اقتباس
التلاوُم لا تطاوُع معه ولا اتفاق؛ بل هو خلافٌ وخِصامٌ لا خيرَ فيه؛ ولذلك فإن ظاهرةَ التلاوُم لم تكُن في أسلافِنا من قبلُ؛ لأن دواعِيَه - من الأنانية، والمُكابَرة، واللامُبالاة - لم تضرِب بأوتادِها بين ظهرانِيهم؛ إذ النفوسُ صافيةٌ، والقلوبُ مُتواضعةٌ، والشعورُ بالتقصير ديدَنُ كل واحدٍ منهم، وتقديمُ المصالِح العامَّة عندهم أولَى من المصالِح الخاصَّة.
مكة المكرمة:
ألقى فضيلة الشيخ سعود الشريم - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "التحذير من إلقاء اللوم"، والتي تحدَّث فيها عن التلاوُم، وهو: إلقاء اللَّوم فيما بين المسلمين، وأوردَ ذمَّه في الكتاب والسنة وآثار السالفين، مُحذِّرًا من التخلُّق به، مُبيِّنًا الفرقَ بينه وبين اللَّوم، كما بيّن مفارقته للنصح والإصلاح.
وأوصى فضيلته المصلين بتقوى الله -عز وجل– وحذرهم من كثرة البلايا والفتن في هذا الزمان ودعاهم للنظر في أسباب حدوثها قائلاً: إنه لا يخفَى على كل لبيبٍ سبَرَ ما حلَّ بواقع أمتِنا الإسلامية من نوازِل ومُدلهِمَّاتٍ يتبَعُ بعضُها بعضًا، إبَّان غفلةٍ من عُقلائِها، لَيُدرِكُ أن كثرتَها ليس أمرًا غيرَ اعتياديٍّ، ولا بِدعًا من الأحداث والنوازِل التي لا تأتي طفرةً دون مُقدِّماتٍ وأسبابٍ أذكَتها؛ لتحلَّ بنا أو قريبًا من دارِنا.
وأضاف الشيخ: وهذه الأحداث - أيًّا كان لونُها وحجمُها - فإننا جميعًا لسنا مُبرَّأين من كونِنا سببًا فيها من قريبٍ أو بعيد؛ لأن البارِيَ - جلَّ شأنُه - يقول: (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ) [الشورى: 30].
وأكد فضيلته أن الأمة الواعية المُوفَّقة هي التي تنظرُ بعين الجِدِّ تُجاه تلكُم الأحداث، فتدرُس أسبابها، وتستجلِبُ علاجَها. وهي في الوقتِ نفسِه تتقِي داءً خطيرًا لا يزيدُ المصائِبَ إلا بلاءً، وليس هو من العلاجِ في وِردٍ ولا صدر، وهو ما يُعانِي منه جُلُّ المُجتمعات في مواجهة تلكُم المصائِب والمُدلهِمَّات المُتتالية. ألا إنه: "داءُ التلاوُم".
نعم، التلاوُم الذي يزيدُ المِحَن اشتعالاً ولا يُطفِئُها. التلاوُم الناشِئُ بعد كل فشلٍ أو خسارةٍ أو مِحنةٍ؛ لتغطية الفشل به، والهروب من الاعترافِ بالخطأ والندم عليه، والعزم على عدم تكراره.
وأضاف فضيلته أن: التلاوُم -عباد الله- صورةٌ من الإنكارِ السلبيَّة؛ إذ ليس هو توبيخًا إيجابيًّا، ولا عتابًا محمودًا، وإنما هو جزءٌ من الأنانية والأثَرَة؛ إذ كلُّ شخصٍ يُلقِي باللائمة على الآخر مع أنهما مُخطِئان جميعًا، لكنها المُكابَرة، والهروبُ من المسؤولية، والتقاعُسُ عن الإصلاح، على حدِّ قولِ من قال: "رمَتني بدائِها وانسلَّت".
وبيّن سماحته: أن التلاوُم إلى الخِصام أقربُ منه إلى النُّصح والإصلاح؛ لأن المصائِب تُنشِئُ تدارُسَ العلاج، والتلاوُم يَئِدُه في مهدِه، وهو صورةٌ من صُور إفلاسِ المُجتمعات في التعامُل مع مصائِبِها ونوازِلها الحالَّة بها. وهو غالبًا ما يكونُ في رميِ الآخر بما تلبَّسَ به الرامِي نفسُه.
وأضاف الشيخ: أن المُهمَّات العظيمة والمصالِح المُشتركة لأمة الإسلام لا ينبغي أن يغشاها التلاوُم؛ لأن الأمور الكبيرة لا يحتمِلُها إلا النفوسُ الكبيرة، وقد أوصَى النبي - صلى الله عليه وسلم - مُعاذَ بن جبلٍ وأبا موسى الأشعريَّ - رضي الله تعالى عنهما -، حين بعثَهما إلى اليمن داعِيَين إلى الله، فقال لهما: «تطاوَعا ولا تختلِفا»؛ (رواه البخاري ومسلم).
ونوّه فضيلته أن التلاوُم لا تطاوُع معه ولا اتفاق؛ بل هو خلافٌ وخِصامٌ لا خيرَ فيه. ولذلك - عباد الله - فإن ظاهرةَ التلاوُم لم تكُن في أسلافِنا من قبلُ؛ لأن دواعِيَه - من الأنانية، والمُكابَرة، واللامُبالاة - لم تضرِب بأوتادِها بين ظهرانِيهم؛ إذ النفوسُ صافيةٌ، والقلوبُ مُتواضعةٌ، والشعورُ بالتقصير ديدَنُ كل واحدٍ منهم، وتقديمُ المصالِح العامَّة عندهم أولَى من المصالِح الخاصَّة.
وأكد الشيخ في ختام خطبته على أن السلف الصالح كان همُّهم التِماسَ رِضا الله والبُعد عما يُسخِطُه، فحسُنَت حالُهم، وأصلَح الله شأنَهم، فلم يحِلَّ بهم مُعضِلةٌ إلا خرجوا منها كما تخرجُ الشعرةُ من العجين، فهم لم يكونوا ملائكةً، وليسُوا مُنزَّهين من الخطأ؛ بل يُخطِئون ويُصيبُون، فيتوبون إذا أخطأوا، ويشكُرون إذا أصابُوا. لكننا قد خالَفنا نهجَهم، فصدقَ فينا قولُ ابن مسعودٍ - رضي الله تعالى عنه -: "يأتي على الناس زمانٌ أفضلُ أعمالهم بينهم: التلاوُم" (رواه أبو داود).
المدينة النبوية:
من جانبه ألقى فضيلة الشيخ صلاح البدير - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "التوبة قبل الممات"، والتي تحدَّث فيها عن التوبة والمُسارعة إليها قبل فوات الأوان.
وأوصى فضيلته المصلين قائلاً: اتقوا الله؛ فإن تقواه تجلِبُ المسرَّة، وتدفعُ المضرَّة، وترفعُ المعرَّة..
وأضاف فضيلته: المنايا للخلق راصِدة، والحوادث لهم حاصِدة، والغِيَر نحوهم قاصدة.. فيا من يرى العِبَر بعينيه .. ويسمعُ المواعِظَ بأُذنَيه .. والنذيرُ قد وصلَ إليه .. وكلِماتُه تُلقَى عليه.. أقبِل على مولاكَ مُنكسِرًا .. ولُذ ببابِ جُودِه مُعتذِرًا .. وارفَع يديكَ مُفتقِرًا..
وحث الشيخ كل مذنب عاصٍ على التوبة قائلاً: يا حاملاً من الذنوبِ أثقالاً .. يا مُرسِلاً عنانَ لهوِه في ميدان زهوِه أرسالاً .. يا من أصمَّه الهوى وأعماه .. وأسقمَه وأشقاه .. وأبعدَه وأقصاه. يا من يُبارِزُ مولاه بما يكرَه .. يا من يُخالِفُه في أمرِه آمنًا مكرَه: تُبْ من خطاياك، واعتذِر إلى مولاك.
يا من يُبارِزُ مولاه بما يكرَه .. يا من يُخالِفُه في أمرِه آمنًا مكرَه: تُبْ من خطاياك، واعتذِر إلى مولاك.
تُب من خطايا وابكِ خشيةً*** ما أُثبِتَ منها عليك في الكُتُبِ
أيَّةُ حالٍ تكونُ حالُ فتًى*** صارَ إلى ربِّه ولم يتُبِ
وأضاف الشيخ أن باب التوبة مفتوح لا يُغلق، وأن الله –تعالى- لا يرد تائبًا، مستدلاً بما صح عن أبي موسى الأشعريِّ - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله يبسُطُ يدَه بالليل ليتوب مُسِيءُ النهار، ويبسُطُ يدَه بالنهار ليتوبَ مُسيءُ الليل، حتى تطلُع الشمسُ من مغربها» (أخرجه مسلم).
وتابع فضيلته النصح قائلاً: فتُوبوا قبل كُربة الحشرَجة، وغمِّ الغرغَرة، وموتِ الفجأة .. واستدرِكوا قبل الفوات والممات، (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر: 53].
وختم الشيخ خطبته بحث المصلين على التوبة والتيقظ من الغفلة قائلاً: إن من مقالات الماضِين الأولين من أئمة الهُدى والدين: "لا تُؤخِّر التوبة؛ فإن الموتَ يأتي بغتة".
وقيل: "الداءُ الذنوب .. والدواءُ الاستغفار .. والشفاءُ أن تتوبَ ثم لا تعود".
وقيل: "من أرادَ التوبةَ فليخرُج من المظالِم".
وقيل: "علامةُ التوبة: البُكاء على ما سلَف .. والخوفُ من الوقوع في الذنبِ .. وهُجران إخوان السُّوء .. ومُلازمةُ الأخيار".
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم