اقتباس
حُبّ الديار في الإسلام يعني الالتِزامَ بقِيَمٍ فاضِلَة، ومبادِئ زاكِية، ويعني: التعاوُن على جَلبِ على خيرٍ وصلاحٍ للبلاد وأهلِها، ودفعِ كل فسادٍ وعناءٍ عن الدِّيار وساكِنِيها. وإن حُبَّ البلاد يقضِي بأن يعيشَ كلُّ فردٍ مع إخوانِه في بلادِه بمحبَّةٍ وتوادٍّ، وتراحُمٍ وتعاطُفٍ.. إنه الحبُّ الذي يبعَثُ على التواصِي بالبرِّ والتقوَى، والتناصُحِ على ما فِيه خَيرُ الدِّيار وإعمارُ الدار.
مكة المكرمة:
ألقى فضيلة الشيخ صالح بن محمد آل طالب - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "تأمُّلات مع سُورة المُؤمنون"، والتي تحدَّث فيها عن سُورة الفلاح "سُورة المُؤمنون"، ووقفَ على بعضِ المعاني التدبُّرية التي اشتملَت عليها هذه السورة العظيمة، مُركِّزًا فيها على ذِكرِ أسبابِ الفلاحِ مِن خلال العِبَر والعِظات والقصص الموجُودة في السورة.
واستهل الشيخ بالوصية بتقوى الله -تعالى-، فقال: اتَّقُوا الله حقَّ التقوَى، واستمسِكُوا بالعُروة الوُثقَى.
وأضاف الشيخ: في كِتابِ الله تعالى سُورةٌ تُسمَّى "سورة الفلاح"، وهي في المصاحِف سُورة المُؤمنون، تُعلِّقُ الأبصارَ بالآخرة، وتُطمئنُ المُؤمنين إلى مُستقبلهم الطيِّب، أما الكافِرُون فالوَيل لهم. بدأَها الله بذِكر الفلاح، وختَمَها بذِكر الفلاح. بدأَها الله بذِكر فلاحِ المُؤمنين فقال: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) [المؤمنون: 1]، وختَمَها الله بنفي الفلاح عن الكافِرِين فقال: (إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ) [المؤمنون: 117]، وما بين مُفتَتَحها والخِتام ذكَرَ الله صِفات المُفلِحين، وقصصَ الأنبياء مع أقوامِهم؛ فمَن آمنَ فقد أفلحَ ونجَا.
وقال حفظه الله: ذكر الله في تضاعِيفِ السورة مِن أسبابِ الفلاح، وفي آخرها خاتمةَ المُفلِحين والمُكذِّبين، ذكرَ الله مِن صِفات المُفلِحِين: أداء الصلاة والزكاة، وهما القرينتَان في دينِ الله، كما ذكرَ الله مِن صِفاتِ المُفلِحِين: حِفظَ اللسان وحِفظَ الفَرْج، وهما القَرِينان. وقد جاء تعظيمُ إثمِ الكذِبِ الذي يشتهِرُ في الناسِ وتغليظُه، خِلافَ الكذِبِ الذي لم يشتهِر.
وتابع فضيلته: كما ذكرَ الله مِن صِفاتِ المُفلِحِين: حِفظَ الأمانة، ورِعايةَ العهُود والعقُود، فليسُوا كالمُنافِقين الذين إذا عاهَدَ أحدُهم غدَر، وإذا خاصَمَ فجَر، وإذا حدَّثَ كذَب، وإذا وعَدَ أخلَفَ، وإذا اؤتُمِنَ خانَ. وصِفاتُ المُفلِحين مزِيجٌ مِن العقائِد والأخلاق والعبادات والمُعاملات، وقد وُعِد المُتمسِّك بها بالفلاح: (أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [المؤمنون: 10، 11].
وقال وفقه الله: وفي ثنايَا سُورة المُؤمنون أسبابُ الفلاح لائِحة، ونفَحَات المولَى الكريم غادِيةٌ رائِحة. فمِن أسبابِ الفلاحِ في هذه السورة: أكلُ الحلال، وتدبُّرُ القرآن الكريم، والإيمانُ به، والوقوفُ عند أوامِرِه ونواهِيه، فكِتابُ الله هو النورُ والهُدى والرحمة، ومِن أسبابِ الفلاح: معرِفةُ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم-، والإيمانُ به، والتمسُّكُ بهَديِه، والاعتِبارُ بما جرَى له مِن أحوالٍ. وهذان الأمران هما الأصلَان اللذان لا عُدُولَ عنهما، ولا فلاحَ ولا هُدًى إلا بهما، والعِصمةُ والنجاةُ في التمسُّك بهما، يجمَعُهما قولُ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه الحاكِمُ وصحَّحه -: "إني قد ترَكتُ فيكُم شيئَين لن تضِلُّوا بعدَهما: كِتابَ الله وسُنَّتي".
وختم الشيخ خطبته بالتأكيد على أهمية الدعاء والصبر فقال: ومِن أسبابِ الفلاح في سُورة الفلاح: الدُّعاء، (إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) [المؤمنون: 109]، دُعاءٌ بقلبٍ خاشِعٍ، ولِسانٍ ضارِعٍ، وطَرفٍ دامِعٍ أن يسلُكَ الله بك طريقَ المُفلِحين، وأن يُثبِّتَك على الإسلام حتى تلقَاه.
قال حُذيفةُ -رضي الله عنه-: "ليأتِيَنَّ على الناسِ زمانٌ لا ينجُو فِيه إلا مَن دعَا كدُعاءِ الغرِيقِ" (رواه ابنُ أبي شيبة بإسنادٍ صحيحٍ). وكان مِن دُعاءِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "يا مُقلِّبَ القُلوبِ! ثبِّت قَلبِي على دينِك".
وتزدادُ الحاجةُ لذلك في أوقاتِ الفتَن، واضطِرابِ الأحوال. ومِن أسبابِ الفلاح في سُورة المُؤمنون: الصبرُ، (إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ) [المؤمنون: 111]. وما نالَ أحدٌ خيرًا في الدنيا والآخرة بعد فضلِ الله تعالى ورحمتِه إلا بالصبرِ، وبالصبرِ واليقين تُنالُ الإمامةُ في الدين. ومما يُعينُ على الصبرِ: تصوُّرُ العاقِبة، واليقينُ أن الصبرَ عن معاصِي الله أيسَرُ مِن الصبرِ على عذابِ الله، (وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) [هود: 115]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [آل عمران: 200].
المدينة المنورة:
ألقى فضيلة الشيخ حسين بن عبد العزيز آل الشيخ - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "حبُّ الأوطان في الإسلام"، والتي تحدَّث فيها عن حُبِّ البلاد في الإسلام، وأنه نعمةٌ ينبغي على العبد شُكرَها، ثم ذكر الحُقُوق الواجِبة على الإنسان تجاه بلدِه.
واستهل فضيلته خطبته بالوصية بتقوى الله تعالى، فقال: فيا أيها المُسلمون: أُوصِيكُم ونفسِي بتقوَى الله -جلَّ وعلا-؛ فبها تنالُوا الخيرات، وتتنزَّلُ البركات.
وأضاف الشيخ: مِن أثمَن الأشياء عند أهل الفِطَر السليمة: حُبُّ البلاد التي وُلِدُوا فيها وعاشُوا على ثَراها، وأكلُوا مِن خيرات الله - جلَّ وعلا - فيها. وإن هذه الحقيقةَ قد أقرَّتْها شريعةُ الإسلام، وأحاطَتْها بحُقوقٍ وواجِباتٍ رِعايةً لمصالِح الدين والدنيا معًا؛ فقد اقتَرَن حُبُّ البلاد والدِّيار عند الإنسان بحبِّ النفسِ.
وقال حفظه الله: وفي قضيَّة حُبِّ الدِّيار ومحبَّة البلاد يُخاطِبُ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- مكةَ المُكرَّمة، يُخاطِبُها بحُزنٍ وشَوقٍ فيقولُ: "ما أطيَبُكِ مِن بلدٍ، وما أحبُّكِ إلَيَّ، ولولا أن قومَكِ أخرَجُونِي مِنكِ ما سكَنتُ غيرَكِ" (رواه الترمذي). وعندما أرادَ الله - جلَّ وعلا - له الهِجرةَ إلى المدينة، وعاشَ في أرضِها وأقامَ، وتنوَّرَت برسالتِه.
ومِن أعظمِ نِعَم الله على العبدِ: استِقراره في بلدِه آمِنًا على نفسِه وأهلِه، عابِدًا ربَّه، مُطِيعًا لخالِقِه.
وأكد فضيلته أن حُبَّ الديار في الإسلام يعني: الالتِزامَ بقِيَمٍ فاضِلَة، ومبادِئ زاكِية. إنه يعني: التعاوُن على جَلبِ على خيرٍ وصلاحٍ للبلاد وأهلِها، ودفعِ كل فسادٍ وعناءٍ عن الدِّيار وساكِنِيها. وإن حُبَّ البلاد يقضِي بأن يعيشَ كلُّ فردٍ مع إخوانِه في بلادِه بمحبَّةٍ وتوادٍّ، وتراحُمٍ وتعاطُفٍ.. إنه الحبُّ الذي يبعَثُ على التواصِي بالبرِّ والتقوَى،
والتناصُحِ على ما فِيه خَيرُ الدِّيار وإعمارُ الدار.
وأوضح فضيلته أنه الحبُّ للبلاد الذي يقتَضِي الدِّفاعَ عن دينِها وعن منهَجِها وثوابتِها، والدِّفاعَ عن أرضِها ومُقدَّراتها، كلٌّ حسب قُدرتِه وطاقتِه ومسؤوليَّتِه، وإلى هذه الحقيقةِ يهدِفُ قولُه -صلى الله عليه وسلم-: "مَن قُتِلَ دُون مالِه فهو شهِيدٌ، ومَن قُتِلَ دُون أهلِه فهو شهِيدٌ، ومَن قُتِلَ دُون دينِه فهو شهِيدٌ، ومَن قُتِلَ دُون نفسِه فهو شهِيدٌ"؛ رواه الترمذي وأبو داود، وصحَّحه الحُفَّاظ.
وتابع الشيخ: إنه الحُبُّ للبلاد الذي يُلزِمُ أفرادَ المُجتمع أن يتصدَّوا لكلِّ مُخطَّطٍ ينالُ مِن مُقدَّرات البلاد ومصالِحِها الدينية والدنيوية معًا. ولا شكَّ أن مِن المُنكَرات: الوسائل والمُخطَّطات التي تنالُ مِن عقيدةِ البلاد وثوابتِها، او تنالُ مِن مُقدَّراتها وخيراتِها، أو تُزعزِعُ أمنَها واستِقرارَها.
وقال وفقه الله: وحُبُّ المُسلم لديارِه يجعلُه مُلزَمًا بأن يُحبَّ لبلادِه ووُلاتِها وأهلِها ما يُحبُّ لنفسِه، وأن يرعَى مصالِحَها كما يُحبُّ ويرعَى مصالِحَه الخاصَّة، ومنافِعَه الذاتيَّة.
وأشار الشيخ إلى أن مِن مفاهِيم حُبِّ البلاد في الإسلام: أن يحرِصَ كلُّ فردٍ مِن أفرادِ المُجتمع على كفِّ الأذَى والضَّرر عن البلاد وأهلِها.
ومِن حُقوقِ البلاد وأهلِها على أفرادِه: أن يحذَرَ المُسلمُ مِن الخِيانةِ لبلادِه ولوُلاتها ولمُجتمعها، وإن أقبَحَ صُور الخِيانة استِغلال الوظائِف والمناصِب للمصالِح الشخصيَّة، ومِن أقذَرِ أشكالِ ذلك الفسادُ بشتَّى أنواعِه، خاصَّةً الفسادَ المالِيَّ.
وختم الشيخ خطبته ببيان بعض حقوق الوطن على المقيمين فيه، فقال: ومِن حقِّ البلادِ علينا: التعاوُنُ مع مَن ولَّاه الله أمرَ سِياسةِ البلاد، بالعمل الصادِقِ معهم في الظاهِرِ والباطِنِ، وأن نعلَمَ أن طاعتَهم في غير معصِيةٍ واجِبٌ مِن واجِبات الشريعة الإسلامية، وأن يحرِصَ كلٌّ مِنَّا على لَمِّ اللُّحمةِ ووحدةِ الصفِّ، وجمعِ الكلِمة، وأن يكون الجميعُ مُجنَّدِين لحِمايةِ البلاد مِن كل مُخطَّطٍ يهدِفُ للإضرارِ والإفساد.
وإذا تقرَّرَ أن حُبَّ الوطن أمرٌ جِبِلِّيٌّ أقرَّتْه شريعةُ الإسلام، فكيف ببلدٍ يضُمُّ بين جُغرافيَّته الحرمَين الشريفَين، والبيتَين الكريمَين؟! إنها بلادُ الحرمَين التي قامَت على الإسلام منهَجًا ودُستُورًا، وعلى عقيدةِ التوحيدِ قَلبًا وقالَبًا، تحكُمُ محاكِمُها بالشرعِ المُطهَّر. بلدٌ عاشَ أهلُها على السنَّة وتعظيمِها، وإنكارِ البِدع ومُدافعتها. فواجِبٌ على أهلِها وهم ينعَمُون بالنِّعَم الوافِرة أن يتعاوَنُوا على ما فِيه سلامةُ أمنِ هذه البلاد، وأن يقِفُوا بالمِرصاد لكلِّ مُخرِّبٍ ومُغرِّبٍ، لاسيَّما في مثلِ هذه الظُّروفِ العِصِيبَة التي تعصِفُ بالعالَم كلِّه.
حافِظُوا -رعاكُم الله- على استِقرار أمنِكم، وحمايةِ بلدِكم مِن أعاصِير الفتن المُتنوِّعة، واحذَرُوا مِن دعوات الشرِّ والفساد، ووسائل التفريقِ والتمزيقِ والتشرذُمِ، واحرِصُوا على التمسُّك بما عُرِفَت به هذه البلادُ مِن منهَجِ السنَّة الواضِحِ الصافِي النقيِّ، الذي لا يُقَرُّ فِيه التطرُّفُ ولا الغلُوُّ، ولا يُعرفُ فِيه منهَجٌ بِدعيٌّ، أو فِكرٌ مُنحرِفٌ مما يُخالِفُ ما قامَت عليه هذه البلادُ مِن قِيَمٍ إسلاميَّةٍ، وأخلاقٍ شرعيَّة، ومناهِجَ عاشَ الناسُ فِيها لُحمةً واحِدةً، مُتعاوِنِين على كل خيرٍ، مُتآلِفِين على النافِعِ والصالِحِ للبلاد والعباد، وَفقَ التعاوُن الصادِقِ المُخلِصِ مع وُلاةِ أمرِها؛ لتحقيقِ المصالِح المرجُوَّة، ودَرءِ المفاسِد المُتوقَّعة.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم