مراتب العبودية

ناصر بن محمد الأحمد

2010-10-11 - 1431/11/03
عناصر الخطبة
1/ الغاية من إيجاد الخلق 2/ تفاوت الناس في عبوديتهم لله تفاوتا كثيرا 3/ من مراتب الناس في عبوديتهم لله تعالى

اقتباس

إننا ما خلقنا -أيها الأحبة-، ولا وجدنا إلا للعبادة، وأي عبد جد واجتهد فإنه يرتقي في سلم العبودية ويفوق الآخرين بغض النظر عن وضعه الإجتماعي أو المادي أو القبلي أو لأي دولة هو تابع.

 

 

  

 

 

أما بعد:

عرضنا لكم في الجمعة الماضية صوراً من العبوديات التي تقدمها بعض الكائنات؛ من نبات وحيوان ودواب، وأيضاً شيئاً من عبودية السماء والأرض والجبال والبحر، وكيف أن هذه الكائنات لها عبادات تخصها وأنها تقوم به على أتم وجه، وتعد خطبة الجمعة الماضية كلها مقدمة؛ لنصل إلى بيت القصيد وهو عبودية هذا الإنسان وما الذى يجب عليه، ولماذا هو قد انحرف في كثير من الأحيان عن خط العبودية المستقيم. قال الله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات:56].

إننا ما خلقنا -أيها الأحبة-، ولا وجدنا إلا للعبادة، وأي عبد جد واجتهد فإنه يرتقي في سلم العبودية ويفوق الآخرين بغض النظر عن وضعه الإجتماعي أو المادي أو القبلي أو لأي دولة هو تابع.

ولذا فإن المطيعين من الإنس يتفاوتون فيما بينهم تفاوتاً عظيماً في العبودية، ولهم مراتب عديدة لا يعلمها إلا رب العباد، وكل بحسب عمله؛ فمن الناس من ترقى في سلم العبودية حتى وصل إلى مراتب الصالحين، ومنهم من وصل مراتب الشهداء، ومنهم من وصل إلى مراتب الصديقين.

وبين هذه المراتب، مراتب ومراتب لا يحصيها إلا الله، وهناك السابقون السابقون أولئك المقربون، وهناك أصحاب اليمين، وما أدراك ما أصحاب اليمين، وقد أعد الله -جل وتعالى- لكل قسم من هذه الأقسام من الجزاء والنعيم ما يناسبه.

مراتب العباد في درجات العبودية كثيرة لا يحصيها إلا رب العباد، وسأعرض لكم -أيها الأحبة- بعض هذه المراتب، ومنزلة كل مرتبة عند الله جل وتعالى، وما أريد منك أخي المسلم إلا أن تصنع أنت نفسك في أحد هذه المراتب، وتحت أي صنف يمكن أن تصنف نفسك، وأي قسم ترى أنه ينطبق عليك، وتشعر أنك من أهله لنعلم قربنا وبعدنا، من هذه المراتب، فها هي هذه المراتب، وهي ليست على سبيل الحصر؛ بل هي أمثلة، وأيضاً ليست مرتبة مع بعض التعليقات اليسيرة.

فأولى مراتب العبودية: مرتبة الرسالة والنبوة، وهى أعلاها، وأصحابها هم المصطفون كما قال تعالى: (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ) [الحج: 75]، وقال سبحانه: (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى) [النمل: 59]. أنا وأنت لسنا من هذه المرتبة لإنها بالإصطفاء.

وأهل هذه المرتبة -أيضاً- يتفاوتون فيما بينهم وإن كانوا أنبياء، فبعضهم أفضل من بعض قال تعالى: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ) [البقرة: 253]، ففي مقدمتهم أولوا العزم من الرسل، ثم عامة الرسل، ثم عامة الأنبياء، وقد قاموا جميعاً بالعبودية لله تعالى حق قيام، وكانوا قدوة لأقوامهم فى حياتهم وبعد مماتهم.

المرتبة الثانية: مرتبة أصحاب الأنبياء والرسل وهؤلاء ورثة الرسل وخلفاؤهم، وهم القائمون بما أمر الله به على لسان رسله، علماً وعملاً، وهم الوسائط في التبليغ عن الرسول للأمة من بعده، فهم الربانيون وهم الحواريون، وهم الذين كانوا مع الرسل في حياتهم فآمنوا بهم وآزروهم ونصروهم.

إن مرتبة الصحبة من أفضل مراتب الخلق بعد النبوة، أصحابها فضلوا على بقية الأمة، اصطفاهم الله -جل وتعالى- لصحبة رسله وأنبيائه، لقد ءامنوا حين كفر الناس، وصدقوا حين كذب الناس، فتحمل أصحاب هذه المرتبة من العذاب والنكال في دين الله ما الله به عليم.

لقد بذلوا الأنفس والأموال في نصرة دين الله، لقد قاتلوا مع رسل الله، فقتلوا وقتلوا فأثابهم الله خيري الدنيا والآخرة، (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) [الفتح:29] أيضاً نحن قد فاتنا وحرمنا هذه المرتبة.

المرتبة الثالثة: مرتبة المجاهدين في سبيل الله، وهؤلاء هم جند الله عز وجل، الذين يقيم الله بهم دينه ويدفع به بأس أعدائه، المجاهدون هم الذين يقاتلون لتكون كلمة الله هي العليا، وليكون الدين كله لله، ويكفي أنهم قد ربحوا التجارة مع الله، بما بذلوا من أموالهم وأنفسهم، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [الصف:10-11].

لقد باعوا أنفسهم وأموالهم لله -عز وجل- فقبل البيع منهم وأثابهم الجنة (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [لتوبة:111].

روى البخاري في صحيحه حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض".

وكيف لا يكون للمجاهدين هذه المنزلة وهذه الدرجات وهم كلما نادى المنادي، لبوا وأقبلوا فمرة تراهم على أرض أفغانستان، يروون جبالها وهضابها بدمائهم الزكية، ومرة تسمع بأخبارهم في مناطق الشيشان، يرفعون الرايات، ويقدمون المهج والأرواح، ومرة يأتيك نبأهم من أرض البلقان، يقاتلون مع إخوانهم المسلمين، الصرب الكافرين فما من أرض رفع فيها راية الجهاد، إلا وأصحاب هذه المرتبة، يطيرون لها مودعين الأهل والأحباب، تاركين الزوجة والأولاد، يطلبون إحدى الحسنيين، إما نصر وإما شهادة في سبيل الله.

يسيرون إلى الأعداء والطير فوقهم *** له القوت من أعدائهم وله النصر
فبأس يذيب الصخر من حر ناره *** ويطف له بالماء من نجس الصخر
شباب إذا لاقى العدو ظننتهـم *** أسود الشرى عنت لهم الأؤم والعفر
ترى كل شهم في الوعى مثل سهمه *** نفوذاً فما يثنيه خوف ولا كثر
هم الأسد من بيض الصوارم والقنا *** لهم في الوغى الناب الحديدة والظفر
يرون لهم في القتل خلدا فكيف باللقاء *** لقوم قتلهـم عندهم عمـر
إذا استغلقت شم الحصون فعندهم *** مفاتحها بيض مضاربهـا حمـر

المرتبة الرابعة: مرتبة العلماء، هنيئاً لأصحاب هذه المرتبة، فهم حقاً رجال الأمة، في هذا الميدان، وهم الفرسان وهم الشجعان، فلا أدري هل أنا وأنت نحشر مع هؤلاء ونعتبر منهم، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "من لم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق".

وفي المقابل قال -صلى الله عليه وسلم-: "من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منزلة الشهداء وإن مات على فراشه"، وهؤلاء لهم في سلم العبودية حظ وافر؛ لأنهم الذين يحملون أمانة العلم، ويحفظون دين الله من الضياع، ويبلغونه للناس، ويعظونهم ويأمرونهم وينهونهم.

العلماء هم الذين يعلمون الجاهل، ويرشدون الضال، ويقومون بالذب عن دين الله تعالى بالرد على المبتدعة وأهل الأهواء، العلماء هم الذين يواجهون السلاطين والزعماء ويردونهم عن ظلمهم، فهم الوارثون للأنبياء وهم الراسخون في العلم، قضوا زهرة حياتهم وصفوة شبابهم في حلق العلم وبين مجلدات الكتب.

أسهروا ليلهم وقضوا نهارهم في حفظ المتون وقراءة الشروح، في الوقت الذي كان غيرهم يقضون أوقاتهم في الشواطئ والحدائق العامة ومدرجات الملاعب أمام الشاشة، جدوا واجتهدوا حتى وصلوا إلى هذه المرتبة، ففضلهم عظيم، ومنزلتهم عالية (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) [فاطر: 28]، فحقهم علينا كبير.

فنسأل الله عز وجل أن يحفظهم وأن يطيل في أعمارهم، فمن للناس إذا ذهب العلماء، وكيف يتعلم الناس إذا سكت العلماء، ولهذا لا غرابة إذا استغفر لهم الحيتان في البحر، والنملة في جحرها، إن "فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينار ولا درهما، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر".

المرتبة الخامسة: مرتبة أهل الإيثار والصدقة والإحسان إلى الناس باختلاف حاجاتهم ومصالحهم في تفريج الكربات، ودفع الضرورات، وتسهيل المهمات، هؤلاء رغبوا فيما عند الله، وآمنوا بأن ما ينفقونه من الأموال لا ينقص مما عندهم بل يزداد، وأنه ما نقص مال من صدقة، يستشعرون قول الباري عز وجل: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة:261].

وقوله تعالى: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة:274]. هؤلاء الصنف من العباد، اعتقدوا اعتقاداً جازماً بأن ما عندهم ينفذ وما عند الله باق، وأن ما ينفقونه ليست لهم، وإنما هو مال الله جعلها في أيديهم واستخلفهم فيها؛ لينظر كيف يعملون، وكيف يتصدقون، وعلى أية طريقة يصرفون وينفقون.

إذا سمعوا بناء مسجد تسابقوا، وإذا سمعوا بأرملة أو مسكينة إلى خدمتها تدافعوا، وإذا علموا بمشروع خيري بذلوا، فهنيئاً لهم، تساووا مع الناس في أداء الواجبات، وزادوا على الناس بما أنفقوا، رغبة فيما عند الله، لا يريدون من أحد جزاءً ولا شكورا، فهل أنت من هؤلاء يا عبد الله؟

المرتبة السادسة: مرتبة الدعاة إلى الله، عز وجل، هؤلاء طلبة علم، ودعاة خير وإصلاح هداهم الله -جل وتعالى- لطريق الخير والاستقامة، في زمن كثرت فيه المغريات، وعمت الفواحش والمنكرات، فحفظهم الله عز وجل، لكن لم يريدوا الخير لأنفسهم فقط، فحملوا على عواتقهم واجب الدعوة إلى الله عز وجل، ومحاولة انتشال الهلكى والغرقى في وحل الخطيئة والمعصية إلى بر السلامة والنجاة.

فانتشروا في أوساط الناس، يعلمون هذا، ويرشدون ذاك، من لا يصلي بينوا له خطورة ترك الصلاة، ومن لا يزكي، وضحوا له الحكم الشرعي، ومن أبتلي بالمسكرات والمحرمات، حاولوا تخليصه مما هو فيه بتعظيم حرمات الله في قلبه، ومن كان مقصراً كملوا نقصه، ومن تعثر أقالوا عثرته، كل ذلك بالحكمة والموعظة الحسنة، والأسلوب الأمثل، يلقون درساً هنا، ومحاضرة هناك، يوزعون كتيباً هنا، وشريطاً هناك.

همهم هداية الناس، اقتطعوا من أوقات راحاتهم ومن مرتباتهم في سبيل الدعوة، خلت نفوسهم من حظ نفوسهم، صدق فيهم قول ذلك الشاعر الذي قال:

 

لهم خلف أرض الصين في كل ثغرة *** إلى سوسها الأقصى وخلف البرابر
رجال دعـاة لا يفـل عزيمتهـم *** تسلط جبـار ولا كيـد ماكـر
إذا قال مروا في الشتاء تطوعـوا *** وإن كان صيف لم يخف شهر ناجر
بهجرة أوطـان وبـذل وكلفـة *** وشدة أخطـار وكـد المسافـر
فأنجح مسعاهم وأثقب زندهـم *** وأروى بثلـج للمخاصـم قاهـر
وأوتاد أرض الله في كـل بلـدة *** وموضع فتياها وعلـم التشاجـر
تراهم كأن الطير فوق رؤوسهـم *** على عمة معروفـة في المعاشـر
وسيماهم معروفة في وجوههـم *** وفي المشي حجاجا وفوق الأباعر

فنسأل الله -عز وجل- أن يحشرنا في زمرتهم، بحبنا لهم، وإن لم نعمل مثل أعمالهم، فالمرء مع من أحب.

أقول قولي هذا وأستغفر ...

 

 

 

الخطبة الثانية:

 

 

أما بعد:

المرتبة السابعة: -من مراتب عباد الله في درجات العبودية-: مرتبة أولئك الصالحين، الذين قاموا بفرائض الله، وازدادوا عليها بالنوافل، بما فتح الله تعالى عليهم، فمنهم المكثر من الركوع والسجود، ومنهم المكثر من قراءة القرآن.

ومنهم المكثر من الصوم، ومنهم الذاكرون، ومنهم الصابرون، فهؤلاء جاهدوا أنفسهم في تكثير الحسنات ومحو الزلات، فهم حقاً أهل الربح والخيرات، إذا عمل أحدهم خطيئة تاب وأناب، هم أهل قول الله تعالى: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ) [السجدة: 16]، وقوله تعالى: (كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ) [الذريات:17].

وقوله تعالى في الحديث القدسي: "من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليَّ عبدي بشئ أحب إليَّ مما افترضته عليه، وما زال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه".

أقول فأين هؤلاء في زماننا هذا، والله أنهم لأعز وجوداً من الكبريت الأحمر، فنسأل الله -جل وتعالى- أن يرحمنا برحمته.

المرتبة الثامنة: مرتبة أهل النجاة، ممن يؤدي فرائض الله تعالى ويترك محارمه، مقتصراً على ذلك لا يزيد ولا ينقص، عما فرض عليه، فهؤلاء هم المفلحون، لحديث الرجل الذي جاء إلى رسول -صلى الله عليه وسلم- يسأله عن الإسلام ثم قال بعدما علم: "والله لا أزيد على هذا ولا أنقص"، فقال عليه الصلاة والسلام: "أفلح إن صدق".

وفي رواية: "دخل الجنة إن صدق"، فالنجاة في أداء الفرائض من الصلوات المفروضة والزكاة والصوم وحج البيت للمستطيع، واجتناب المحارم وعدم الوقوع فيها، فإن أحد أصاب من الصغائر شيئاً، كفرت عنه الحسنات التي يقوم بها، لقول الله -عز وجل-: (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ) [هود:114]، ولقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وأتبع السيئة الحسنة تمحها".

فهل تعتقد يا أخي أنني أنا وأنت، نصنف على الأقل مع هؤلاء؟ ونكون من أهل النجاة، ونتجاوز القنطرة، فرحماك ثم رحماك يا أرحم الراحمين.

المرتبة التاسعة: مرتبة الذين أسرفوا على أنفسهم، فهؤلاء أدوا ما افترض الله تعالى عليهم، لكنهم غشوا معاصي وكبائر، وفعلوا ما نهى الله عنه، فأدوا جانباً من العبودية، وفرطوا في جانب، يتوبون من معاصيهم من وقت لآخر، لكن غواية الشيطان لهم دائمة، وقلوبهم إليها مائلة، فهم ظالمون لأنفسهم فيما يقعون فيه من الذنوب، لكنهم يسمعون قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً) [التحريم: 8]، فتميل قلوبهم إلى التوبة والرجوع إلى الله تعالى.

أيها المسلمون: هذه بعض مراتب العباد في سلم العبودية، وكما قلت أولاً أنها ليست على سبيل الحصر، بل هي نماذج لتفتح لنا بعض آفاق، فينظر كل واحد منا موقعه من الإعراب ضمن هذه المجموعات، هل تصنف أنت نفسك من أهل النجاة، أم تحشر نفسك مع العلماء، أم أنت من أهل الإنفاق، ولبذل الصدقة، أم أنت من عباد الله الصالحين، قوام بالليل صوام بالنهار، وما بينهما ذاكر مستغفر مسبح، أم أقرب ما يناسبني أنا وأنت من أولئك الذين أسرفوا على أنفسهم؟!

عباد الله: إن لعدم تحقيق العبد ما طلب منه من عبودية أسباب، هناك أسباب تصرف العبد عن الإستقامة على الجادة، والإنضباط في قالب العبودية، لعلنا نعالج هذه الأسباب في مرات قادمة.

إن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-.
 

  

 

 

المرفقات

العبودية1

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات