اقتباس
مِن الناس مَن هو قلِقٌ مُتوجِّسٌ .. لا يهنَأُ بنومٍ لو أغمضَ عينيه، ويتجرَّعُ طعامَه وشرابَه؛ لأن هاجِسَ الرزقِ مُستولٍ عليه، وجاثِمٌ بقلبِه؛ فهو لا يثِقُ بوعدٍ، ولا يستحضِرُ قدَرًا قدَّرَه الله، ولا يأمَنُ سبيلاً.. يرى نفسَه بين الحياة والموت إن لم يلهَثْ وراءَ الرزقِ بلا شرطٍ ولا قيدٍ؛... وفي الناسِ من هو عكسُ ذلكم تمامًا، قد أخلدَتْ نفسُه إلى الراحة .. وآثَرَ الدَّعَة .. وجلسَ حِلسَ بيتِه، لا يهُشُّ ولا ينُشُّ، ينتظِرُ السماءَ أن تُمطِرَ ذهبًا أو فضةً، يرى أن القاعِدَ كالساعِي أو خيرٌ منه؛ بل يرى أن السعيَ لطلبِ الرزقِ جُهدٌ مُهدَر، وثَلْمٌ لقَدَحِ التوكُّل والقناعة...
مكة المكرمة:
ألقى فضيلة الشيخ سعود الشريم - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "الفرق بين التوكل والتواكل"، والتي تحدَّث فيها عن تفاوُت الناس في أرزاقهم التي رزقَهم الله بها، مُحذِّرًا من سُلوك سبيلِ المُتواكِلين الذين يحسَبون أنهم متوكِّلون، ولم يُغفِل في ذلك الاستِدلالَ ببعض الآيات والأحاديث والآثار التي تحُضُّ على العمل والسعيِ على كسبِ الرزقِ الحلال، وألا يكون المرءُ عالةً على غيرِه.
وأوصى الشيخ المصلين بتقوى الله –سبحانه وتعالى-.
وأضاف فضيلته: إن من المعلوم بداهةً: أن المالَ قِوامُ الحياة وزينتُها، وأن الناسَ يستقبِلون صباحَهم في كل يومٍ وشُؤونُ الرزقِ مُستَوليَةٌ على أفئدتهم، مُستحوِذةٌ على أفكارهم. المُقِلُّ منهم يريدُ سَعَةً، والمُوسِعُ يريدُ مزيدًا .. فإما غنيٌّ فيه طمع، أو فقيرٌ عنده قلق، وقليلٌ من هم بين ذلك.
وأشار -حفظه الله- إلى أن الناس مع الرزقِ في هذه الحياة لهم مذاهبُ شتَّى، ودروبٌ مُتفاوِتة، كلٌّ بحسب ما يحمِلُه قلبُه واعتِقادُه عن مفهوم الرزقِ ومفهومِ طلبِه، واستيعابِ الواجبِ تحقيقُه من الوسائل المُؤدِّية إليه.
وأضاف –وفَّقه الله-: فمن الناس قلِقٌ مُتوجِّسٌ .. لا يهنَأُ بنومٍ لو أغمضَ عينيه، ويتجرَّعُ طعامَه وشرابَه على شرَقٍ ولا يكادُ يُسيغُهما؛ لأن هاجِسَ الرزقِ مُستولٍ عليه، وجاثِمٌ بقلبِه.فهو لا يثِقُ بوعدٍ، ولا يستحضِرُ قدَرًا قدَّرَه الله، ولا يأمَنُ سبيلاً .. يرى نفسَه بين الحياة والموت إن لم يلهَثْ وراءَ الرزقِ بلا شرطٍ ولا قيدٍ؛ بل تستوي عنده وسائلُ التحصيل حلالاً كانت أم حرامًا ما دامَت غايتُه المُشوَّشة تُبرِّرُ الوسيلة.
ومن هذه حالُه .. يستبِدُّ به الجشعُ والشراهَة، فيجعلانِه لا يكتفِي بقليل، ولا يشبَعُ من كثيرٍ، لا يكفِيه ما عنده فيمتدُّ إلى ما عند غيرِه، فيُصيبُه سَعارُ الكانِز.وإذا كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - قد نهَى عن منعٍ وهات؛ فإن شِعارَ هذا وأمثالِه هو: "هاتِ وهاتِ"!.
وفي الناسِ من هو عكسُ ذلكم تمامًا، قد أخلدَتْ نفسُه إلى الراحة .. وآثَرَ الدَّعَة .. وجلسَ حِلسَ بيتِه، لا يهُشُّ ولا ينُشُّ، ينتظِرُ السماءَ أن تُمطِرَ ذهبًا أو فضةً، يرى أن القاعِدَ كالساعِي أو خيرٌ منه؛ بل يرى أن السعيَ لطلبِ الرزقِ جُهدٌ مُهدَر، وثَلْمٌ لقَدَحِ التوكُّل والقناعة.
وبين فضيلته: أن ذلك قِناعٌ وتواكُل، وليس قناعةً وتوكُّلاً. والغِرُّ من هؤلاء من إذا حاجَجتَه قال لك: ألم تسمَع قولَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لو أنَّكم توكَّلون على الله حقَّ توكُّله لرزَقَكم كما يرزُقُ الطيرَ، تغدُو خِماصًا وتروحُ بِطانًا»؛ (رواه أحمد والترمذي).
وتعجب فضيلته من حال المتواكلين فقال: فانظُروا - يا رعاكم الله - إلى استِدلال القعَدَة من المُتوكِّلين، كيف أخذُوا من الحديث توكُّل الطيرَ، ولم يأخذُوا منه غُدوَّهَا ورواحَها! لقد ظلمَ فِئامٌ من الناس القناعة؛ فحسِبُوها الرِّضا بالدُّون، فعَمُوا وصمُّوا عن غيرِ هذا المعنى، ثم عَمُوا وصمُّوا عن تصحيحِه، فضعُفَت الهِمَم عن طلبِ معالِي الأمور، وعلَتْ همَّةُ تمجيد الفقرِ والجُوع. وهؤلاء وإن كانوا همُ القِلَّة في المُجتمعات في سائرِ العُصور، إلا أنهم يرفَعون عقيرتَهم بهذا أحيانًا كثيرة.
واستشهد الشيخ بقول الفاروقُ عمر - رضي الله تعالى عنه –عندما رأى قومًا قابِعين في رُكن المسجِد بعد صلاة الجُمعة، فسألَهم: "من أنتم؟". قالوا: نحن المُتوكِّلون على الله! فعلاَهم عُمرُ - رضي الله تعالى عنه - بدِرَّته، ونهَرَهم وقال: "لا يقعُدنَّ أحدُكم عن طلبِ الرزقِ ويقول: اللهم ارزُقني، وقد علِمَ أن السماءَ لا تُمطِرُ ذهبًا ولا فضَّة، وإن الله يقول: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) [الجمعة: 10]".
ونوَّه الشيخ إلى أن: المُسلمَ السعيدَ هو الذي تعتدِلُ أمامَه مسالِكُ الحياة في طلبِ الرزقِ، فيعملُ ويتصبَّبُ منه عرقُه ليتطهَّر من فضَلاتِ الكسَل، وجُمود النفس، ويكسِبَ الكسبَ الحلالَ الطيبَ؛ إذ المُسلمُ ليس راهِبًا في دَيرٍ لا عملَ له ولا كسب؛ لأن الإسلام لا يعرِفُ المُؤمنَ إلا كادِحًا عامِلاً في هذه الحياة، آخِذًا منها، مُعطِيًا لها. فالإسلامُ لا يُريدُ الفقرَ المُذِلَّ لأتباعِه، كما أنه لا يُريدُ الغِنى المُطغِيَ لصاحِبِه، فلا هو مع الكَسُول المُحتال باسمِ التكسّب، ولا هو مع الذين يُحبُّون المالَ حُبًّا جمًّا، ويأكُلُون أموالَ الناس أكلاً لَمًّا، يُعمِيهم ذلك عن دينِهم وأخلاقِهم.
وأضاف -وفقه الله- أنه: ما على العبدِ المؤمنِ إلا أن يبذُلَ الأسباب، ويبتغِي عند الله الرزقَ، فلا يدرِي أين خبَّأَ الله له رِزقَه؛ فمصادِرُ الرزقِ ليس سَواءً، والناسُ يتناوَبُون على معايِشِ الحياة، يطلُبُونَها على صُورةٍ تناوُبٍ لا يقدِرُ عليه إلا الله -سبحانه -، (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [الزخرف: 32].
وخاطب فضيلته المسلم قائلاً: ما عليك إلا أن تجِدَّ وتعملَ، وتضرِبَ في آفاق الأرض، وتأخُذَ بأسبابِ الرزقِ؛ فمن جدَّ وجَد، ومن زرَعَ حصَد، فلا كسبَ بلا عمل، ولا حصَادَ بلا زرعٍ.
وأكد الشيخ في نفس الوقت: على أن مسألة الرزقِ أدقُّ من أن يفهمَ الناسُ أغوارَها، وأعظمُ من أن يُدرِكُوا عُمومَ حِكَمِ الله فيها؛ لأن الله هو الرزاقُ ذو القوَّة المتين. ولنَنظُر إلى شيءٍ من مطالِبِ الرزقِ على وجهِ التدبُّر، واستِحضارِ حِكمةِ اللطيفِ الخَبيرِ فيها؛ لنجِدَ أن من الناسِ من لم يُكتَب له رِزقُه إلا في أعماقِ البِحار؛ كالغوَّاصين، أو في ثَبَجِ الهواء بين السماء والأرض؛ كالطيَّارين والملاَّحين، أو تحت الأرضِ يجِدُون لُقمةَ عيشِهم في كسرِ صخرٍ صلدٍ؛ كأصحابِ المناجِم.
والعجبُ كلُّ العَجَب فيمن رِزقُه كامِنٌ بين فكَّي الأُسود وهو مُروِّضُها، أو بين أنيابِ الفِيَلَة وخراطِيمِها وهو يسُوسُها، أو مثلِ بَهلَوانٍ يمشِي على حبلٍ ممدودٍ في الهواء؛ ليجِدَ لُقمةَ عيشِه بالمشيِ عليه، في مُخاطَرةٍ تُدهِشُ العقولَ، وتُرعِدُ الفرائِص.
وأضاف: هل لنا - عباد الله - أن نتصوَّرَ أرزاقَ أُناسٍ مرهونةً بمرضِ السرَطَان - أعاذَنا الله وإياكم منه، وعافَى من ابتُلِي به -؟! أوَلَيسَ للسرَطان طبيب؟! أوَليسَ له حُقنةٌ؟! أوَلَيسَ للطبيبِ هذا رزقٌ بهذا الدواء؟! وذلك المُمرِّض مرهونٌ بمثلِ هذا المرضِ القاتِل.
أفلا نعلَم أن من الناس من قُوتُهم مُناطٌ بالبَردِ القارِسِ؛ ليَبيعَ مِدفَأةً أو مِلحفَةً؟! أو من قُوتُه مُناطٌ بالحرِّ الشديد؛ ليَبيعَ ثلجًا أو آلةَ تبريد؟! أليس هناك من رِزقُه مُناطٌ بفَرَحِ زوجٍ وزوجةٍ ليُجِّرَ لهما وسائلَ الفرَح؟! أوَلَيسَ هناك من رِزقُه مُناطٌ بأترَاحِ الناس وأحزانِهم .. فيحفُرَ قبرًا لفُلان، أو يَبيعَ كفَنًا لعلاَّن؟! وقولوا مثلَ ذلكم في رِزقِ الجلاَّد، والسجَّان، ومُنفِّذ القِصاص، وقاطِعِ يدِ السارِق.
إنها حكمةُ الله وعظمتُه، وتسخيرُ عبادِه بعضِهم لبعضٍ، (إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ) [المائدة: 1]. وقد قال الصادقُ المصدوقُ - صلواتُ الله وسلامُه عليه -: «وجُعِلَ رِزقِي تحت ظلِّ رُمحِي».
وحث فضيلته على الاعتدال والقناعة فقال: ألا رحِمَ الله عبدًا كسَبَ فتطهَّر، واقتَصَدَ فاعتَدَل، وذكَرَ ربَّه ولم ينسَ نصيبَه من الدنيا، ويا خيبةَ من طغَا مالُه ورِزقُه عليه، وأضاعَ دينَه وكرامتَه،.. فالرزقُ لا يُردُّ إلى كَياسَة المرء وعقلِه؛ فربَّما رأينَا أكيَسَ الناس من أفنَى عُمرَه في الكسبِ، قد يفُوقُه في الغِنى من هو أجهلُ منه، وأقلُّ عقلاً وذكاءً.
وبيّن الشيخ أن العملَ مهما كان حقيرًا فهو خيرٌ من البِطالة؛ لأن العِزَّة بلا سُؤال خيرٌ من ذِلَّةٍ بسُؤال. وإن الإسلام نظرَ إلى المُكلَّف نظرَ اعتِبارٍ؛ حيث دعاه إلى نُزول ميادِين العمل على أنواعها، إما مأجورًا، أو حُرًّا مُستقِلاًّ، أو مُشارِكًا في المال إن استَطاع.
واستشهد فضيلته على كلامه ببعض الأحاديث النبوية فقال: وقد سُئِل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ الكسبِ أفضل؟ قال: «عملُ الرجلِ بيدِه، وكلُّ بيعٍ مبرور»؛ (رواه الطبراني).
وقال - صلواتُ الله وسلامُه عليه -: «ما أكلَ أحدٌ طعامًا خيرٌ من أن يأكُلَ من عملِ يدِه، وإن نبيَّ الله داوُد كان يأكلُ من عملِ يدِه»؛ (رواه البخاري).
وختم الشيخ خطبته الماتعة موصيًا أنه يجبُ على المُسلم أن يسعَى في الرِّزقِ ويبذُل وُسعَه، وأن يرضَى بما يقسِمُ الله له، وأن يجعلَ الغِنى والقِلَّة مطيَّتَين لا يُبالِي أيهما قُسِم له؛ فإن كانت القِلَّة فإنها قد تسمُو كما سمَتْ قِلَّةُ المُصطفى - صلواتُ الله وسلامُه عليه -، فإن فيها الصبرَ والاحتِساب. وإن كانت الغِنى، فإن الغِنى قد يدنُو كما دنَا غِنى قارُون.
كما أنه في الوقتِ نفسِه محلٌّ للبَذلِ والإنفاقِ من فضل الله، وجِماعُ ذلكم كلِّه محكومٌ بما قالَه المُصطفى - صلى الله عليه وسلم -: «إن روحَ القُدُس نفَثَ في رُوعِي أن نفسًا لن تموتَ حتى تستكمِلَ أجلَهَا وتستوعِبَ رِزقَها، فاتقوا الله وأجمِلُوا في الطلبِ، ولا يحمِلنَّ أحدَكم استِبطاءُ الرِّزقِ أن يطلُبَه بمعصيةِ الله؛ فإن الله تعالى لا يُنالُ ما عندَه إلا بطاعتِه»؛ (رواه الطبراني والحاكمُ وصحَّحه).
المدينة النبوية:
ألقى فضيلة الشيخ صلاح البدير - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "متاع الدنيا قليل"، والتي تحدَّث فيها عن الدنيا وأنها فانية، ولذَّاتُها ذاهِبة، وحثَّ فيها على وجوبِ الاستِعداد للآخرة، وتذكُّر الموت، والمُثابرةُ على فعلِ الخيرات.
واستهل فضيلته خطبته بنصح المصلين بتقوى الله قائلاً: لازِمُوا التقوى تسعَدوا؛ فبها يُنالُ جسيمُ الخير والفضل أجمعُ، وبها تزولُ الشُّرورُ عن العبدِ وتُدفَعُ (وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) [الزمر: 61].
وأضاف الشيخ محذرًا من الدنيا وسطوتها قائلاً: الدنيا دنِيَّةُ فانِية، والآخرةُ شريفةٌ باقية. تُذكِّرُنا بذلك الآياتُ الكريماتُ المُبارَكات. فطُوبَى لمن أنصتَ للعِظاتِ النوافِع، وأصغَى للمواعِظ البوالِغ، فعقلَها بقلبِه، وتفهَّمَها بلُبِّه، واستجابَ لها بقولِه وفعلِه، قال - جل في عُلاه -: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ)[الأنعام: 32]
وأوصى فضيلته بعد الاغترار بالدنيا فقال: الدنيا تنطوِي وتنقَضِي وتنتَهِي، ونعيمُ الآخرة أبديٌّ سرمديٌّ. الدنيا متاعٌ قصيرٌ حقيرٌ مصيرُه الزوالُ والفناء، والجنةُ نعيمٌ دائمٌ لا آخرَ له ولا انقِضاء. وعن المُستورِد بن شدَّاد - رضي الله عنه -، قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "واللهِ ما الدنيا في الآخرة إلا مثلُ ما يجعلُ أحدُكم إصبعَه في اليمِّ، فلينظُر أحدُكم بمَ ترجِع" (أخرجه مسلم).
وأضاف -وفقه الله-: الدنيا كالماء الذي علِقَ بإصبَعِ غامِسِها في البحر الزخَّار، والآخرةُ هي سائرُ البحر الخِضَمِّ الذي طغَت أمواجُه، وعلا هِياجُه. أفلا يعقِلُ حقيقةَ الدنيا من يُقدِّمُ نزْرَها وقليلَها الذي ينفَد على خطيرِ الآخرة وحظِّها الأسعَد؟!
عجِبتُ لمُعجَبٍ بنعـيمِ دُنيا *** ومغبونٍ بأيامٍ لِذاذِ
ومُؤثِرٍ المُقامَ بأرضِ قَفرٍ *** على بلدٍ خَصيـبٍ ذِي رَذَاذِ
ودُنياكَ التي غـرَّتْكَ فيها *** زخارِفُها تصيرُ إلى انجِذاذِ
ونادى فضيلته المسلم قائلاً: يا عبدَ الله .. يا عبدَ الله ! هَبْ الدنيا في يدَيك، ومثلُها قد ضُمَّ إليك .. فماذا يبقَى منها عند الموتِ لدَيك؟!
ألا يا ساكِنَ البيتِ الـمُوشَّى *** ستسكِنك المنيةُ بطنَ رَمسِي
رأيـتُك تذكرُ الدنيا كثيـرًا *** وكثرةُ ذِكرِها للقلبِ تُقسِي
كأنَّك لا ترى بالخلقِ نقصٍ *** وأنت تراه كلَّ شُروقِ شمسِي
وما أدري وإن أمَّلتُ رُشدًا *** لعلّي حين أُصبحُ لستُ أُمسِي
وتأسف فضيلته على غفلة كثير من المسلمين فقال: هيهَات هيهَات .. ولكن صُمَّت الآذانُ عن الآيات، وذهَلَت القلوبُ عن العِظات.
فاذكُر ساعةَ الأجل *** وكُن منها على وجَل
وابكِ على ذنوبٍ سلفت *** أدرِك النفسَ وإلا تلِفت
أقبِل على مولاك .. وأقلِع عن خطاياك .. وتُب مما جنَتْه يدَاك.
وبيّن الشيخ عظم خسارة العصاة فقال: فيا خيبةَ من باعَ نعيمَ الجِنان بالأماني الكواذِب، والملاهِي الجواذِب، والشهواتِ والقبائِح والمعايِب! يا خيبةَ من أغضَبُوا الجبَّار .. وضيَّعُوا الأعمار .. في اللهو والمعاصِي والأوزار، (قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) [الزمر: 15].
وأضاف الشيخ: شقِيَ مَن كلَّما جدَّد الله له نعمةً وامتِنانًا كلَّما جدَّد إثمًا وفُجورًا وعِصيانًا، وتعِسَ مَن كلَّما ازدادَ غِنًى وثراءً ومالاً ازدادَ إسرافًا وانحِرافًا وضلالاً، وخابَ مَن كلَّما ازدادَ أثاثًا ورِيًّا ازدادَ بُعدًا وغيًّا.
وحذر فضيلته من استيلاء الغفلة على العبد فقال: تتابَعَت عليه نِعَمُ الله وأعاطِيه، ومِنَنُه وأحاظِيه .. طعامٌ يُقوِّيه .. وماءُ يُروِيه .. وثوبٌ يُوارِيه .. ودارٌ تُؤوِيه .. وزوجٌ تحُوطُه وتُراعِيه .. وأمنٌ وافِرٌ يُظِلُّه ويَحمِيه .. وهو مُصِرٌّ على مخازِيه .. مُستمِرٌّ على مسَاوِيه .. مُسترسِلٌ في معاصِيه.
وختم فضيلته الخطبة بالتذكير بأن العطاء قد يكون استدراجًا للعبد فقال: وقد يكونُ العطاءُ والنَّعماءُ والسرَّاءُ ضربٌ من الاستِدراجِ والإنظَارِ والإملاءِ، (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) [آل عمران: 178].
وعن عُقبةَ بن عامرٍ - رضي الله عنه -، قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا رأيتَ اللهَ يُعطِي العبدَ من الدنيا على معاصِيه ما يُحبُّ، فإنما هو استِدراج" (أخرجه أحمد).
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم