مختصر خطبتي الحرمين 27 صفر 1436هـ

ملتقى الخطباء - الفريق الإعلامي

2022-10-04 - 1444/03/08
التصنيفات:

اقتباس

من أعظم ما يُسيءُ إلى الإسلام ويُبطِئُ من دعوتِه، ويحُدُّ من انتِشارِه: تصرُّفاتُ بعضِ المُسلمين، وخاصَّةً من يظُنُّ نفسَه من المُحافِظين عليه،.. وقد رأينا في السنواتِ المُتأخِّرة جرائِمَ من أمثالِ هؤلاء، عمِلَت في الإساءَة للإسلام والدعوة إليه ما لم يستطِع أعداؤُه مثلَه. لم تكُن ساحتُه ساحةَ حربٍ، أو ضحاياها مُحارِبُون؛ بل كان مدارِسَ المسلمين وبيوتَهم وأسواقَهم. وكان آخرُها جريمةُ الهُجوم على مدرَسة أطفالٍ في دولة الباكِستان، راحَ ضحِيَّتَها أكثرُ من مائةٍ وثلاثين قتيلاً، مُعظمُهم من الأطفال.. إنه لا عُذرَ لأولئك القتَلَة عند الله، ولا تبريرَ من أي عقلٍ وعاقلٍ...

 

 

 

 

 

مكة المكرمة:

 

ألقى فضيلة الشيخ صالح بن محمد آل طالب - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "الدعوة إلى الله وظيفة الرسل"، والتي تحدَّث فيها عن الدعوة إلى الله، مُبيِّنًا فضلَها وعِظَم أجر القائمين بها، وأنهم ورثَةٌ لميراث النبُوَّة وهذه الأمانة العظيمة، كما بيَّن أن الدعوة واجبةٌ على كل مسلم.

 

وأوصى الشيخ المصلين بتقوى الله –سبحانه وتعالى-، فقال: فاتقوا الله تعالى - أيها الناس -؛ فالتقوى خيرُ زادٍ وخيرُ لِباسٍ، (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [البقرة: 281].

 

وأضاف فضيلته: إن الله تعالى بعثَ رُسُلَه ليدُلُّوا الناسَ عليه، ويُبصِّروا الخلقَ بالطريقِ المُوصِلَة إليه، وكلما عفَت معالِمُ رسالةٍ سابِقة، وخفَتَ وهَجُ النبُوَّة في نفوسِ أتباعِها؛ بعثَ الله رسولاً يُجدِّدُ من معالِمِ الدين ما ندرَس، ويُحيِي في الناسِ ما عفَا منها أو التَبَس.

 

فلما ختَمَ الله النبُوَّة بسيِّد البشر مُحمدٍ - صلى الله عليه وسلم - جعلَه خيرَ الرُّسُل، وأمَّتَه خيرَ الأُمَم. ومن كرامَة الله -تعالى- لهذه الأمة أن شرَّفَها لتقوم بوظيفَة الرُّسُل في الدعوة إلى الله والدِّلالة عليه، (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)[آل عمران: 110].

 

وقال –وفقه الله-: والدعوةُ إلى الله تكليفٌ دائمٌ لهذه الأمة، (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ )[آل عمران: 104].

 

فواجبٌ على الأمة أن يُبلِّغُوا ما أُنزِلَ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ويُنذِرُوا كما أنذَر، قال الله - عز وجل -: (فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) [التوبة: 122]، وقال - عزَّ من قائل -: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل: 125].

 

وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «بلِّغُوا عنِّي ولو آية». فالأمرُ يقتَضِي وجوبَ الدعوة على كل واحدٍ حسبَ طاقته، وإن كانت فرضَ كفايةٍ .. فأيُّ كِفايةٍ والأمةُ غارِقةٌ في كثيرٍ من أحوالِها في الجهل وضعفِ الاتِّباع، والانحِرافات والبِدَع، مع كثرة المُحتاجِين للدعوة والتعليم من المُقبِلين، فضلاً عن الأُمم الضالَّة والكافِرة.

 

وبيّن فضيلته أن مُستهَلَّ كل دعوةٍ ومُبتدَأَ كل رسالةٍ: هي الدعوةُ إلى توحيدِ الله العظيم، وإفرادُه بالألوهيَّة والربُوبيَّة. وهذا أساسُ دعوة الرُّسُل جميعًا: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) [النحل: 36]، (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء: 25]، وما تضمَّنَته تفاصيلُ تلك الرسالات يعودُ إلى هذا الأصلِ العظيم.

 

وأضاف –حفظه الله-: إنه لا تُوجدُ وظيفةٌ في الإسلام أشرفَ قدْرًا، وأسمَى منزلة، وأرحبَ أُفُقًَا، وأثقَلَ تبِعَة، وأوثقَ عهدًا، وأعظمَ عند الله أجرًا من وظيفة عالِم الدين؛ لأنه وارِثٌ لمقام النبُوَّة، وآخِذٌ بأهمِّ تكاليفِها، وهي الدعوةُ إلى الله، وتوجيهُ خلقِه إليه، وتزكيتُهم وتعليمُهم، وترويضُهم على الحق حتى يفهَمُوه ويقبَلُوه، ثم يعمَلُوا به ويعمَلُوا له.

فلا يُوجَد قولٌ أحسنَ من قولِه، (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [فصلت: 33].

 

ولا يُوجَد عملٌ أحسنَ من عملِه؛ قال ابن القيِّم - رحمه الله -: "وتبليغُ سُنَّة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إلى الأمة أفضلُ من تبليغِ السِّهام إلى نُحور العدُوِّ؛ لأن تبليغَ السِّهام يفعلُه كثيرٌ من الناس، أما تبليغُ السُّنن فلا يقومُ به إلا ورَثَةُ الأنبياء".

 

ولا شكَّ أن أعظمَ النفعِ للناس هو نفعُهم في تصحيحِ مُعتقَدهم ودينِهم، وزيادةِ الإيمان لديهم، وتزكِيةُ أخلاقِهم وسُلُوكِهم، ومُحاربَة الباطل والشهوات التي تعترِضُهم.

 

وقال –وفقه الله-: الدعوةُ إلى الله تُثمِرُ لصاحبِها الثباتَ على الهُدى، والبركةَ في الأهل والذرِّيَّة، وتدفعُ المُنكَرات وتقطعُها، وتدحَضُ شُبَه المُضلِّين وتدفَعُها، ويصلُحُ بها حالُ المُجتمع، وتنشرُ الإسلامَ وتُعِزُّه وترفعُ شأنَه. وكفَى بها شرَفًا أنها سبيلُ قيام الدين الذي ارتضَاه للناسِ ربُّ العالمين.

 

الدعوةُ إلى الله زيادةٌ في الحسنات، ورِفعةٌ في الدرجات، وإذا انقطَعَت أُجورُ العباد بموتِهم، فأجرُ الداعِية مُستمرٌّ ما استمرَّ نفعُ دعوتِه.

 

وأضاف الشيخ: إن على الدُّعاة والمُصلِحين أن يقُوموا بما استُحفِظُوا عليه من نشرِ الدين والفضيلَة، ودَحر الشرِّ والرَّذِيلة، وإيقافِ المدِّ الإفساديِّ المُعلَن الذي يجتاحُ العالَمَ بأسرِه، (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ )[آل عمران: 187].

 

وما ضعُفَت الدعوةُ في بلدٍ أو غابَت إلا نقَصَت الشريعةُ، واختلَّت العقيدة، واضمَحَلَّت العباداتُ والسُّنن، واختلَّ الأمنُ ونشَطَ الفِكرُ الضالُّ.

 

وحذر الشيخ من التفريط في الدعوة فقال: إن الأُمَم قبلَنا فرَّطَت فعُوقِبَت، وقال الله - عز وجل -: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا) [فاطر: 32].

 

إن هذه الأمة مُصطفاة، ومسؤولةٌ عن هذا الميراث العظيم الذي آلَ إليها، وإن تبِعَاتها أمام الله جسِيمة بإزاءِ هذا الميراث، وأمام الكتابِ الذي ختَمَ الله به الوحيَ، ووكَلَ لهذه الأمة درسَه ونشرَه، وكلَّفَها أن تحيَا به وتحيَا له.

 

إن أمة الإسلام ورِثَت هذا الكتاب وهذه الرسالة، وواجِبُها ولُبُّ وجودِها: أن تُخرِجَ الناسَ من الظلمات إلى النور، وأن تقُودَ العالَمَ إلى الهُدى والتُّقَى والعفاف والغِنَى. إن الناسَ قد تحجُبُهم عن الحق ظُلُماتٌ شتَّى، قد يعيشُون ويمُوتون فيها. ونحن المُسلمين مُكلَّفُون برفع المِصباحِ حتى يهتدِيَ الحَيَارَى.

 

وأضاف فضيلته: ولحملِ الحقِّ أعباءُ مُرهِقة، فما صادَمَ أحدٌ شهوات الناس وأهواءَهم إلا عادَوه، وكذلك كان شأنُ الأنبياء قبلَهم. فلا بُدَّ من الصبر على تثبيطِ الخاذِلين، وكيدِ المُعوِّقين والمُخالِفين، والسعيِ بالمرحَمة للخلقِ أجمعين. ولقد كان نبيُّنا - صلى الله عليه وسلم - أحرصَ الناس على هدايةِ الخلقِ، لما أُنزِل إليه: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ) [المدثر: 1، 2]، قام - صلى الله عليه وسلم - يدعُو إلى الله وما قعَد.

 

وخاضَ سلَفُنا الصالحُ البِحار، وسلَكُوا القِفار، ووصَلُوا عملَ الليل بعملِ النهار في سبيلِ الدعوة إلى الله وتبليغِ رسالتِه. فكيف يكسَلُ بعضُ ورَثَة أولئك الأخيار عن دعوةِ من حولَهم من قرابَتهم وجِيرانِهم وخَدَمهم، فضلاً عن غيرِهم، وقد تيسَّرَت سُبُل الدعوة وتعدَّدَت طُرُقُها.

 

ونوّه الشيخ فضل الدعوة إلى الله تعالى فقال: أما والله لو علِمَ العبادُ ما في الدعوة إلى الله من الفضلِ، وما ينالُهم بسببِها من الأجر لَمَا قعَدُوا عن ذلك.

 

إن عملَ الخير والدعوة إلى الخير سِماتُ الأمة الظاهِرة، وملَكَاتُها الباطِنة، ووظيفتُها الدائِمة، ورسالتُها ليسَت مُجرَّد دعوَى؛ بل هي أُنموذجٌ وقُدوةٌ، وخيرٌ مُتكامِلٌ يعيشُه الداعِي قبلَ دعوتِه، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ) [الحج: 77، 78].

 

وحذر العلماء من تضييعها فقال: إن على كل عالِمٍ أن يُدرِكَ أنه مُستحفَظٌ على كتاب الله، مُؤتمَنٌ على سُنَّة رسولِه في العملِ بها، وتبليغِها كما هي، وحارِسٌ لهما أن يُحرِّفَهما الغالُون، أو يزيغَ بهما عن حقيقتِهما المُبطِلون، أو يعبَثَ بهما المُبتدِعة.

 

على كل مُسلمٍ أن يكون حذِرًا أن يُؤتَى الإسلامُ من قِبَلِه، وأن يكون سريعَ الاستِجابة للحق إذا دعَا داعِيه، وإلى نجدَته إذا رِيعَ سِربُه أو طُرِقَ بالشرِّ حِماه.

 

واجبٌ على كل مسلمٍ أن ينشَطَ إلى الهداية كلما نشِطَ الضلال، وأن يُسارِع إلى نُصرة الحق كلما رأى الباطلَ يُصارِعُه، وأن يُحارِبَ البِدعةَ والشرَّ والفساد قبل أن تمُدَّ مدَّها وتبلُغَ أشُدَّها، وقبل أن يعتادَها الناسُ فترسَخَ جُذورُها في النفوس ويعسُر اقتِلاعُها.

 

وأضاف الشيخ: الدعوةُ إلى الله غيرُ محصورةٍ بوقتٍ ولا مكان. فهذا نوحٌ - عليه السلام - يقول: (رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا) [نوح: 5]، ويسلُكُ طُرقًا مُنوَّعة: (ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا) [نوح: 9]، وهذا يوسُفُ - عليه السلام - يدعُو في السِّجن: (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) [يوسف: 39].

فمن أعجَزَته طريقةٌ وجدَ أخرى، ومن أُغلِقَ عليه بابٌ فُتِحَت له أبواب، وهو النُّصحُ المُيسَّرُ للجميع.

 

وقال –حفظه الله-: يجبُ أن يثبُتَ الداعِي على أشُدِّه في الدعوة والبلاغ والأمر والنهي، حسب الضوابِط الشرعية، وحسبَ الاستِطاعة، وأن تُوطَّن النفوسُ على تحمُّل الأذى والابتِلاءات التي تترتَّبُ على الدعوة والتبليغ، وأن نعلَمَ أن في قلوبِ الناسِ خيرًا كثيرًا.

 

وبيّن الشيخ كثرة الوسائل الدعوية فقال: إن من المُسلمين من فتَحَ الله عليه في العلمِ والفقهِ، ومعرفةِ الأحكام والتعليم، ومنهم من فُتِحَ عليه في الوعظِ وترقيقِ القلوبِ، ومنهم من فُتِحَ عليه في النُّصح والتوجيه، والأمر بالمعروف والنهي عن المُنكَر، ومنهم من انشغَلَ بنشرِ الكُتُب، وآخرون بمُدافَعَة الباطل. وكلٌّ على ثغرٍ من الإسلام.

 

وأضاف فضيلته: ولا يجوزُ أن يكون هذا التنوُّع المُفيدُ سببًا للفُرقة والنِّزاع؛ بل كلٌّ مُسخَّرٌ لما خُلِقَ له، (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ) [البقرة: 60]، (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) [التوبة: 122].

 

ومن أساءَ من مُحبِّي الخيرِ وناشِدي الإصلاح ممن سلِمَت عقيدتُهم، وحسُنَ قصدُهم، وصلُحَت سيرتُهم، أفرادًا كانوا أو جماعات، في شأنٍ من شُؤون الدعوة؛ فالواجبُ على إخوانِهم تبصيرُهم بالحُسنى، ونُصحُهم والصبرُ على تعليمِهم مهما جفَوا، وتعاهُدُهم بالنصيحةِ كل وقتٍ. فهم أحقُّ بالصبر عليهم من صبرِ الأنبياء على أقوامِهم المُشرِكين.

 

فإن الاختلافَ من أكبر العثَرَات في سبيل الدعوة، ورحِمَ الله من أعانَ الدينَ ولو بشطرِ كلمةٍ، وإنما الهلاكُ في ترك ما يقدِرُ عليه العبدُ من الدعوة إلى هذا الدين.

 

وحذر الشيخ من المسالك الخاطئة فقال: ومن أعظم ما يُسيءُ إلى الإسلام ويُبطِئُ من دعوتِه، ويحُدُّ من انتِشارِه: تصرُّفاتُ بعضِ المُسلمين، وخاصَّةً من يظُنُّ نفسَه من المُحافِظين عليه، وفي التنزيل العزيز: (رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) [الممتحنة: 5].

 

وقد رأينا في السنواتِ المُتأخِّرة جرائِمَ من أمثالِ هؤلاء، عمِلَت في الإساءَة للإسلام والدعوة إليه ما لم يستطِع أعداؤُه مثلَه. لم تكُن ساحتُه ساحةَ حربٍ، أو ضحاياها مُحارِبُون؛ بل كان مدارِسَ المسلمين وبيوتَهم وأسواقَهم.

 

وكان آخرُها جريمةُ الهُجوم على مدرَسة أطفالٍ في دولة الباكِستان، راحَ ضحِيَّتَها أكثرُ من مائةٍ وثلاثين قتيلاً، مُعظمُهم من الأطفال.

 

إنه لا عُذرَ لأولئك القتَلَة عند الله، ولا تبريرَ من أي عقلٍ وعاقلٍ، ولن يقبَلَ صنيعَهم ضميرٌ أو تستَسيغَه مُروءَة، وقد ولَغَ القتَلَةُ في دمٍ حرامٍ، وأزهَقُوا أنفُسًا لم يجرِ قلمُ التكليف على أكثرِهم. ما ذنبُ هؤلاء؟!

 

وما ذنبُ أطفال سُوريا والعراق وغيرهم ممن يُمطَرون بالقتل صُبحَ مساء، ويُشرَّدُون في جُوعٍ وخوفٍ وزَمهَرير الشِّتاء؟! المُجرِمون سواء، والإسلامُ منهم براء.

 

وختم الشيخ خطبته الماتعة مؤكدًا على أن من أُصول دينِنا والمعلوم منه بالضرورة: عِصمة الدماء وتعظيم خطرِها، ومع ذلك نرَى سفكَه أهونَ ما يكونُ عند كثيرين، يجترِؤُون عليه بآراء مُنحرِفة، وآراء مُزيَّفة. لقد حفِظَ الإسلامُ دماءَ صِبيان الكُفَّار المُحارِبين؛ فكيف بصِبيان المُسلمين الآمِنين؟!

 

المدينة النبوية:

 

ألقى فضيلة الشيخ علي بن عبد الرحمن الحذيفي - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "فضل إصلاح ذات البَين"، والتي تحدَّث فيها عن إصلاحِ ذاتِ البَين، مُبيِّنًا فضائله وثمراته، وحثَّ على ضرورة وجود المُصلِحين في كل مكانٍ لنشر هذه الرسالة السامِية بين المُسلمين، وللتقليل والحدِّ من الجرائِم التي تحصُل من جرَّاء الفساد والإفساد.

 

واستهل فضيلته خطبته بنصح المصلين بتقوى الله قائلاً: فاتقوا الله بالعمل بمرضاته، وبُغض مُحرَّماته؛ فقد فازَ بكل خيرٍ من اتَّقى، وخابَ من اتَّبع الهوى.

 

وأضاف الشيخ: اعلموا أن أحبَّ شيءٍ إلى الله: الصلاحُ والإصلاح؛ فالصلاحُ: هو صلاحُ النفس بالوحي الذي جعله زكاةً وطهارةً، والإصلاحُ: هو تقويمُ ما انحرَفَ من أحوال الفرد أو الجماعة، أو إصلاح ما فسَد من العلائق بين اثنين أو بين طائفتين، على مُقتضى الشرع الحَنيف.

 

فالإصلاحُ هو التقريبُ بين القلوب المُتنافِرة، ولمُّ الشَّعَث في الآراء المُتباعِدة، وإعطاءُ الحقوق الواجِبة لأصحابها بسعي المُصلِحين، واحتِساب الخيِّرِين، وحكمةِ الراشدين.

 

وقال –وفقه الله- والإصلاحُ لذاتِ البَين بابٌ من أبواب الجنة، وأمانٌ من الفتن الخاصَّة والعامَّة، وجلبٌ لمصالِح خاصَّة وعامَّة، ودرءٌ لمفاسِد يعُمُّ ضررُها، ويطيرُ شررُها. والإصلاحُ لذاتِ البَين سدٌّ لأبواب الشيطان التي يدخلُ منها على الإنسان.

 

والمُتأمِّل لتاريخ الأفراد والأُمم يجدُ أن شُرورًا اتَّسَع دائرتُها في حياتهم؛ بسبب غيابِ إصلاح ذات البَين، ويجدُ شُرورًا وفتنًا دُفِعَت وصُرِفَت بسبب إصلاح ذات البَين. ومُعظَم النار من مُستصغَر الشَّرر.

 

وأكَّد –حفظه الله- أن إصلاح ذات البَين من مقاصِد الإسلام العظيمة، وتعاليمِه الحسنة الكريمة، قال الله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) [الأنفال: 1]، وقال تعالى: (لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء: 114].

 

ومما جاء في فضل صلاحِ ذات البَين: قولُه - صلى الله عليه وسلم -: «ألا أُخبِركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟»، قالوا: بلى يا رسول الله. قال: «صلاحُ ذات البَين؛ فإن فسادَ ذات البَين هي الحالِقة» (رواه أبو داود والترمذي، وقال: "صحيح")، وزاد: «لا أقولُ تحلِقُ الشعر، ولكن تحلِقُ الدين» من حديث أبي الدرداء - رضي الله عنه -.

 

وأضاف فضيلته: والإصلاحُ يكونُ بين الزوجَين فيما اختلفَا فيه، بما يضمنُ لكلٍّ حقَّه، قال تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا) [النساء: 35]، وقال تعالى: (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) [النساء: 128].

 

والإصلاحُ بين الزوجَين يُحافظُ على كِيان الأسرة من التصدُّع ومن الضياع، وتدومُ به الرعايةُ الأُسرية، وتقوَى به الروابطُ بين الزوجَين، وتستمرُّ العِشرة، ويجدُ الأولاد في اجتماع الأبوَين المحضَن الآمِن المُستقرَّ، والمأمَن من الانحِراف، والعطف الأبوِيّ، والنشأة الصالحة.

 

وإذا ازداد الخلافُ بين الزوجَين، وتُرِك الإصلاح؛ تصدَّعَت الأسرة، وضاع الأولاد، وتعرَّضُوا للفساد والفشل في الحياة بعد الطلاق، وتقطَّعَت علائِقُ الرَّحِم، وتضرَّر الزوجان.

 

وقال –حفظه الله-: والإصلاحُ يكون أيضًا بين الأقرباء فيما وقع بينهم من خلاف؛ لتتمَّ صِلةُ الأرحام وتدوم، ولئلا تكون قطيعةٌ بين ذوي القَرابة؛ فصِلةُ الأرحام بركةٌ وخيرٌ وفضائل، وسببٌ من أسباب دخول الجنة، ومن أسباب صلاح الدين والدنيا وبركة العُمر.

 

كما أن قطيعةَ الأرحام شرٌّ وشُؤمٌ في الدنيا والآخرة؛ عن أبي بَكرةَ - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ما من ذنبٍ أجدرَ أن يُعجِّل الله لصاحبِه العقوبةَ في الدنيا مع ما يدَّخِرُ له في الآخرة من البغي وقَطيعة الرَّحِم»؛ رواه أبو داود والترمذي، وقال: "صحيح".

فإصلاحُ ذات البَين بين الأقرباء من أعظم الحسنات.

 

وأضاف الشيخ: والإصلاحُ أيضًا يكونُ بين الجيران؛ لِلوفاء بحقِّ الجار، والقيام بواجباته التي أوجبَها الله؛ عن عائشة - رضي الله عنها -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ما زالَ جبريلُ يُوصِيني بالجارِ حتى ظننتُ أنه سيُورِّثُه» (رواه البخاري ومسلم).

 

والإصلاحُ يكونُ بين المُتخاصِمَين من المُسلمين، قال الله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الحجرات: 10].

 

وحث الشيخ كل مسلم على الإصلاح فقال: لا تترُك بابَ الإصلاح، ولا تزهدنَّ في هذا الخير الكثير؛ فقد كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُصلِحُ بين أصحابِه، وقد سعى في هذا السبيل صحابةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومن بعدِهم التابِعون، والمنقولُ عنهم في إصلاح ذات البَين أكثرُ من أن يُحصَر.

 

وفي الحديث: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «أيها الناس! أصلِحوا بين المُسلمين؛ فإن الله يُصلِحُ بين المُسلمين».

والمُسلمُ في هذا الزمان يأسَى ويحزَن لقلَّة المُصلِحين، وإعراضِ الكثيرين عن إصلاح ذات البَين في مُجتمع المُسلمين.

 

وأضاف –حفظه الله- وأنت - أيها المسلم - مأمورٌ بحُسن النيَّة والاحتِساب، ومُباشَرة الأسباب، وما بعدَ ذلك فهو إلى الله تعالى، فأنت مُثابٌ على كل حالٍ، والله قد ضمِنَ لك الثواب، قال الله تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) [الجاثية: 15].

 

وأشار فضيلته إلى أن الله –تعالى- كما يُحبُّ الصلاحَ والإصلاحَ، ويُعطِي عليه في الدارَين ما لا يُحيطُ به وصفٌ، فإنه سبحانه كذلك يُبغِضُ الفسادَ والإفسادَ ويكرَهُ المُفسِدين في الأرض، قال الله تعالى: (وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) [القصص: 77]، وقال تعالى: (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [الأعراف: 85]، وقال تعالى: (وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ) [البقرة: 205]، وقال تعالى: (وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) [الأعراف: 142].

 

وأضاف الشيخ بأسًى: وأيُّ فسادٍ بعد الشركِ بالله أعظمُ من قتلِ النفسِ البشريَّة التي حرَّم الله سفكَ دمِها، وما حدثَ في بيشاور بباكستان من قتلٍ لمائةٍ وعشرين نفسًا - بينهم أطفالٌ كثيرون - جريمةٌ لا تُطيقُها الجبالُ الرواسِي، قامَ بها قَتَلَةٌ مُجرِمون، وعِصابةٌ مُفسِدون، وإرهابيُّون خاسِرون، وأعداءٌ للإنسانيَّة شِرِّيرون. وقد ابتُلِيَت المُجتمعات - وخاصَّةً في بلاد المسلمين - بمثلِ هذه الأعمال الإرهابية المأساويَّة؟!

 

وهذه الحادثةُ حادثةٌ مأساويَّة، وعملٌ إرهابيٌّ إجراميٌّ، جمعَ من كبائِر الآثام والمعاصِي عددًا كثيرًا، وإن هذه الفاجِعة يُدينُها ويستنكِرُها ويُقبِّحُها أشدَّ الاستِنكار وُلاةُ أمر هذه البلاد وعلماؤُها ومُواطِنُوها، ويُطالِبُون بإيقافِ هذه الجرائِم، واجتِثاث جُذورِها لئلا تتكرَّر، فهذه أعمالٌ عجزَ عن فعلِها إبليس.

 

وختم فضيلته الخطبة بالتذكير بأن على العُلماء أن يُحذِّروا المُسلمين من هذه الأعمال الوحشيَّة؛ فهي أعمالٌ شوَّهَت صورةَ الإسلام، والإسلامُ منها بريءٌ؛ فهو دينُ الرحمة والعدل والسلام والخير، كما نطَقَت بذلك نُصوصُه، وكما شهِدَ التاريخُ بهذا، قال تعالى: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) [المائدة: 32].

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات