اقتباس
حينما تُخيِّمُ على الأمة ظُلَلُ الفتن، وتتقاذَفُ سفينتَها أمواجُ المِحَن، تعظُمُ حاجتُها إلى ترسُّم طريق النجاة، لتصِلَ إلى برِّ الأمان وشاطِئ السلامة، ولن تجِد لذلك سبيلاً مهما حاولَت، ما لم تُعالِج مشاكلَها وأدواءَها بنور القُرآن العظيم وسُنَّة النبي الكريم - عليه أفضلُ الصلاة والتسليم -. وإذا كانت المآسِي والمصائِب تلفَحُ وجهَ الأمة في كل وادٍ، فليس أرجَى ولا أنجَى من تلمُّس الحلُول في الوحيَين...
مكة المكرمة:
ألقى فضيلة الشيخ عبد الرحمن السديس - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "وقفات في سورة الحجرات"، والتي تحدَّث فيها عن الآداب والأخلاق التي تضمَّنتها سورةُ الحجرات، بدءًا من تعظيم أوامر الله تعالى وأوامر رسولِه - صلى الله عليه وسلم -، وعدم رفع الصوت في حضرته حيًّا وميتًا، مرورًا بوجوب دفع الشائعات والتثبُّت من الأقوال، والتحذير من السخرية وإساءة الظن والغيبة وغيرها من مساوئ الأخلاق والمحرمات، وانتهاءً بوصف المُؤمنين وإعلاء شأنهم، لتمسُّكهم بالكتاب والسنة.
واستهل الشيخ بالوصية بتقوى الله -تعالى- فقال: فاتقوا الله - عباد الله -؛ فالتقوى خيرُ نِبراس، وأعظمُ مِعيارٍ ومِقياس، (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) [الحجرات: 13].
وأضاف الشيخ: إن فضلَ القرآن على سائر الكلام كفضلِ الله على خلقِه. يقول الإمام الشاطبيُّ - رحمه الله -: "والقرآنُ الكريمُ هو كليةُ الشريعة، وعُمدةُ الملَّة، وينبُوع الحكمة، وآيةُ الرسالة، ونورُ الأبصار والبصائِر، فلا طريقَ إلى الله سِواه، ولا نجاةَ بغيره. فمن رامَ الاطلاعَ على كليات الشريعة، وطمِع في إدراك مقاصِدها، واللَّحاق بأهلها، لزِمَه ضرورةً أن يتَّخِذَه سميرَه وأنيسَه، وأن يجعلَه قعيدَه وجليسَه، على مرِّ الأيام والليالي نظرًا وعملاً".
وأشار إلى أنه في هذا العصر الزاخِر بالصراعات المادية والاجتماعية، والظواهِر السلوكية والأخلاقية، والمفاهِيم المُنتكِسة حِيالَ الشريعة الربانيَّة، لا بُدَّ من الفَيئَة إلى أخلاق القرآن وآدابه؛ ففيه حقائِقُ التربية الفاضِلة، وأُسس المدنية الخالِدة. ولذلك كانت سُنَّةُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - كثرةَ موعِظة الناس بالقرآن، بل كان كثيرًا ما يخطُبُ الناسَ به، (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ) [ق: 45]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) [يونس: 57].
وأضاف فضيلته: فما أجملَ أن نعيشَ أفضلَ لحظاتٍ في عصر التحديات، في رِحابِ آياتٍ بيِّنات، نستلهِمُ النفحَات والعِظات، ونجنِي أطايِبَ الثمرات، من سُورة الآداب والأخلاق "سورة الحجرات"، التي تُؤسِّسُ للأدب مع الله تعالى، ومع رسولِه - صلى الله عليه وسلم -، بإدراك العبد حدوده، فيلزمُها ولا يتجاوزُها. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الحجرات: 1]، وهذا مقصِدٌ من أعظم مقاصِد الشريعة الغرَّاء: إخراجُ العبد من داعِي الهوَى المُطاع إلى تحقيق العبودية وتمام الاتباع؛ إذ المقصِد الشرعيُّ من وضع الشريعة: إخراجُ المُكلَّف عن داعِية هواه، حتى يكون عبدًا لله اختيارًا كما هو عبدٌ لله اضطرارًا.
وأضاف الشيخ: وإذا كانت سُورةُ الحُجرات قد بدأَت بتأصيل هذا الأساس المَكين من العبوديَّة، فإنها توَّجَت هذا الأصلَ بأدبٍ رفيعٍ، وخُلُقٍ سامٍ مع نبيِّ الإنسانية - عليه الصلاة والسلام -، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ) [الحجرات: 2]. وقد أجمعَ أهلُ العلم على أن الأدبَ مع النبي - صلى الله عليه وسلم - حالَ موته كالأدب معه في حياته. يقول الإمام ابن مُفلحٍ - رحمه الله -: "ولا تُرفعُ الأصواتُ عند حُجرته - عليه الصلاة والسلام -، كما لا تُرفعُ فوق صوتِه؛ لأنه في التوقير والحُرمة كحياته".
واستشهد بقول الإمام مالك - رحمه الله - لمن رفعَ صوتَه في مسجد رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا هذا! لا ترفَع صوتَك في مسجِد رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فإن الله - عز وجل - أدَّب قومًا فقال: (لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ)، ومدحَ قومًا فقال: (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) [الحجرات: 3]، وذمَّ قومًا فقال: (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) [الحجرات: 4]، وإن حُرمتَه ميتًا كحُرمته حيًّا".
وأكد الشيخ أن من أعظم الآداب التي جاءَت بها سُورةُ الحُجرات، والتي هي بحقٍّ منهجٌ لاستِقامة الأفراد والمُجتمعات: التثبُّت وحُسن الظنِّ بالمُسلمين، في قولِ الحقِّ - سبحانه -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) [الحجرات: 6]. وقد قال نبيُّنا - صلى الله عليه وسلم -: «إياكم والظنّ؛ فإن الظنَّ أكذبُ الحديث» (متفق عليه).
وقرر فضيلته: أن في غَمرة الأحداث المُتسارِعة الدامِية، والأوقات المُستعِرة الحامِية، تُحاولُ بعضُ النفوس الضعيفة شرخَ تلاحُم الأمة، وثَلْم وحدتها، وتُلبِّسُ على النُّزهاء البُرآء زعومًا ودعاوَى، بشائِعاتٍ باطِلة، وأكاذِيبَ مُلفَّقة، يفتَرون على الناس الكذِب، ويُقبِّحون كل رائِقٍ عذِب، وتناسَوا قولَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: «المُسلمُ من سلِمَ المُسلمون من لسانِه ويدِه» (متفق عليه). وكلما اتَّسعت رُقعةُ الشائِعات الباطِلات، والأراجِيف الذائِعات التي يُروِّجُها ذو قِحةٍ وغِلالةٍ صفيقة، مُستغلِّين تِقانات العصر فيما هو أطَمُّ، فكان إثمُه عند الله أعظَم.
وحذر الشيخ من أمراض انتشرت في عصر الفضائيات، وشبكات المعلومات، ووسائل التواصُل الاجتماعيِّ، وقال: يجب أن نكون أكثرَ ثقة، فلا نُعطِي آذانًا للمهازيل الأغرار، وخفافِيش الظلام الذين ينشرُون الإفكَ والبُهتان، والأقاويل المُفسِدة بين المُسلمين، بالتدابُر والهُجران والغِيبة والنَّميمة، وفي عصرِنا غدَا فِئامٌ من الناس - وخصوصًا مع زمجَرة الإعلام الحديث - أصبَحوا لا يسكُنُ لهم قرار، أو هدأَةٌ واصطِبار إلا بتمزيق الأعراض بصواعِق الألفاظ، وهمَزات الألحاظ، واستِهامها كالأغراض، وبِئسَت الغايات والأغراض! يكتبون الزُّور وبه تجري أقلامُهم، ويكتُمون الحقَّ وبه تأمرُهم أحلامُهم، يلمِزون الشرفاءَ الأطهار، ويسخَرون من الصالِحين الأبرار، في تفتيتٍ لوحدة الأمة الإسلامية، والأُخوَّة الإيمانيَّة، واللُّحمة الوطنية.
وختم الشيخ خطبته بقوله بالتحذير من العنف والغلو فقال: إن التفجيرات والاعتِداءات والهجَمات والأعمال الإرهابية الدموية لا يُقرُّها دينٌ ولا عقلٌ ولا نظرٌ سديد، وهي تتنافَى مع كل الشرائع والأعراف والمواثِيق، والإسلامُ بريءٌ من هذه التصرُّفات الشائِنة التي لا تتماشَى مع أصوله العادِلة، وقِيمِه الإنسانيَّة السامِية التي جاءَت رحمةً للعالمين. والدعوةُ مُوجَّهةٌ لتكثيف الجهود في مُحاربة الإرهاب بكل صُوره وأشكاله، ومُكافحَته بحزمٍ وعزمٍ وقُوَّة، فِكرًا وتمويلاً ومُمارسة، وتجفيف منابِعِه، واستِئصالِ شأَفَته، لإحلال الأمن والسِّلم العالميَّيْن. وهنا يُحذَّرُ من إلصاق تُهمة الإرهاب بالإسلام وأبنائِه المُتَّصفين بالاعتِدال والوسطيَّة، ولا عِبرةَ بالتصرُّفات الشاذَّة، والمُمارسة الخاطِئة. وأخطرُ من ذلك: الإرهابُ الصهيونيُّ ضدَّ المسجد الأقصَى، وإرهابُ إلقاء براميل التفجير والتدمير من طاغية الشام ضدَّ إخواننا في سُوريا.
المدينة المنورة:
ألقى فضيلة الشيخ حسين بن عبد العزيز آل الشيخ - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "موقف المسلم من الأحداث الجارية"، والتي تحدَّث فيها عن أحوال المسلمين في كثيرٍ من البلاد، وأنها تبعث على الأسى والحزن، وما أسبابُ ذلك، ثم تطرَّق إلى ذكر العلاج في عدَّة نقاط، مُنبِّهًا إلى أن المسلمين إذا أخذوا به نجَوا من ويلات الفتن والمِحن.
واستهل الشيخ بالوصية بتقوى الله -تعالى- فقال: أُوصيكم ونفسي بتقوَى الله - جل وعلا -؛ فبتقواه تحُلُّ النعم، وتُدفعُ النِّقَم.
وأضاف الشيخ: أحوالُ المُسلمين في كثيرٍ من المواطِن تبعثُ على الأسَى والحُزن، خاصةً مع ظهور الفتن العَمياء، ومِحنٍ شتَّاء، جرَّت على المُسلمين الدمارَ والخرابَ والفساد في الدين والأنفُس والأعراض والأموال والديار،.. ألا وإن السببَ الأعظمَ لما حلَّ من نكباتٍ وأزمات، وما أصابَ من مِحنٍ ومُصيبات: هو البُعدُ عن المنهج الإلهي، والبُعد عن الطريق النبوي، في شتَّى مجالات حياتنا. ألم يقُل ربُّنا - جل وعلا - قولاً يفهمُه كل أحدٍ: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى: 30]؟! ولقد أخبرنا نبيُّنا - صلى الله عليه وسلم - بهذا المعنى، فقال: «وما لم تعمل أئمتُهم بما أنزل الله في كتابه إلا جعلَ الله بأسهم بينهم». فالسيئاتُ بمُختلف أنواعها سببٌ لزوال النعم الحاضِرة، ولقطع النعم الواصِلة.
وقال حفظه الله: ما ترادفَت بنا الفتن الدامِية الفاتِكة بنا وبأمتنا إلا بسبب اشتِهار المُخالفة لمنهج الوحيَين، والمُعارَضة لشريعة إله الأولين والآخرين. في "مسند الإمام أحمد": أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا ظهرَت المعاصِي في أمَّتي عمَّهم الله بعقابٍ من عنده». وإذا تقرَّرت هذه الحقيقةُ الغائبةُ عن كثيرٍ من النفوس البعيدة عن منهاج القرآن والسنة، خاصةً في القرون المُتأخرة لهذه الأمة، فلنعلَم أن ثمَّة أصولٍ كُبرى، وأركانٍ عُظمى، متى أحكمَها المُسلمون بصدقٍ، وعمِلوا بها بإخلاصٍ، وحرِصُوا على تحقيقها بإتقانٍ سلِموا من الشُّرور، ونجَوا من ويلات المِحَن وقوارِع الفتن، وإلا فلا تسأل عما هو أعظم!
وذكر الشيخ أن الأصل الأول من هذه الأصول: إحداثُ التوبة الصادقة إلى الله - جل وعلا -، من شعوبنا، ومن حُكَّامنا، ومن إعلامنا، ومن مُثقَّفينا، ومن علمائِنا، بالرجوع إلى صراط الله - جل وعلا - والتِزام شرعه، والامتِثال لأمره وأمر رسولِه - صلى الله عليه وسلم -. فبذلك وحدَه يتحقَّقُ الصلاح، وتُعمرُ الحياةُ على خير وجهٍ، وتندفعُ عن العباد الشُّرور والويلاتُ والمصائِبُ والأزمات. فالفلاحُ مُعلَّقٌ بالتوبة، والخيرُ بكل أنواعه مما ننشُدُه في هذه الحياة مُعلَّقٌ على التوبة الدائِمة إلى الله - جل وعلا -، والإصلاح بكافَّة أشكاله مُرتبطٌ بهذه الحقيقة، التوبةُ إلى الله بإصلاح ما فسَد من ترك الواجِبات، وفعلِ المحظُورات سببٌ لرفع البلاء، ودفع اللأواء. بل إن التوبةَ سببٌ لنزول الخيرات المُتنوِّعة المُتدفِّقة، وحصول المسرَّات العظيمة.
وقال وفقه الله: الأصلُ الثاني: الإكثارُ من الطاعات، والتضرُّعُ إلى الله - جل وعلا - بسائر القُرُبات، فبذلك تندفعُ النِّقم، وتُجلَبُ النِّعم، قال ابن القيم - رحمه الله -: "فالمُحسنُ المُتصدِّقُ يستخدمُ جندًا وعسكرًا يُقاتلون عنه وهو نائِمٌ على فراشه، فمن لم يكُن له جُندٌ ولا عسكرٌ وله عدوٌّ، فإنه يُوشِكُ أن يظفرَ به عدوُّه، وإن تأخَّرَت مدةُ الظفَر، والله المُستعان"، وهذا ما تحقَّق في بعض مواضِع بُلدان المُسلمين اليوم.
وقرر الشيخ أن الأصل الثالث: أنه حينما تُخيِّمُ على الأمة ظُلَلُ الفتن، وتتقاذَفُ سفينتَها أمواجُ المِحَن، تعظُمُ حاجتُها إلى ترسُّم طريق النجاة، لتصِلَ إلى برِّ الأمان وشاطِئ السلامة، ولن تجِد لذلك سبيلاً مهما حاولَت، ما لم تُعالِج مشاكلَها وأدواءَها بنور القُرآن العظيم وسُنَّة النبي الكريم - عليه أفضلُ الصلاة والتسليم -. وإذا كانت المآسِي والمصائِب تلفَحُ وجهَ الأمة في كل وادٍ، فليس أرجَى ولا أنجَى من تلمُّس الحلُول في الوحيَين؛ فالاعتِصامُ بالوحيَين عند الفتن، والتمسُّك بهما عند التنازُع والاختلاف، والتحاكُم إليهما في كل فُرقةٍ ونزاعٍ وخِصامٍ هو السبيلُ الأوحَدُ للمُسلمين، لدفع شُرور الانحِرافات المُتنوِّعة، والاضطرابات المُختلفة، والفوضَى المُنتشِرة في عالَم المُسلمين اليوم، وإن حادُوا عن ذلك فلن يجِدوا إلا الخيبةَ والدمار.
وأضاف الشيخ: الأصلُ الرابع: الأمنُ مطلبُ كل أمةٍ، وغايةُ كل دولة، ألا وإن الأمنَ بكافَّة صوره، ومُختلف أشكاله عمادُه تحقيق الإيمان الصادق بالله - جل وعلا -، عقيدةً صحيحةً، وقولاً مُستقيمًا، وسُلوكًا يُوافقُ القرآنَ والسنَّة. الأمنُ رُكنُه الأساس فعلُ الأوامر القرآنية، والحرصُ على تنفيذ التوجيهات النبوية، والعمل بالشريعة الإسلامية في كل شأنٍ من شُؤون هذه الحياة، صغيرِها وكبيرِها، (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) [الأنعام: 82]، وقصرُها على نوعٍ من الأمن قصرٌ يبعُد عن مقاصِد كتاب الله - جل وعلا -.
وأضاف فضيلته: الأصلُ الخامس: إن أهم عوامل القوة في الأمة التعاوُن على البرِّ والتقوى، والاتحاد على الخير والهُدى، وإن من أعظم المصائِب التي ابتُلِيَت بها الأمةُ الإسلامية، وفتكَت في سواعِد قواها، وأطاحَت برايات مجدِها: الاختلاف والتفرُّق والخِصامَ والتنازُع الذي خلَّفه الاستخرابُ الماضِي في القرون السالِفة، (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [الأنفال: 46].
وقال وفقه الله: آخرُ هذه الأصول: أن يلزمَ الناسُ عند ظهور الفتنِ المسالِكَ الشرعية، والتوجيهات القرآنية، والسيرةَ النبوية، وفقَ قوله - جل وعلا -: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) [النساء: 83]. وقال - صلى الله عليه وسلم -: «عبادةٌ في الهَرْج كهِجرةٍ إليَّ». فعلى المُسلمين أن يعلموا أن شأنَ اللسان والقلم خطيرٌ في تأجيج الفتن، وإسعار نارها، فزمنُ الفتنة مظنَّةٌ للزَّلل والخطأ، (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ) [النور: 15].
وختم الشيخ خطبته بالحث على إمساك اللسان في الفتن، فقال: إن العلماءَ والساسةَ والمُثقَّفين والإعلاميين لواجبٌ عليهم في هذا الزمن التثبُّت، يجبُ عليهم أن يتثبَّتوا في تصرُّفاتهم وقت الفتن، وألا يُقدِموا على ما يُؤجِّجُ الفتنةَ ويزيدُ في استِعارها. ومن تابعَ الفتنَ الماضيةَ في أرض المُسلمين علِمَ صدقَ ما أخبرَ به النبي - صلى الله عليه وسلم -، واستيقنَ بذلك قلبُه، في حديثٍ ضعَّفه بعضُ أهل العلم، وأشارَ بعضُهم إلى تحسينِه، ولكن معناه تشهَدُ له الأصولُ الشرعية، والنصوصُ الخاصةُ والعامَّة. ألا وهو الحديثُ المرفوع: «ستكونُ فتنةٌ عمياءُ صمَّاء بكماءُ، من استشرفَ لها أشرفَت له، وإشرافُ اللسان فيها كوَقع السيف». وما وقعَت فتنٌ عبرَ التأريخ إلا وأصلُ مبدئِها من اللسان ومن القلم. لهذا قال ابن عباسٍ - رضي الله عنه - وهو يتحدَّثُ عن الفتن: "إنما الفتنةُ باللسان، وليست الفتنةُ باليد". ويشهَدُ لذلك ما رآه المُسلمون في فتن هذا الزمن، التي عظُم شرُّها، واستطارَ ضررُها، والله المُستعان.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم