اقتباس
لقد نزلَ الشتاءُ بحدّته وشِدَّته وقسوَته عل إخوانِكم اللاجِئين والنازِحين والمُشرَّدين في شامِنا الحَبيبة، وفي بلادٍ أخرى عديدة. الجَليدُ وِطاؤُهم .. والرياحُ البارِدةُ غِطاؤُهم .. تجمَّدَت تحت الثُّلوجِ أطفالُهم .. وفاضَت على بِساطِها أرواحُهم. الصَّقيعُ يضرِبُهم .. والثُّلوجُ تُحاصِرُهم .. والعواصِفُ تحُوطُهم .. وهم يُعانُون نقصًا في الأغذية والأدوية، والأكسِيَة والأغطِية، وسائر التدفِئة. الفقيرُ يئِنُّ، والضعيفُ يستنجِدُ، والمُضطرُّ يستصرِخ. ضاقَت يداه، وعظُمَت شكوَاه. والمُؤمنون أقربُ الناس رحمةً وشفقةً وإحسانًا، وأحنَاهم على فقيرٍ ويَتيمٍ ومِسكينٍ، وأحدَبهم على أرمَلةٍ ومُطلَّقة وضعيفٍ، وأعطفُهم على ملهُوف، وأنفعُهم لمكروبٍ ومُضطرٍّ لا كافِيَ يكفِيه ولا مُؤوِيَ يُؤوِيه...
مكة المكرمة:
ألقى فضيلة الشيخ سعود الشريم - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "محبة النبي - صلى الله عليه وسلم - قولاً وفعلاً"، والتي تحدَّث فيها عن محبَّة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - والدلائل على ذلك، مُستشهِدًا ببعض الآيات والأحاديث الدالَّة عليها، مُبيِّنًا أن تصديق هذه المحبَّة هو بالاتِّباع لسُنَّة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
واستهل الشيخ بالوصية بتقوى الله -تعالى- فقال: إن الوصيةَ المبذُولةَ لي ولكم هي: تقوى الله - سبحانه -؛ فإنها للمُؤمن في دُنياه زاد، وهي له نجاةٌ ورِفعةٌ يوم المعاد. بها يُستجلَبُ الرزق، ويُكشَفُ الضِّيق، (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) [الطلاق: 2، 3]، (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا) [الطلاق: 4].
وأضاف الشيخ: إن من كرمِ الله - جل وعلا - ومنَّته على عبادِه: أن منَحَهم قلوبًا تحمِلُ عاطفةً دينيَّةً يرتَقُون بها إليه - سبحانه -، إن هم استثمَرُوها وملئوها بحبِّه وحبِّ رسولِه - صلى الله عليه وسلم -، ولم يفصِلُوا بين المحبَّتين قولاً وعملاً وتصوُّرًا.
إن محبَّة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من محبَّة الله، ولم يُحبَّ الله من لم يُحبَّ نبيَّه - صلى الله عليه وسلم -، وإن حلَفَ الأيمانَ كلَّها بين الرُّكن والمقام أنه يحبُّ الله؛ لأن الله - جل وعلا - يقول: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ)[آل عمران: 31].
وقال –حفظه الله-: إنه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، سيِّدُ ولد آدم .. هو الرحمةُ المُهداة .. والنِّعمةُ المُسداة .. من أطاعَه فقد أطاعَ الله، (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ) [النساء: 80]. ومن بايَعَه فإنما بايَعَ الله، (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) [الفتح: 10]. وحُكمُه من حُكم الله، (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[النساء: 65]، الله أكبر! ما أعظمَ تلكُم الآيات .. وما أعظمَ ما تضمَّنَته من معاني المحبَّة والانقِياد بالطاعة لرسولٍ (عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [التوبة: 128].
وقال فضيلته: إن ارتِفاعَ شأن الأمة وقوَّتها وعزَّتَها وانتِصارَها على أعدائِها كلُّ ذلكم مرهونٌ بمدَى محبَّتهم لنبيِّهم - صلى الله عليه وسلم - قولاً وعملاً، ظاهرًا وباطنًا؛ فإن من قرأَ سجِلَّ الأمة الحافِلِ بالنصر والتمكين والرِّفعةِ بين الأُمم سيُوقِنُ صحَّةَ هذا الأمر.
فإنه ما ضعُفَت الأمةُ واستكانَت إلا لضعفِ محبَّتها له - صلى الله عليه وسلم -، وبُعدِها عن نهجِه، وعدمِ نُصرتِه ونُصرة سُنَّته، حتى طغَى لديها تقديمُ العقل على الوحيِ الذي نطَقَ به، ما سبَّب ازدِيادَ الجُرأة على السنَّة النبوية المُفضِيَة إلى القَدح في مُبلِّغِها - بأبي هو وأمي، صلواتُ الله وسلامُه عليه -.
وقال –وفقه الله-: إن أمةً ضعُفَت فيها محبَّةُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وقصُرَت نُصرتُه لجديرةٌ بالذلِّ والهَوان، وتسلُّط الأُمم عليها. كيف لا، والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا يُؤمنُ أحدُكم حتى أكون أحبَّ إليه من والدِه وولدِه والناسِ أجمعين» (رواه البخاري ومسلم). وقد قال الله - جل شأنُه -: (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا) [النساء: 141].
وأضاف فضيلته: إن من تأمَّل هذه الآية وذلكُم الحديث أدرَكَ أن من أحبَّ الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - فقد آمَنَ، ومن آمَنَ فلن يكون للكافِرين سبيلٌ عليه، سواءٌ أكانوا أفرادًا في الأمة أو مُجتمعات بها. وليس بلازمٍ من هذا الأمر أن الأمة إذا ضعُفَت لضعفِ تحقيقِ محبَّة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ونُصرتِه أنه دليلٌ على كُرهِها له. كلا، فهذا فهمٌ مغلوط؛ وإنما المُراد غيابُ كمال المحبَّة التي تجعلُ أمرَه وحُكمَه ونُصرتَه مُقدَّمٌ على كل شيءٍ. فإن الشُّرور إنما تُرهَنُ بكمال المحبَّة له - صلى الله عليه وسلم - وجودًا وعدمًا، فقد قال الله - جل وعلا -: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النور: 63].
واستدل الشيخ بحديث عمر عندما: كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مُمسِكًا بيدِ عُمر - رضي الله عنه -، فقال له عُمر: يا رسول الله! لأنتَ أحبُّ إليَّ من كل شيءٍ إلا من نفسي. فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «والذي نفسي بيدِه؛ حتى أكونَ أحبَّ إليك من نفسِك»، فقال له عُمر: فإنه الآن واللهِ لأنتَ أحبُّ إليَّ من نفسِي. فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «الآنَ يا عُمر»؛ (رواه البخاري).
وأضاف الشيخ: إن محبَّة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ليست ضربًا من الخيال، ولا هي من التكليفِ بما لا يُطاق؛ وإنما هي روحانيَّةٌ وانشِراحٌ وسعادةٌ لا يُحِسُّ بها إلا من رُزِقَها، ولا يزهَدُ فيها ويُهوِّنُ شأنِها إلا من كان قلبُه لضَخِّ الدم فحسب؛ إذ هذه خِلالُ غِلاظِ الأكباد، قُساةِ القلوبِ، تُجَّار الدنيا، يملئون قلوبَهم بالصوارِفِ عنه - صلى الله عليه وسلم -. وما هذه واللهِ خِلال عباد الله الصادِقين المُخلِصين، وصحبِ نبيِّه الأمين - صلواتُ الله وسلامُه عليه -.
واستشهد الشيخ بما قام به أبو أيوب الأنصاري ا كفيناك المستهزئين.لمككروبين ولما نزلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في دارِه- رضي الله تعالى عنه -، كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أسفلَ الدار وأبو أيوب أعلاها. فلما أمسَى وباتَ، جعل أبو أيوب يذكُرُ أنه على ظهرِ بيتٍ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أسفلَ منه، وهو بينَه وبين الوحي، فجعلَ أبو أيوب لا ينام، يُحاذِرُ أن يتناثَرَ عليه غُبار ويتحرَّك فيُؤذِيَه" (رواه مسلم).
وأضاف فضيلته: قال ابن القيِّم - رحمه الله -: "والمقصودُ أنه بحسبِ مُتابعة الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - تكونُ العِزَّةُ والكفايةُ والنُّصرةُ، كما أنه بحسبِ مُتابعَتِه - صلى الله عليه وسلم - تكونُ الهدايةُ والفلاح والنجاة". فالله - سبحانه - علَّق سعادةَ الدارَين بمُتابعَته - صلى الله عليه وسلم -، وجعلَ شقاوَةَ الدارَين في مُخالفَته. فلأتباعِه الهُدى والأمن والفلاح، والعِزَّةُ والكفاية، واللذَّةُ والولاية، والتأييد وطِيبُ العيش في الدنيا والآخرة. ولمُخالفِيه الذلُّ والصَّغارُ، والخوفُ والضلال، والخُذلانُ والشقاءُ في الدنيا والآخرة.
وأضاف الشيخ: واعلموا أن محبَّة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - دون اتِّباعِه ما هي إلا ادِّعاءٌ محضٌ لا يُجاوِزُ تُرقُوَةَ مُدَّعِيها. وإلا فأين المُتكبِّرُ عن محبَّة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؟! وقد علِمَ أنه - صلى الله عليه وسلم - خيرُ من تواضعَ لله. وأين الظالِمُ من محبَّته - صلى الله عليه وسلم -؟! وقد علِمَ بأنه - صلى الله عليه وسلم - أعدلُ الناس. وأين الخائِنُ .. وأين السارِقُ .. والقاتلُ .. وغيرُهم كثيرٌ وكثيرٌ؟! أوَليسَ من الخَيبَةِ والخُسران أن يكون الجَمادُ والبهائِمُ أعظمَ استِحضارًا لمقامِ نبُوَّتِه - صلى الله عليه وسلم - من بعضِ البشر ذوِي العُقولِ والأفهامِ؟! فقد جاء عند مسلم في "صحيحه" أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إني لأعرفُ حجَرًا بمكَّة كان يُسلِّمُ عليَّ قبل أن أُبعَث، إن لأعرفُه الآن».
وعند البخاري في "صحيحه": "كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يخطُبُ إلى جِذعٍ، فلما اتَّخذَ المِنبرَ تحوَّل إليه، فحنَّ الجِذعُ حَنينَ العِشار، فأتاهُ فمسَحَ يدَهُ عليه يُسكِّتُه حتى سكَت".
وقال –حفظه الله-: وإن تعجَبُوا - عباد الله - من سلامِ الجَمادات وحَنينِها إليه، فعجَبٌ دُخولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - حائِطًا لرجُلٍ من الأنصار، فإذا جملٌ، فلما رأى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - حنَّ وذرَفَت عيناه. فأتاه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فمسَحَ ذفرَاه - أي: أصلَ أُذنَيه - فسكتَ، فقال: «من ربُّ هذا الجمل؟ لمن هذا الجمل؟»، فجاء فتًى من الأنصار، فقال: لي يا رسول الله. فقال: «أفلا تتَّقِي اللهَ في هذه البَهيمة التي ملَّكَك الله إياها؛ فإنه شكَا إليَّ أنه تُجيعُه وتُدئِبُه - أي: تُتعِبُه -» (رواه أحمد وأبو داود).
فلا إله إلا الله! إن المرءَ ليَستحِي أن يستمِعَ إلى تعظيمِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من قِبَلِ خلقٍ غيرِ مُكلَّف، في حين إن نفوسَنا قاصِرةٌ عن ذلكم التعظيم الذي أودَى بنا إلى التخاذُل عن نُصرتِه وحِمايةِ جنابِه من الاستِهزاءِ به، والقَدحِ في سُنَّته وشِرعَته.أيُّ قسوةٍ نُودِعُها قلوبَنا تجاهَ نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم -؟!
وقال -وفقه الله-: ألا رحِمَ الله الحسنَ البصريَّ حين قال: "يا معشرَ المُسلمين! الخشَبةُ تحِنُّ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شوقًا إلى لقائِه. فأنتم أحقُّ أن تشتَاقُوا إليه". فكيف - يا عباد الله -، فكيف يشتاقُ إليه من لا يُحبُّه؟! وكيف يشتاقُ إليه من لا ينصُرُه؟! وكيف يشتاقُ إليه من يستثقِلُ أمرَه ونهيَه؟! إنه لن يشتاقَ إليه إلا قومٌ سرَى حبَّه - صلى الله عليه وسلم - في دمائِهم، وجرَى في عُروقِهم، وملَكَ ألسِنَتَهم وأفئِدَتهم، حتى يقول قائلُهم:
فإن أبي ووالِدَه وعِرضِي*** لعِرضِ مُحمدٍ منكم وِقاءُ
وختم الشيخ خطبته موصيًا المسلمين بفهم القضية فهمًا صحيحًا فقال: إن رسولَنا - صلى الله عليه وسلم - لن يَضيرَه سُخريةُ الساخِرين، ولا استِكبارُ المُعانِدين؛ فإن الله قد كفَاه ذلكم بقولِه: (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) [الحجر: 95]. بل إن شيخَ الإسلام - رحمه الله تعالى - ذرَ عن بعضِ السلف أنهم كانوا يتباشَرون بتعجيلِ الفتح والعِزَّة والتمكين إذا سمِعُوا الكفارَ يقَعون في النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ويستهزِئون به؛ لأن الله قال لنبيِّه - صلى الله عليه وسلم -: (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) [الكوثر: 3]، وهذه هي عاقبةُ كل من استهزَأَ برُسُل الله: (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) [الأنعام: 10]، وإنما يضيرُ ذلكم الاستِهزاء إيمانَنا به، ويمتحِنُ قلوبَنا للتقوى، ويجعلُ فلاحَنا - أمَّة الإسلام - مرهونًا بتحقُّق قول الله: (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الأعراف: 157].
المدينة النبوية:
ألقى فضيلة الشيخ صلاح البدير - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "التفكر في نعم الله ومخلوقاته"، والتي تحدَّث فيها عن التفكُّر والتدبُّر في نعمِ الله تعالى ومخلوقاته، ومن ذلك: السماء والأرض، والشمس والقمر، والنجوم والكواكِب، والبحار والأنهار، وغير ذلك، كما بيَّن أن هذا التأمُّل والتفكُّر هو السائِقُ إلى الإيمان بالله وحده لا شريك له، وصرفَ العبادة له وحده دون ما سِواه، مُؤكِّدًا في خطبته الثانية على عِظَم الأُخوَّة بين المسلمين مُتمثِّلةً في الشعور بما ينزلُ بإخواننا المسلمين في الشام وغيرها من نوازِل وكوارِث.
واستهل فضيلته خطبته بنصح المصلين بتقوى الله قائلاً: اتقوا الله؛ فإن تقواه أفضلُ مُكتسَب، وطاعتَه أعلى نسَب، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
وأضاف فضيلته: خلقَ الله الكونَ العظيمَ أسافِلَه وأعاليه بقُدرته، هو بارِئُه ومُوجِدُه ومُبدِعُه ومُنشِئُه، والمُتصرِّفُ فيه بأمرِه وقَهره، وعِزَّته وعلمِه، وبيدِه أزِمَّةُ الأمور نقضًا وإبرامًا، بلا مُدافعةٍ ولا مُمانَعَة.
مالِكُ الدار وساكِنِيها، وواهِبُ الحياة ومُسدِيها .. فاعتبِرُوا بمخلوقاتِ الله الدالَّة على ذاتِه وصفاتِه، وشرعِه وقدَرِه وآياتِه، وانظرُوا ماذا في السماوات والأرض، تفكَّروا في خلقهنَّ وعظمَتهنَّ وما فيهنَّ وما بينهنَّ.
وقال –حفظه الله-: وتأمَّلُوا الأرضَ وجِبالَها .. وبِحارَها وقِفَارَها .. ووِهادَها ومِهادَها .. وعُمرانَها وسُكَّانَها. تأمَّلُوا السماوات وارتِفاعَها واتِّساعَها .. وكواكِبَها وأفلاكَها .. ونُجومَها وغيومَها .. وشُهُبُهَا وسُحُبَها. وتفكَّرُوا في الشمسِ والقمر كفي يجرِيان بحسابٍ مُقنَّنٍ مُقدَّر، ويسبَحَان على مِنهاجٍ مُحرَّر، لا يضطرِبُ ولا يتغيَّر.
وانظُروا إلى القمر كيف يتولَّد، ثم يتزايَدُ جُرمُه ونورُه وارتِفاعُه، حتى يستوسِقَ ويكمُلَ إبدارُه، ثم يتناقصُ ويضعُف حتى يَحينَ إدبارُه.
وقال –وفقه الله-: وانظرُوا إلى الضياءِ والظَّلماءِ كيف يفلِقُ الله ظلامَ الليل من غُرَّة الصباح؟! فيضِيءُ الوجود، ويستنيرُ الأُفُق، ويضمحِلُّ الظلام، ويذهبُ الليلُ بسَوَادِه وظلامِ رِواقِه، ويجِيءُ النهارُ بضيائِه وإشراقِه، (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) [يونس: 67]، وانظرُوا إلى الماءَين والبحرَين هذا عذبٌ فُراتٌ سائِغٌ حُلوُ المذاق، وهذا مِلحٌ أُجاجٌ مُرٌّ غليظٌ زُعاق، من أُجوجَته شُربُه لا يُطاق.
وأضاف الشيخ: وانظُروا إلى سائرِ المخلوقات: الدوابِّ السارِحة .. والسِّباع الجارِحة .. والطيورِ الرائِحة .. والحِيتان السابِحة. وتفكَّروا في الرِّياح تُرسَلُ نُشرًا وبُشرَى .. وتفكَّروا في السَّحاب والرِّياحُ تارةً تُثيرُه، وتارةً تسُوقُه، وتارةً تجمعُه، وتارةً تُفرِّقُه، وتارةً تُصرِّفُه، وتارةً تُلقِحُه.
وقال فضيلته: وتفكَّروا في الصيفِ الحارِق، والشتاء الطارِق .. وتفكَّروا في حبَّات البَرَد التي تنزِلُ بقُدرة الله تعالى من الغَمام والمُزنِ العِظام، والسَّحاب الرُّكام التي تُشبِهُ الجِبالَ في ضخامَتها وكَثَافَتها. وانظرُوا إلى البُلدان المبرُودة كيف أضحَت أرضُها من الصقيع والثَّلج المُحيط، الذي لا يقدِرُ بشرٌ على منعِه، ولا يقوَى مخلوقٌ على دفعِه، ولا يتمكَّنُ أحدٌ من رفعِه .. يُنزِلُه الله نقمةً على من يشاء، ونعمةً على من يشاء، ويصرِفُه بقُدرتِه عمَّن يشاء، (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ * يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ) [النور: 43، 44].
قال الشيخ: فيا لها من آياتٍ ودلالاتٍ على قُدرة الخالِقِ المُدبِّر المُقدِّر.. ويا لها من عِظةٍ وتبصِرةٍ وذِكرَى للعبدِ المُنيبِ المُتأمِّل المُتفكِّر المُتدبِّر، الذي يزدادُ بمُشاهَدتها يقينًا وتصديقًا وخُضوعًا، وإيمانًا وخشيةً وخُشوعًا، وتوبةً وإنابةً ورُجوعًا.
والثَّمرةُ الكُبرى من التفكُّر في المخلوقات، والنظر في الكائِنات، والتدبُّر في المصنُوعات: عبادةُ الله وحده لا شريك له، وأنه الخالقُ الرازقُ المُنعِمُ المُتفضِّلُ على خلقِه في جميعِ الآنات والحالات.
وهو المُستحقُّ منهم أن يُوحِّدوه، ولا يُشرِكوا به شيئًا من المخلوقات؛ عن عبد الله بن مسعودٍ - رضي الله عنه - قال: قلتُ: يا رسول الله! أيُّ الذنب أعظم؟ قال: «أن تجعلَ لله نِدًّا وهو خلقَك» (متفق عليه).
وأضاف الشيخ: ومن التَفَتَ إلى غير خالقِه ومولاه لكشفِ ضُرِّه وبَلواه، فقد خسِرَ أُخراه ودامَ شَقاه، ومن لاذَ بالقبور يدعُو أصحابَها، وعادَ بالأضرِحة يطرُقُ أبوابَها، ويرجُو حُجَّابَها، فقد لجَأَ إلى التراب، ولاذَ بالسَّراب.
والرُّفاتُ والأموات لا يملِكُون وصِيلة، ولا يستطيعون وسيلة، ولا يقدِرُون على حِيلَة، وما سمِعُوا دُعاءً، ولا وعَوا نِداءً، (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ) [الأحقاف: 5].
وقال –وفقه الله-: ومن سألَ ساحِرًا أو كاهِنًا أو مُنجِّمًا أو عرَّافًا، أو تقلَّدَ تميمةً أو خيطًا أو حِرزًا، أو تعلَّقَ عزيمةً أو وترًا أو خرَزًا، يرجُو نفعًا أو دفعًا؛ فقد تعلَّق الهَوان، وتقلَّد الخُذلان، وباءَ بالخُسران. ولا يأتي شيئًا من هذه البِدع الشَّنيعة إلا من لم يعتبِر بمخلوقات الله العظيمة الدالَّة على وحدانيَّته وربوبيَّته، وألوهيَّته وصمديَّته، وذاتِه وأسمائِه وصفاتِه، وأنه لا يكشِفُ البلاءَ سِواه، ولا يرفعُ الضُّرَّ إلا إياه.
وأضاف فضيلته: يا من تقحَّمتَ المُحرَّمات، وتعاطَيتَ المُنكرَات .. أنسيتَ أن الله مُطَّلِعٌ على أفعالِك؟! وعالِمٌ بأحوالِك؟! وأنت في اللهوِ مُصِرٌّ، وفي الغيِّ مُستمِرٌّ. فتُب قبل أن تحِلَّ عليك العقُوباتُ المُوجِعة، والنَّقَماتُ المُفجِعة، والكوارِثُ المُفجِعة. وبادِر إلى فعلِ الخيرات .. وسارِع إلى نَيل القُرُبات .. وأقلِع عن الخطايا والمُوبِقات، (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا) [النساء: 110].
وقال –حفظه الله-: لقد نزلَ الشتاءُ بحدَبِه وشِدَّته وقسوَته عل إخوانِكم اللاجِئين والنازِحين والمُشرَّدين في شامِنا الحَبيبة، وفي بلادٍ أخرى عديدة. الجَليدُ وِطاؤُهم .. والرياحُ البارِدةُ غِطاؤُهم .. تجمَّدَت تحت الثُّلوجِ أطفالُهم .. وفاضَت على بِساطِها أرواحُهم. الصَّقيعُ يضرِبُهم .. والثُّلوجُ تُحاصِرُهم .. والعواصِفُ تحُوطُهم .. وهم يُعانُون نقصًا في الأغذية والأدوية، والأكسِيَة والأغطِية، وسائر التدفِئة.
وختم الشيخ خطبته متوجعًا من أحوال المنكوبين، موصيًا المسلمين بمد يد العطاء للمحرومين، فقال: الفقيرُ يئِنُّ، والضعيفُ يستنجِدُ، والمُضطرُّ يستصرِخ. ضاقَت يداه، وعظُمَت شكوَاه. واحتلَّ بَرْدُ الشتاءِ منزِلَه وباتَ شيخُ العِيال يضطرب، والمُؤمنون أقربُ الناس رحمةً وشفقةً وإحسانًا، وأحنَاهم على فقيرٍ ويَتيمٍ ومِسكينٍ، وأحدَبهم على أرمَلةٍ ومُطلَّقة وضعيفٍ، وأعطفُهم على ملهُوف، وأنفعُهم لمكروبٍ ومُضطرٍّ لا كافِيَ يكفِيه ولا مُؤوِيَ يُؤوِيه. فتعاهَدُوا الفقراءَ والمساكِين، والمحرُومين والمقطُوعين، واللاجِئين والمنكُوبين، وأنفِقُوا وتصدَّقُوا، ولا تُحصُوا فيُحصِي اللهُ عليكم، ولا تُوعُوا فيُوعِي الله عليكم، وسارِعُوا بالعطاء، وحاذِرُوا الإبطاء، وأحسِنوا إن الله يحبُّ المُحسنين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم