مخططات السيطرة على أرض الأقصى قديما وحديثا

فريق النشر - ملتقى الخطباء

2023-11-20 - 1445/05/06
التصنيفات:

 

 

د. مصطفى عطية جمعة

 

لا تعد الهجمة الصهيونية الحالية الأولى التي تتعرض لها مدينة القدس، فقد تعرضت لعشرات الهجمات من الشرق (التتار قديمًا)، ومن الغرب (الصليبيين قديمًا، والاحتلال البريطاني في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين).

 

فبالعودة إلى تاريخ القدس والمسجد الأقصى، نجد أنه في عام 1109م، وقعت القدس في قبضة الصليبيين، واستطاع الناصر صلاح الدين أن يحررها عام (583هـ / 1187م)، ثم قامت صراعات محلية في بلاد الشام بعد حملات التتار، أدت إلى تخريب القدس عام 1265م، ولكن دولة المماليك التي حكمت مصر والشام، تمكنت من الحفاظ على القدس عربية إسلامية حتى مطلع القرن السادس الميلادي، وخاصة المحافظة على الأماكن المقدسة ببناء القلاع في ساحة المسجد الأقصى، والمدارس الإسلامية، وشبكات المياه العذبة، الأمر الذي أدى إلى زيادة عدد السكان العرب والمسلمين.

 

ويُذكَر أن دولة المماليك استطاعت عبر حُكامها الأقوياء أن تقضي على الخطر المغولي بدحر المغول في موقعة عين جالوت في الشام عام 658هـ، ثم أنهوا بقايا الصليبيين في بلاد الشام على يد الظاهر بيبرس، ثم سيف الدين بن قلاوون، ثم ابنه الأشرف خليل بن قلاوون الذي أسقط مملكة عكا عام (690هـ / 1291م) [1].

 

وقد استمر الحكم الإسلامي لفلسطين والقدس تحت سيادة دولة الخلافة العثمانية التي صانت فلسطين، واستمرت في رعاية المقدسات في القدس، وحمايتها من أطماع اليهود، منذ سيطرتهم على الشام عام 1516م، حتى فرض الانتداب البريطاني على فلسطين عام 1917م، وعمومًا استمر الحكم الإسلامي لفلسطين نحو 1200سنة، وكان المسلمون مثالاً في التسامح الديني وحماية المقدسات للأديان في القدس خاصة، وسائر أنحاء فلسطين [2].

 

لقد كانت القدس والمسجد الأقصى بالنسبة للدولة العثمانية يَعنيان الكثير، لا لاعتبارات دينية فحسب، وإنما لاعتبارات إستراتيجية وسياسية واقتصادية، فمن أجل ذلك شعرت الحركة الصهيونية باحتمال مقاومة السلطات العثمانية التي لم يكن أن تنظر بعين العطف إلى مجتمع غريب يقام على جزء مهم من أراضي الدولة العثمانية لإنشاء وطن يهودي [3].

 

زار هرتزل الأستانة في يونيو عام 1896م، واجتمع بالرجال المؤثرين في البلاط العثماني، وقد جاء حاملاً عرضًا مغريًا للسلطان العثماني، يتضمن عشرين مليون ليرة تركية، منها مليونان مقابل فلسطين، وبالثمانية عشرة ميلونًا تتحرر تركيا من بعثة الحماية الأوروبية التي تتحكم في سياساتها المالية، ولكن جاء رد السلطان عبدالحميد الثاني صاعقةً عليه، ووَفقًا لما ذكره هرتزل في مذكراته، قال السلطان: "لا أقدر أن أبيع قدمًا واحدًا من البلاد؛ لأنها ليست لي، بل لشعبي، ولقد حصل أبناء شعبي على هذه الإمبراطورية بإراقة دمائهم، وقد غذوها فيما بعد بدمائهم، وسوف نغطيها بدمائنا قبل أن نسمح لأحد باغتصابها منا...، الإمبراطورية التركية ليست لي، وإنما للشعب التركي - (يقصد المسلمين الذين تحكمهم الخلافة) - لا أستطيع أبدًا أن أعطي أحدًا أي جزء منها، ليحتفظ اليهود ببلايينهم، فإذا قسمت الإمبراطورية، فقد يحصل اليهود على فلسطين دون مقابل، إنما لن تقسم إلا جثثنا، ولن أقبل بتشريحنا لأي غرض كان" [4].

 

حاول هرتزل ثانية تغيير العرض، فحافظ على المبلغ المالي المعروض، في مقابل عدم حصول اليهود على دولة مستقلة في فلسطين، وإنما يصدر السلطان العثماني "دعوة كريمة إلى اليهود للعودة إلى أرض آبائهم، وسيكون لهذه الدعوة قوة القانون، وتُبَلَّغ بها الدول مسبقًا"، ولكن السلطان أصر على الرفض التام[5].

 

فلجأ هرتزل إلى طريق مُلتوٍ من تحت الأرض؛ حيث تكونت جمعية الاستعمار اليهودي التي توسعت في شراء الأراضي بأساليب غير قانونية، معتمدة على شراء مساحات شاسعة من الإقطاعيين اللبنانيين، وبأسلوب الرشوة مع بعض موظفي الإدارة التركية في فلسطين؛ كي يتغاضوا عن عملية الشراء، وكانوا يتفاوضون مع عائلة لبنانية أرثوذكسية (من الروم)، يمتلكون حوالي 3 % من أرض فلسطين، وهو ما يعادل زمام (97) قرية فلسطينية، وكان أفراد العائلة يعيشون في باريس، يُضيِّعون أموالهم على موائد القمار، وتَم الشراء بحوالي سبعة ملايين فرنك [6].

 

وهذا رد واضح على مَن يتهمون الفلسطينيين ببيع أراضيهم إلى اليهود مسبقًا.

إن السلطان عبدالحميد الثاني كان يميز بين اليهود والصهاينة، فقد عامل اليهود معاملة حسنة، وأنعم على زعماء طوائفها في مصر بالأوسمة، بينما كان شديد الحذر من الصهاينة، وهذا نابع من فهمه للإسلام الذي يعدل بين أهل الكتاب، إلا أن اليهود في الدولة العثمانية كانوا شديدي التحالف مع الصهاينة[7]، فلم يكف حاخامات اليهود المقيمين في بلدان الدولة العثمانية على الدعوة إلى هجرة اليهود إلى فلسطين واستيطانها، وكانت توجد في القسطنطينية جمعية تُدعى: "جمعية موظفي فلسطين في القسطنطينية"، وقد موَّلت عمليات الهجرة وشجَّعت عليها، وانتشر مبعوثو هذه الجمعية في الدولة العثمانية من أجل هذا الهدف، وكان كثير من اليهود المهاجرين إلى فلسطين من يهود تركيا واليونان، وذلك خلال القرن الثامن عشر [8].

 

وكانت هناك خطة منظمة قام بوضعها شخص يهودي يدعى "مونتفيري" في القرن التاسع عشر، تضمنت تنظيم رحلات جماعية إلى فلسطين لإقامة أحياء يهودية عام 1827هـ، وبناء 27 مستعمرة يهودية بدءًا من العام 1843م، وقام بإجراء أول إحصاء لليهود في القدس عام 1839م [9].

 

وهذا يعني أن فلسطين - كوطن قومي - كان في نفسية اليهود قبل حركة هرتزل، لدوافع دينية واستيطانية، وجاءت الصهيونية لتؤكد هذا المنحى من خلال "هرتزل".

 

وشهدت فلسطين نشاطًا ضخمًا للاستيطان والهجرة خلال القرن التاسع عشر، ثم القرن العشرين، وتوالَى إنشاء المدارس والمستشفيات في أوساط المستوطنين في نفس الوقت الذي كانت الحركة اليهودية في تركيا تتأسَّس وتقوى بعد نجاح ثورة تركيا الفتاة، وفضَّل اليهود البقاء في القسطنطينية من أجل دعم اليهود في فلسطين، وعمِلوا على تأسيس الصحف المؤيدة لهم، وظهرت دعوة في أوساطهم لمزيد من الاندماج في المجتمع التركي، حتى يقوى نفوذهم [10]؛ مما يدل على التحالف الوثيق بين يهود تركيا وصهيوني فلسطين.

 

ودليل آخر على هذا التحالف أن أعضاء جمعية الاتحاد والترقي التركية، وحركة "تركيا الفتاة"، كانوا من أصول يهودية رغم اعتناقهم الإسلام ظاهريًّا، وهؤلاء كان لهم الأثر الأكبر في خلع السلطان عبدالحميد الثاني عن الحكم، ثم إلغاء الخلافة كلها[11]، وتحويل تركيا إلى دولة شديدة الغلو في العلمانية.

 

وهذا لم يمنع الدولة العثمانية بعد ذلك من مقاومة الوجود اليهودي في فلسطين، فخلال ما يسمى الثورة العربية الكبرى التي تزعمها الشريف الحسين بن علي (1916م) ضد الخلافة العثمانية، وبتحريض من بريطانيا - لم ترضَ الإدارة العثمانية المحلية في فلسطين أن يستغل اليهود هذه الثورة من أجل تثبيت ملكهم في فلسطين؛ حيث أبعدَ "جمال باشا" الحاكم العثماني اليهودَ في القدس عن المدينة، وألقوا القبض على عصابة يهودية تجسُّسية، وعلموا منها قدرًا كبيرًا من المعلومات والخطط التي أعدها اليهود لفلسطين [12].

 

وقد ظهر خلال الثورة العربية الكبرى مدى البعد الديني المتأثر بالصهيونية لدى "لويد جورج" رئيس الوزراء البريطاني؛ حيث أعلن بعد سقوط القدس في أيدي البريطانيين - وذلك في احتفالات عيد الميلاد - ما نصه:" قُمنا بتحرير أقدس مدينة في العالم "، وكتب بعد ذلك: "لقد تمكن العالم المسيحي من استرداد أماكنه المقدسة" [13].

 

وقد اعترف اليهود فيما بعد أنهم نفذوا "خطة داليت" لتهجير الفلسطينيين من أرضهم، وتبعًا لما ورد في هذه الخطة، فإن القرى الفلسطينية التي قاومت العملية يجب تدميرها وطرد سكانها خارج حدود الدولة اليهودية، وكذلك المدن الفلسطينية، وكشف باحث يهودي يُدعى "بيني موريس" عن وثيقة مؤرخة في يونيو 1948م، أعدَّها قسم الاستخبارات اليهودية في الجيش اليهودي - توضِّح أن الرحيل الجماعي للعائلات الفلسطينية كان بسبب العمليات الحربية العدائية اليهودية، وما قامت به عصابات "الأرغون" التابعة لمناحم بيغين، وقد تَم ارتكاب حوالي (34) مجزرة خلال حرب (1948م)، بِمَدَنيين فلسطينيين أثناء عملية التهجير، وأشهرها مذبحة (دير ياسين)، وقد اعترفت إسرائيل فيها بمقتل (254) من الرجال والنساء والأطفال [14].

 

لقد أثبتت الأيام صحة المرويات العربية عن مذابح اليهود ضد المدنيين العُزَّل، وظهر الآن تيار جديد في إسرائيل يُدعى "المؤرخون الجدد"، وهم يُعيدون تقويم الدولة أخلاقيًّا وتاريخيًّا، ويتماشون مع نتائج أبحاث علماء الآثار الذين نفوا أي وجود دائم لليهود في فلسطين، ولم يَعثروا على أي أثر مادي يَنِمُّ عن الهيكل أو غيره، وبذلك تسقط شرعية الدولة علميًّا وتاريخيًّا، وتصبح أساطيرها وادِّعاءاتها على المحك.

 

[1] فلسطين: دراسات منهجية في القضية الفلسطينية؛ د. محسن محمد صالح، منشورات: مركز الإعلام العربي، القاهرة، ط1 / 1424 هـ، 2003م، ص24، 25.

[2] السابق، ص25.

[3] انظر:موقف الدولة العثمانية من الحركة الصهيونية، م س، ص118.

[4] المرجع السابق، ص122، وفقًا لما ذكره هرتزل في يومياته.

[5] المرجع السابق، ص123.

[6] موقف الدولة العثمانية من الحركة الصهيونية، ص124.

[7] انظر: المرجع السابق، ص310.

[8] اليهود في البلدان الإسلامية، (1850 – 1950م)، صموئيل أتينجر، ترجمة: د.جمال أحمد الرفاعي، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، 1995م، ص 263.

[9] حاضر العالم الإسلامي: الآلام والآمال؛ د. توفيق الواعي، مكتبة المنار الإسلامية، الكويت، ط1،1421هـ، 2000م، ص123، 124.

[10] انظر: موقف الدولة العثمانية من الحركة الصهيونية، ص268، 269.

[11] راجع: السابق، ص311، وما بعدها، والمعروف أن هاتين الحركتين كانتا على صلات وثيقة بالحركة الماسونية في أوروبا، وقد كان جلُّ المجموعة التي قدمت إقالة السلطان عبدالحميد الثاني عام 1908 من اليهود، ويذكر أن يهود الدونمة في تركيا لعِبوا دورًا مؤثرًا للغاية في النواحي المالية والسياسية، وكانوا وراء الاضطرابات الكثيرة التي نادت بسقوط السلطان عبد الحميد الثاني، راجع الكتاب ص 314.

[12] سلام ما بعده سلام: ولادة الشرق الأوسط (1914 – 1922)؛ دافيد فرومكين، ترجمة: أسعد كامل إلياس، منشورات: رياض الريس، لندن - قبرص، ط1، 1992م، ص344، 345.

[13] سلام ما بعده سلام، م س، ص349.

[14] راجع: فلسطين: دراسات منهجية في القضية الفلسطينية، م س، ص104.

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات