامٌ على المرسلين والحمدلله رب العالمين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم