اقتباس
إن صِبغةَ الله ظاهِرةٌ جلِيَّةٌ في منعِ الضَّررِ والضِّرار، حيث تعُمُّ كلَّ ضررٍ كان سابِقًا، أو حاضِرًا، أو لاحِقًا؛ لأن الضَّررَ والضِّرارَ جهلُ وفسُوقٌ يحجِزانِ المُجتمعَ البشريَّ عن الفَلاحِ للفردِ، والأُسرةِ، والبِيئةِ، والمُجتمع، ما لم تكُن إزالةُ الضَّرر والضِّرار من أولويَّاته في تشريعِه وسلُوكِه ورَقابَتِه، فإن أذِيَّة المُسلم من أعظم ما نهَى الله عنه ونهَى عنه رسولُه - صلى الله عليه وسلم -..
مكة المكرمة:
ألقى فضيلة الشيخ سعود الشريم - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "لا ضررَ ولا ضِرارَ"، والتي تحدَّث فيها عن الضرر ووجوب دفعه أو رفعه، مع ذِكر حُرمةِ أذيَّة المُسلم في نفسِه أو دينِه أو مالِه أو عِرضِه أو عقلِه، مُبيِّنًا أن هذه عظمةُ دين الإسلام، كما ذكرَ بعضَ الأدلَّة من الكتاب والسنَّة على ذلك.
واستهل الشيخ بالوصية بتقوى الله -تعالى- فقال: اتقوا الله يا عباد الله؛ فإن تقوى الله سبيل النجاة.
وأضاف الشيخ: لقد أكرمَ الله أمةَ الإسلام بشريعةٍ غرَّاء كامِلةٍ بإكمالِ العليمِ الخبير لها، هي قِوامُ الأمة المُسلِمة صحيحةً، ودواؤُها إذا غشِيَها اعتِلالُها؛ شريعةُ الكمال التي لا يعتَرِيها النَّقصُ بوجهٍ من الوجوهِ، وشريعةُ الحُسن التي لا يشُوبُها قُبحٌ ولا عيبٌ. كيف لا؟ والمُشرِّعُ هو من لا تخفَى عليه خافِية، مَن يعلَم ونحن لا نعلَم، مَن لا تُحيطُ المخلُوقاتُ بشيءٍ مِن علمِه إلا بما شاء، مَن يعلَمُ ما كان، وما يكُون، ولو كان كيف يكون.
وقال حفظه الله: إن الكلمةَ الجامعةَ المُختصرَة التي يُمكن أن تُوصَفَ شريعةُ الإسلام بها هي: أنها جاءَت لتحقيقِ المصالِح ودرءِ المفاسِد، أو فَتحِ أبوابِ الخير، وإغلاق أبوابِ الشرِّ في العقيدةِ، والتشريعِ، والخبَر، والإخبار، ولا تدَعْ ضرورةً من الضَّروراتِ الخَمسِ التي أجمعَ الناسُ عليها إلا سعَت إلى تحقيقِ المصلَحة فيها، ودَرء المفسَدَة عنها، في ضرورةِ الدين، وضرورةِ النفسِ، وضرورةِ العقلِ، وضرورةِ المالِ، وضرورةِ العِرضِ.
وبيَّن فضيلته أن المسلمين: لن يجِدُوا أمرًا من أمور الدين والدنيا إلا هو راجِعٌ إلى أحد هذين الأصلَين العظيمَين، ولما كان الضَّررُ والضِّرارُ خطَرَين عظيمَين، ومفسدَتَين ظاهِرتَين أحاطَتهما شريعتُنا بسِياجٍ منيعٍ يحمِي الأمةَ - فردًا وجماعةً - من الوقوعِ في شَرَكِهما، أو الالتِياثِ بعَدواهما. لذلكم جاء من مِشكاةِ النبُوَّة ما يدُلُّ على منعهما، والنهيِ عن مُقاربَتهما، فضلًا عن الوقوعِ فيهما. فعن أبي سعيدٍ الخُدريِّ - رضي الله تعالى عنه -، أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا ضَرَرَ ولا ضِرارَ» (رواه ابنُ ماجه والدارقطنيُّ وغيرُهما).
وتابع فضيلته: ومن هنا اتَّفقَ أهلُ العلمِ قاطِبةً على قاعدةٍ مشهُورةٍ كُبرَى، تُعدُّ قِوامًا في الفِقهِ وحفظِ الشريعة، وهي قاعِدةُ: "الضَّررُ يُزال". أجل .. عباد الله، الضَّررُ يُزال، الضَّررُ ممنوعٌ كلُّه، والضِّرارُ ممنُوعٌ كلُّه، فإذا تحقَّقَ أحدُهما أو كِلاهُما في أمرٍ وجَبَ إزالتُه إن وقَع، أو دَفعُه قبل أن يقَع.
وأوضح الشيخ أنه: قد رتَّبَ الشارِعُ الحكيمُ الأجرَ والمثُوبةَ على ذلكم، كما قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «وتُميطُ الأذَى عن الطريقِ صدقةٌ» (متفق عليه). وهذا يعُمُّ كلَّ أذًى، وكلُّ أذًى ضررٌ صغيرًا كان أو كبيرًا، قاصِرًا كان أو مُتعدِّيًا؛ فقد صحَّ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه "نهَى أن يُتعاطَى السَّيفُ مسلُولًا" (رواه أبو داود والترمذي).
وقد قال مَن أُوتِيَ جوامِع الكلِم - صلواتُ الله وسلامُه عليه - عن ذلكُم كلِّه: «مَن ضارَّ مُسلِمًا ضارَّه الله، وكَن شاقَّ مُسلِمًا شقَّ الله عليه» (رواه أبو داود والترمذي، وحسَّنه). والمعنى: أن الجزاءَ مِن جنسِ العملِ.
وقال وفقه الله: إنه مهما كانت العقولُ البشريَّة من النُّضجِ والتفكيرِ والمعرِفةِ، لم ولن تستطيعَ أن تأتِيَ بأكملَ، ولا أتقنَ، ولا أعدلَ مِن هذه القاعِدة الشرعيَّة العظيمة؛ لأن العُقولَ مهما كبُرَت فهي صغيرةٌ أمامَ علمِ الله وحِكمتِه، والأفهامَ مهما اتَّسَعَت فهي ضيِّقةٌ أمامَ إحاطةِ الله بكلِّ شيءٍ.
وأكَّد الشيخ أن صِبغةَ الله ظاهِرةٌ جلِيَّةٌ في منعِ الضَّررِ والضِّرار، حيث تعُمُّ كلَّ ضررٍ كان سابِقًا، أو حاضِرًا، أو لاحِقًا؛ لأن الضَّررَ والضِّرارَ جهلُ وفسُوقٌ يحجِزانِ المُجتمعَ البشريَّ عن الفَلاحِ للفردِ، والأُسرةِ، والبِيئةِ، والمُجتمع، ما لم تكُن إزالةُ الضَّرر والضِّرار من أولويَّاته في تشريعِه وسلُوكِه ورَقابَتِه، فإن أذِيَّة المُسلم من أعظم ما نهَى الله عنه ونهَى عنه رسولُه - صلى الله عليه وسلم -.
وختم الشيخ خطبته بالتأكيد على أن مِن سماحةِ الإسلام وعَدلِه ألا يدفعَ الضَّررَ بضررٍ مِثلِه، ولا بضررٍ أعلَى منه، ولا المُنكَر بمثلِه، ولا بأنكَرَ منه، وإذا ما تزاحَمَت الأضرارُ في الأمرِ الواحدِ فيُرتكَبُ الضَّررُ الأصغرُ لتَفوِيتِ الضَّررِ الأكبَر، وهذا مِن تمامِ الحِكمةِ والعَدلِ والمنطِقِ، مثلما أنه ينبَغي تحصِيلُ اعلى النَّفعَين، فكذلك ينبَغي درءُ أعظم الضَّرَرَين. ألا ترَون أن القاتِلَ يُقتَل، والزَّانِيَ يُرجَم أو يُجلَد، والسارِق تُقطعُ يدُه، وشارِب الخَمر يُجلَد، فهذه كلُّها مضرَّاتٌ تَلحَقُ بالجانِي؛ ليُدفعَ بها ضررٌ أكبر على النفسِ والعِرضِ والعقلِ والمالِ، (وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) [البينة: 5].
المدينة المنورة:
ألقى فضيلة الشيخ علي بن عبد الرحمن الحذيفي - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "الاستغفار في الكتاب والسنة"، والتي تحدَّث فيها عن الاستغفار وفضائله وفوائده، بادئًا بذكر استغفار الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -، وأوردَ الآيات والأحاديث الدالَّة على ذلك، كما بيَّن مواضِع الاستغفار، وحذَّر في خطبته الثانية من الفتن واتباع الشُّبُهات.
واستهل الشيخ بالوصية بتقوى الله -تعالى- فقال: فاتقوا الله بالعمل بمرضاته، وهجر مُحرَّماته؛ لتفوزُوا برِضوانه ونعيم جناته، وتنجُوا من غضب عقوباته.
وأضاف الشيخ: إن ربَّنا - جل وعلا - كثَّر أبوابَ الخير وطُرق الأعمال الصالحات، تفضُّلاً ورحمةً وجُودًا وكرمًا من ربِ العزَّة والجلال، ليدخُل المُسلم أيَّ بابٍ من الخيرات، ويسلُك أيَّ طريقٍ من طُرق الطاعات، ليُصلِح الله دُنياه، ويرفعَه درجاتٍ في أُخراه، فيُكرِمه المولى - سبحانه - بالحياة الطيبة، والسعادة في حياته، وينالَ النعيم المُقيم، ورِضوان الربِّ بعد مماته. فمن أبوابِ الخير، ومن طُرق الصالحات والطاعات، ومن الأسباب لمحو السيئات: الاستغفار؛ فالاستغفارُ سُنَّة الأنبياء والمُرسلين.
وقال حفظه الله: وكان هديُ نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم -: كثرةَ الاستغفار، مع أن الله تعالى غفرَ له ما تقدَّم من ذنبِه وما تأخَّر؛ فعن ابن عُمر - رضي الله عنهما - قال: كنا نعُدُّ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المجلِس الواحِد مائةَ مرَّة: «ربِّ اغفر لي وتُب عليَّ، إنك أنت التوابُ الرحيم» (رواه أبو داود، والترمذي، وقال: "حديثٌ حسنٌ صحيح"). وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُكثِر أن يقول قبل موته: «سبحان الله وبحمده، أستغفرُ الله وأتوبُ إليه» (رواه البخاري ومسلم).
وقال وفقه الله: والاستغفارُ دأبُ الصالحين، وعملُ الأبرار المُتقين، وشِعارُ المؤمنين.. ويُشرعُ أن يطلُب العبدُ المغفِرة للذنبِ المُعيَّن؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن عبدًا أذنبَ ذنبًا، فقال: يا ربِّ! إني عملتُ ذنبًا فاغفِر لي، فقال الله: علِم عبدي أن له ربًّا يغفرُ الذنبَ، ويأخذُ به، قد غفرتُ لعبدي»؛ رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. كما يُشرعُ للعبد أن يطلُب من ربِّه - سبحانه - مغفرةَ ذنوبِه كلِّها، ما علِم منها وما لم يعلَم، فإن كثيرًا من الذنوبِ لا يعلمُها إلا الله، والعبدُ مُؤاخَذٌ بها.
وبيَّن الشيخ أن: دُعاء العبدِ ربَّه بمغفِرة الذنوب دُعاء إخلاصٍ وإلحاحٍ، وسُؤال تضرُّع وتذلُّل، يتضمَّن التوبةَ من الذنوب، وسُؤالُ التوبة والتوفيقُ لها يتضمَّنُ الاستغفار، فكلٌّ من الاستغفار والتوبة إذا ذُكر كلٌّ منهما بمُفرده تضمَّن الآخر، وإذا اجتمعَا في النصوص كان معنى الاستغفار طلبَ محو الذنب وإزالة أثره، ووقاية شرِّ ما مضَى من الذنبِ وسَتره. والتوبة الرجوعُ إلى الله بترك الذنوب، ووِقاية ما يخافُه في المُستقبل من سيئاتِ أعماله، والعزمُ على ألا يفعلَه.
وأكَّد فضيلته أن: العبد مُحتاجٌ إلى الاستغفار دائمًا أشدَّ الحاجة، ولاسيَّما في هذا الزمان؛ لكثرة الذنوب والفتن، ليُوفِّقه الله في حياته وبعد مماته، ويُصلِح شأنَه. فالاستغفارُ بابُ خيرات، ودافِعُ شُرورٍ وعقوبات، والأمةُ بحاجةٍ شديدةٍ إلى دوام الاستغفار، ليرفعَ اللهُ عن الأمة العقوبات النازِلة، ويدفَع العقوبات المُستقبَلة، ولا يزهَدُ في الاستغفار إلا من جهِلَ منافِعَه وبركاته. فكثرةُ استغفار الأمة رافعٌ ما نزل ووقع، ودافِعٌ ما سينزِلُ؛ لأنه ما نزلَ بلاءٌ إلا بذنب، وما رُفِع إلا بتوبةٍ واستغفار.
وقال حفظه الله: ويُشرعُ أن يستغفرَ المُسلم للمُؤمنين والمؤمنات، والمُسلمين والمُسلِمات، الأحياء منهم والأموات، إحسانًا وحبًّا وسلامةَ صدر، ونفعًا للمُسلمين، وشفاعةً لهم عند الله، قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [الحشر: 10]. وعن عُبادة بن الصامِت - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من استغفرَ للمُؤمنين والمُؤمنات، كتبَ الله له بكل مُؤمنٍ ومُؤمنةٍ حسنة»؛ قال الهيثميُّ: "إسنادُه جيِّد".
وختم الشيخ خطبته بالتحذير من الفتن، فقال: احذَروا الفتنَ على الشباب؛ فإنها تضُرُّ الدينَ والدنيا، وتُوبِقُ العبدَ في الآخرة، وتُفسِد المعاشَ في الحياة، فالسعيدُ من جُنِّب الفتن ما ظهر منها وما بطَن. وأعظمُ فتنةٍ أن يلتبِس على المرء الحقُّ والباطلُ، والهُدى والضلال، والمعروفُ والمُنكَر، والحلالُ والحرام. وقد خبطَت البلادَ والعبادَ فتنٌ كثيرة، اختطفَت بعضَ شباب المُسلمين من محاضِنهم الآمِنة، ومُحيطهم الحَصين، ومُجتمعهم الحانِي، وأقربائِهم الناصِحين لهم إلى انحرافٍ في الفِكر الضالِّ، واتباعٍ ومُوالاةٍ لخوارِج العصر، فقادَهم خوارِجُ العصر إلى تكفير المُسلمين، وسفك الدم المعصُوم. بل أفتَوهم بتفجير أنفسهم وقتلها - والعياذ بالله -.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم