مختصر خطبتي الحرمين 18 ربيع الأول 1436هـ

ملتقى الخطباء - الفريق الإعلامي

2022-10-04 - 1444/03/08
التصنيفات:

اقتباس

يجبُ على المُسلم أن يُحاسِبَ نفسَه ويُجاهِدَها في الخطَرَات والوارِدات على القلب، والوساوِس؛ فإن مبدأَ الخير والشرِّ من خطَرَات القلوب ووارِداتها، فإن تحكَّم المُسلمُ في الوارِدات على قلبِه، ففرِحَ بوارِدات الخير واطمأنَّ لها ونفَّذَها أفلحَ وفازَ، وإن طرَدَ وساوِسَ الشيطان ووارِداته واستعاذَ بالله من وساوِسه نجا وسلِم من المُنكرات والمعاصِي، وإن غفِلَ عن وساوِسه وتقبَّلَها أوردَه المُحرَّمات.. ومن اتَّبعَ هواه، وأعرضَ عن القرآن، وارتكَبَ ما تشتَهِيه نفسُه، واستلَذَّ الشهوات، وقارَفَ الكبائِرَ، وأعطَى الشيطانَ قِيادَه أوردَه كل إثمٍ عظيم، وخلُدَ معه في العذابِ الأليم...

 

 

 

 

مكة المكرمة:

 

ألقى فضيلة الشيخ صالح بن عبد الله بن حميد - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "الصلاة قرة عيون الموحِّدين"، والتي تحدَّث فيها عن الصلاةِ وأهميتها ووجوب تلبيةِ النداء، كما نبَّه إلى روح الصلاة بالخشوع فيها، مُورِدًا العديدَ من أقوال وأحوال السلَف عن الصلاةِ واهتمامهم بها، ووجَّه في آخر الخطبة نصيحةً صادقةً للشباب بعدم الانجِرار خلفَ دعاوى التكفير والتفجير وسفكِ الدماء المعصومة؛ لما في ذلك من المفاسِد والمهالِك في الدنيا والآخرة.

 

واستهل الشيخ بالوصية بتقوى الله -تعالى- فقال: فاتقوا الله، واستعِدُّوا - رحمكم الله - ليومٍ بضاعتُه الأعمال، وشهودُه الجوارِحُ.. يوم لا يُقالُ فيه من ندِم، ولا عاصِمَ فيه من أمرِ الله إلا من رحِم.

 

وأضاف الشيخ: عبادةُ الله هي الغايةُ المحبوبةُ لله، خلقَ الخلقَ لأجلِها، وأرسلَ الرُّسُلَ لإبلاغِها، وأنزلَ الكتُبَ لبيانِها. مدَحَ القائِمين بها، فقال - عزَّ شأنُه -: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ) [الزمر: 9]. وتوعَّد المُستكبِرين عنها، فقال - جل وعلا -: (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) [غافر: 60].

 

العبادةُ هي الأُنسُ بالله، والسُّرور بمُناجاتِه، سُرورٌ لا ينقطِع، وبهجةٌ لا تنتهِي. فمن أرادَ السعادة فليلزَم العبادة؛ فالعبادةُ للقلوبِ أهمُّ من الطعام والشرابِ للأبدان.

 

وقال -حفظه الله-: إذا ضاقَت نفسُك، ودخلَ عليك الضَّجَر، وأحسَستَ بالحاجة إلى الشكوَى، وحزَبَك بأمرٌ، فافزَع إلى قُرَّة عيون المُوحِّدين، وراحةِ نفوسِ المُؤمنين، وربيعِ قلوبِ المُخبِتين. افزَع إلى أم العبادات، وتاجِ الطاعات .. افزَع إلى ما كان يفزَعُ إليه حبيبُك ونبيُّك محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - .. افزَع إلى الصلاة؛ فقد قال - عليه الصلاة والسلام -: «أرِحنا بها يا بلال!»، وقال - عليه الصلاة والسلام -: «وجُعِلَت قُرَّة عيني في الصلاة».

 

وقال -وفقه الله-: إنهم المُوفَّقون .. أهلُ التُّقَى والهُدَى .. المُعلَّقةُ قلوبُهم بالمساجِد .. المُبكِّرون إلى الصلوات .. المشَّاؤُون في الظُّلُمات .. المُجيبُون داعِيَ الفلاح: حيَّ على الصلاة، على الفلاح .. المُتسابِقُون وإلى الصف الأول سابِقون .. المُدرِكُون تكبيرةَ الإحرام مع الإمام.

 

وأضاف فضيلته: التبكيرُ إلى الصلاة وانتِظارُها، والاشتِغالُ بالذكرِ وقراءةِ القرآن قبلَها من أعظمِ جالِبات الخير والسعادة، ومُفرِّجات الضيقِ والهُموم.

 

وقال فضيلته: واعلَم - حفِظَك الله - أنه إذا تمكَّنَ حبُّ الصلاة من القلبِ فلن يجِدَ حلاوةً ألذَّ منها. ويقول أهلُ العلم: "إن سببَ حُضورِ القلبِ هو الهمُّ؛ فمتى أهمَّك أمرٌ حضرَ قلبُك". فإذا صرفتَ هِمَّتَك إلى الصلاة حضرَ قلبُك فيها، وحين يمتلِئُ القلبُ بالخُشوعِ يفيضُ على الجوارِحِ غضًّا وخفضًا، وأدبًا وسُكونًا، مُستشعِرًا جلالَ من يقِفُ بين يدَيه، يُصلُّون وهم يعلَمون ما يقولون، يُصلُّون وقلوبُهم بذِكرِ ربِّها مُطمئنَّة.

 

وقال -حفظه الله-: التبكير والمُبادرةُ عونٌ على حُضورِ القلبِ والخُشوع وحُسن الإقبال على الله، وعونٌ على الإتيان بالأدعية والأذكار المشروعة صباحًا مساءً، وعونٌ على الخَلوَة بالله ومُناجاتِه، وعونٌ على التبكيرِ في آلاءِ الله وآياتِه.

 

وهل رأيتَ أسعدَ وأرجَى ممن يُبكِّرُ من أجل أن يأتِيَ بالرواتِبِ والنوافِل بين الأذانِ والإقامةِ! المُبادرةُ والتبكيرُ دليلُ تعظيمِ الصلاة وتوقيرِها ومحبَّتها وتعلُّق القلبِ بها، وعُمران بُيوت الله بالاشتِغال بها.

 

وأضاف سماحته: المُبكِّرُ مُبادِرٌ مُنافِسٌ ومُسابِقٌ، داخِلٌ فيمن عنَاهم نبيُّنا محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - بقولِه: «لو يعلمُ الناسُ ما في النداء والصفِّ الأول ثم لم يجِدوا إلا أن يستهِمُوا عليه لاستَهَمُوا عليه»؛ (متفق عليه).

 

وقال الشيخ: مُنتظِرُ الصلاة لا يزالُ في صلاةٍ ما انتظَرَ الصلاة؛ ففي الحديث: «لا يزالُ أحدُكم في صلاةٍ ما دامَت الصلاةُ تحبِسُه، لا يمنَعُه أن ينقلِبَ إلى أهلِه إلا الصلاة» (متفق عليه). مُنتظِرُ الصلاة تُصلِّي عليه ملائكةُ الرحمن، وتدعُو له بالمغفِرَة والرحمةِ ما دامَ في مُصلاَّه ما لم يُحدِث أو يُؤذِي؛ ففي الحديث: «الملائكةُ تُصلِّي على أحدِكم ما دامَ في مُصلاَّه ما لم يُحدِث: اللهم اغفِر له، اللهم اغفِر له، اللهم اغفِر له، اللهم ارحَمه»؛ (متفق عليه).

 

وقال -وفَّقه الله-: أما التبكيرُ يوم الجُمعة، فإن الملائكةَ تكونُ يوم الجُمعة على أبوابِ المساجِد، يكتُبُون الأولَ فالأول، فإذا جلَسَ الإمامُ طوَوا الصُّحُف وجاءُوا يسمَعون الذِّكرَ.

 

وأضاف فضيلته: أما أقوالُ السلَف وأحوالُهم في هذا التنافُس والمُسابَقَة والمُبادَرة؛ فمما لا ينقضِي منه العَجَب، يقولُ سعيدُ بن زيدٍ: "ما أذَّن المُؤذِّنُ لصلاةِ الظهر منذ أربعين سنةٍ إلا وأنا في المسجِد، إلا أن أكون مريضًا أو مُسافِرًا".

 

ويقولُ يحيى بن معين، عن يحيى بن سعيد: "إنه لم يفُتْه الزوالُ في المسجِدِ منذ أربعين سنة". ويقول سعيدُ بن المُسيَّب: "ما فاتَني التكبيرُ والأذانُ منذ خمسين سنة، وما نظرتُ قفَا رجُلٍ في الصلاة منذ خمسين سنة".

 

وقال -وفَّقه الله- صلاةُ مُودِّع يُرى عظيمُ أثرها في سمعِه وبصرِه وممشاهُ وسُكونِه؛ بل هي الجنةُ والنعيمُ المُعجَّلُ، وهذه من المطالِبِ الكبار التي تحتاجُ إلى هِمَمٍ كِبار وقلوبٍ حيَّة، ممن قدَّم طاعةَ مولاه على هواه ودُنياه.

 

وأضاف فضيلته: هذه هي الصلواتُ الخمسُ، من حافظَ عليها كانت له نورًا وبُرهانًا ونجاةً يوم القيامة، ومن لم يُحافِظ عليها لم تكُن له نورًا ولا بُرهانًا ولا نجاةً، وكان يوم القيامة مع قارُون وفِرعون وهامان وأُبَيِّ بن خلَف.

 

فاتقوا الله - رحمكم الله -، وشمِّروا وبادِروا، وأقيمُوا الصلاةَ مُنيبين لربِّكم، خاشِعين مُخبِتين مُتذلِّلين، كما يقول الحسنُ البصريُّ - رحمه الله -: "إذا قُمتَ إلى الصلاةِ فقُم قانِتًا كما أمرَكَ الله، وإياك والسهو .. ينظرُ الله إليك وأنت تنظُرُ إلى غيرِه".

 

وقال -حفظه الله-: اعلَموا - رحمكم الله - أن الله قد أسبغَ علينا في بلادِنا - بلاد الحرمين الشريفين، المملكة العربية السعودية - أنعمَ علينا نعمةً كُبرى، ووفَّق لإنجازاتٍ عُظمى في إصلاحٍ وبناءٍ ونماءٍ، رغمَ كل ما يُحيطُ بالمنطقة من ظروفٍ وحروبٍ وفتنٍ واضطرابات. فالحمدُ لله ثم الحمدُ لله على هذا الأمن والرخاء والاستِقرار ووحدة الصفِّ وتلاحُم القيادة والأمة. بلادٌ طيبةٌ تحبُّ الخيرَ للجميع، وتتعاوَنُ مع الجميع في نُصرة الدين والحقِّ والعدلِ والسلام.

 

وأضاف فضيلته: بلادٌ طيبةٌ تقومُ على الإسلام وحُسن المُعتقَد، وسلامة المنهَج، في تحكيمٍ لكتابِ الله وسُنَّة رسولِه محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، والسَّير على منهَج السلف الصالح. منهجُ السلَف منهجُ الصدقِ مع الله والصدقِ مع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، والصدقِ مع من ولاَّه الأمرَ، ومع الأنفُس ومع الأمة. بنهجٍ وسطٍ لا غلُوَّ فيه ولا تفريط.

 

وقال الشيخ: منهَجُ السلَف التِزامٌ وليس ادِّعاءً، ليس فيه طوائِفُ يُبدِّعُ بعضُها بعضًا، أو يلعَنُ بعضُها بعضًا، أو يُكفِّرُ بعضُها بعضًا. ليس منهَج تصنيفٍ ولا تكفيرٍ ولا عُنفٍ ولا تفجيرٍ. منهَجٌ يستمسِكُ بالكتابِ والسُّنَّة، ويرجِعُ إلى أهلِ العلمِ الربَّانيين الثِّقاتِ الأثباتِ الذين يعرِفون المصالِح والمفاسِدَ والموازَنَة بينها، ممن شابَت لِحاهُم في الطلبِ والتحصيل، وانحَنَت ظهورُهم تعلُّمًا وتعليمًا، ومُدارَسَةً ومُزاحَمَةً.

 

وأضاف سماحة الشيخ: ومع هذا المنهَج الواضِح، والمسلَك البيِّن، والصلاحِ الظاهِر .. كم هو مُؤلِمٌ أن ترى ابنَكَ الذي علَّمتَه وربَّيتَه وغذَوتَه تراه يتربَّصُ ببلدِه، ويغدُرُ بأهلِه، ويعمَى ويعجَزَ أن يعرِفَ عدوَّه الحقيقي.

 

مُغرَّرٌ به مسكين، يحمِلُ معه السلاح، يُولِّي أعداءَه ظهرَه، ويستقبِلُ بالقتل والتخريبِ أهلَه وبلدَه .. في تصرُّفاتِهم الرَّعناء، وإقداماتهم الحَمقَاء، تأتي هذه العمليَّةُ الغادِرةُ البائِسَةُ اليائِسَة على حدودِنا الشماليَّة.

 

وخاطب الشيخ هؤلاء الجهلاء قائلاً: هل وجدتُم أن العُنفَ حقَّق مكسَبًا، أو كسَبَ مغنَمًا؟! هل نصرَ دينًا .. هل حفِظَ بلدًا؟! بل لقد ولَّد أضعافَ الأضعاف من الشرِّ والضرر والفُرقة والانقِسام، مع ما يُخشَى عليكم فيه من النوايا المدخُولة، والمقاصِد المشبُوهة، والدوافِع الشخصيَّة، والمصالِح الضيِّقة. بل لقد حقَّقتُم للعدوِّ والشامِت في الداخِل والخارِج أضعافَ ما يرجُو، وأتَحتُم له فُرصَ التدخُّل والضربِ والطَّعن والتسلُّل في بلادِ المُسلمين؛ بل بغلُوِّكم وانحِرافِكم ارتفَعَ رأسُ النِّفاق، واستعلَى من في قلبِه مرض، وتتطاوَلُوا على الشرع، واتَّهَمُوا الصالِحين، واجترَءوا على المُتديِّنين.

 

وختم الشيخ خطبته بحثّ الجميع على الترابط والتماسك، فقال: ما رأينا إلا ازدِياد اللُّحمة، والالتِفاف حول القيادة، والثقةِ بقوَّاتنا، ومعرفةِ نعمةِ الله علينا في الأمن والرخاء والاستِقرار. فمسؤوليَّتُنا: شُكرُ الله وحُسنُ عبادِه، ورعايةُ هذه المُنجَزات وصيانتُها والمُحافظةُ عليها، ورَدعُ كلِّ من يُحاوِلُ النَّيلَ منها أو العبَثَ بها.

 

المدينة النبوية:

 

ألقى فضيلة الشيخ علي بن عبد الرحمن الحذيفي -حفظه الله- خطبة الجمعة بعنوان: "محاسبة النفس"، والتي تحدَّث فيها عن أن فلاح الإنسان وسعادته في التحكُّم في نفسِه ومُحاسبتها والاحتِراس من نزَغَات الشيطان، وعلق فضيلته على حادث الحدود الشمالية واصفًا إياه بأنه عملٌ إجراميّ كبيرٌ وفساد عظيم.

 

واستهل فضيلته خطبته بنصح المصلين بتقوى الله قائلاً: فاتقوا الله تعالى بالتقرُّب إليه بما يُرضِيه، والابتِعاد عما يُغضِبُه ويُؤذِيه؛ فقد أفلَحَ وفازَ من اتَّقَى، وخابَ وخسِرَ من اتَّبَعَ الهوَى.

 

وأضاف الشيخ: عباد الله: اعلموا أن فلاحَ الإنسان وسعادتَه في التحكُّم في نفسِه ومُحاسبتها، ومُراقبتها في كل صغيرةٍ وكبيرةٍ في الأقوال والأفعال. فمن حاسَبَ نفسَه وتحكَّم في أقواله وأفعاله، وخطَرَاته بما يحبُّ الله ويرضَى فقد فازَ فوزًا عظيمًا.

 

واستشهد فضيلته بشواهد من القرآن والسنة، فقال: قال الله تعالى: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) [النازعات: 40، 41]، وقال تعالى: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) [الرحمن: 46]، وقال - عز وجل -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر: 18]، وقال - عز وجل -: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ)[الأعراف: 201]، وقال تعالى: (وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) [القيامة: 2]. قال المُفسِّرون: "أقسمَ الله بالنفس اللوَّامة التي تلومُ على التقصيرِ في الواجِبات، وتلومُ على اقتِرافِ بعضِ المُحرَّمات، فتلومُ كثيرًا حتى يستقيمَ أمرُها".

 

واستشهد الشيخ ببعض الآثار عن السلف، فقال: وعن شدَّاد بن أوسٍ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الكيِّسُ من دانَ نفسَه وعمِلَ لما بعد الموت، والعاجِزُ من أتبَعَ نفسَه هواها وتمنَّى على الله» (حديثٌ حسن). وقال عُمرُ بن الخطَّاب - رضي الله عنه -: "حاسِبُوا أنفسَكم قبل أن تُحاسَبُوا، وزِنُوها قبل أن تُوزَنوا، وتأهَّبُوا للعرضِ الأكبر".

 

وقال ميمونُ بن مِهران: "المُتَّقي أشدُّ مُحاسبةً لنفسِه من الشريكِ الشَّحيحِ لشريكِه". وقال ابن مسعودٍ - رضي الله عنه -: "إن المؤمنَ يرَى ذنوبَه كأنه في أصلِ جبلٍ يخافُ أن يقعَ عليه، وإن الفاجِرَ يرَى ذنوبَه كذُبابٍ طارَ على أنفِه فقال به هكذا - أي: أطارَه بكفِّه -" (رواه البخاري).

 

وأضاف الشيخ: المؤمنُ يُحاسِبُ نفسَه ويُراقِبُها ويُقيمُها على أحسن الأحوال؛ فيُحاسِبُ نفسَه على الأفعال، فيُجاهِدُها في العبادات وفي الطاعات ليأتيَ بها كاملةَ الإخلاص، نقيَّةً سليمةً من شوائِبِ الابتِداع والرياء، والعُجب بالعمل، مُبتغِيًا بعملِه وجهَ الله والدارَ الآخرة. ويُحاسِبُ نفسَه ليُوقِعَ العملَ الصالِحَ، ويفعلَه مُوافِقًا لسُنَّة النبي - صلى الله عليه وسلم -، مع الالتِزام بدوام العمل، واستِمراره بلا رِدَّةٍ ولا انقِطاع.  قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [العنكبوت: 69]، وقال تعالى: (وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) [العنكبوت: 6].

 

وقال -وفقه الله-: وعن سُفيان الثوريِّ قال: "ما عالَجتُ شيئًا أشدَّ عليَّ من نيَّتي؛ لأنها تتقلَّبُ عليَّ". وقال القُطرُ بن زياد: سألتُ الإمام أحمد عن النيَّة في العمل، قلتُ: كيف النية؟ قال: "يُعالِجُ نفسَه إذا أرادَ عملاً لا يُريد به الناس".  وعن شدَّاد بن أوسٍ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من صلَّى يُرائِي فقد أشرَكَ، ومن صامَ يُرائِي فقد أشرَكَ، ومن تصدَّقَ يُرائِي فقد أشرَكَ»؛ (رواه أحمد في "المسند"، والحاكم، والطبراني في "الكبير").

 

وأضاف فضيلته: ويُحاسِبُ نفسَه في نُطقِه وكلامِه، فلا يُطلِق لِسانَه بالكلام بالباطِل والمُحرَّم من الألفاظِ، وليتذكَّر أنه قد وُكِّل به ملَكَان يكتُبان كلَّ ما نطَقَ به لِسانُه، وكلَّ ما عمِلَ من عملٍ، فيُثابُ على ذلك أو يُعاقَب.  قال الله تعالى: (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ) [الانفطار: 10- 12]، وقال تعالى: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق: 18]. عن ابن عباسٍ - رضي الله عنهما - قال: "يكتُبُ كل ما تكلَّم به من خيرٍ وشرٍّ، حتى إنه ليكتُبُ قولَه: أكلتُ، شرِبتُ، ذهبتُ، جئتُ، رأيتُ".

 

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الرجلَ ليتكلَّمُ بالكلمة من رِضوان لا يُلقِي لها بالاً يرفعُه الله بها درجات، وإن العبدَ ليتكلَّم بالكلمة من سخَط الله لا يُلقِي لها بالاً يهوِي بها في جهنم»؛ (رواه البخاري).

 

وقال -حفظه الله-: يجبُ على المُسلم أيضًا أن يُحاسِبَ نفسَه ويُجاهِدَها في الخطَرَات والوارِدات على القلب، والوساوِس؛ فإن مبدأَ الخير والشرِّ من خطَرَات القلوب ووارِداتها، فإن تحكَّم المُسلمُ في الوارِدات على قلبِه، ففرِحَ بوارِدات الخير واطمأنَّ لها ونفَّذَها أفلحَ وفازَ، وإن طرَدَ وساوِسَ الشيطان ووارِداته واستعاذَ بالله من وساوِسه نجا وسلِم من المُنكرات والمعاصِي. وإن غفِلَ عن وساوِسه وتقبَّلَها أوردَه المُحرَّمات، قال الله تعالى: (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)[فصلت: 36].

 

وقال الشيخ: وأمرَ الله بالاستِعاذة في سُورة الناس من هذا العدوِّ المُبين. قال ابن عباسٍ - رضي الله عنهما -: "إن الشيطانَ جاثِمٌ على قلبِ ابنِ آدم، فإن ذكرَ اللهَ خنَس، وإن غفِلَ وسوَس".  وعن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الشيطانَ واضِعٌ خَطمَه على قلبِ ابنِ آدم، فإن ذكرَ اللهَ خنَس، وإن نسِيَ التَقَمَ قلبَه، فذلك الوسواس الخنَّاس»؛ (رواه أبو يعلَى الموصِلي).

 

وأضاف الشيخ: فالحِفظُ من الذنوبِ برصدِ وساوِس الشيطان أولاً، والاحتِراس من نزَغَاته، قال الله تعالى: (وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [الأنعام: 151]. وأولُ النهي عن قُربانها هو الوسوسةُ بها؛ فمن حاسَبَ نفسَه وجاهَدَها كثُرَت حسناتُه، وقلَّت سيئاتُه، وخرجَ من الدنيا حميدًا، وبُعِثَ سعيدًا، وكان مع النبي - عليه الصلاة والسلام - الذي أُرسِلَ شهيدًا. 

 

وقال -وفقه الله-: ومن اتَّبعَ هواه، وأعرضَ عن القرآن، وارتكَبَ ما تشتَهِيه نفسُه، واستلَذَّ الشهوات، وقارَفَ الكبائِرَ، وأعطَى الشيطانَ قِيادَه أوردَه كل إثمٍ عظيم، وخلُدَ معه في العذابِ الأليم. قال الله تعالى: (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) [الكهف: 28].

 

وحذر فضيلته من اتباع خطوات الشيطان فقال: احذَروا مداخِلَ الشيطان على الإنسان، قال الله تعالى: (إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ) [فاطر: 5، 6]، قد اتخذَ هذا العدوُّ المُبين المُفسِدين مطايا، يُنفِّذُ بهم مقاصِدَه، ويأخُذُ بهم ثأرَه، وينتقِمُ بهم من المُؤمنين، ويعيثُ بهم في الأرض فسادًا.

 

وأضاف الشيخ: إن حادِثَ الحُدود الشمالية، والفَجيعة بثلاثةٍ من رِجال الأمن وهم يُؤدُّون واجِبَهم الديني، ويُدافِعُون عن الوطن حَوزَة الإسلام - غفَرَ الله لهم، وتقبَّلَهم في الشهداء، ورفعَ درجاتهم في جنات النعيم -، إن هذا الحادِث الأليم عملٌ إجراميٌّ كبيرٌ، وفسادٌ عظيم. ولقد استعظَمَ العلماء والعُقلاءُ قُبحَ الظلم والعُدوان على رِجال أمنِ هذه البلاد، وعدُّوه جريمةً نكراء، جمعَت كبائِرَ من الذنوبِ.

 

وقال الشيخ: وكان هؤلاء القتَلَة الذين قادَهم الشيطانُ لهذا العمل المُهلِك المُدمِّر، قدَّرُوا أن يُحقِّقُوا بعضَ أهدافِهم، فانعَكَسَت تلك الأهداف وأعطَى هذا الحادِثُ دلائِلَ على يقظَة رِجال الأمن، والتحسُّب لكل حالةٍ بما يُناسِبُها، من إطفاء في فتنتها.

 

وختم فضيلته الخطبة بالدعاء بحفظ البلاد وأهلها، وبدعوة إلى التأمل فقال: حفِظَ الله حُرَّاسَ الوطن، وحفِظَ الله المُسلمين من مُضِلاَّت الفتن، ومن شرِّ الأشرار في كل مكانٍ. فمن تُسوِّلُ له نفسُه بالأعمال الإرهابية الظالِمة العُدوانيَّة فالله له بالمِرصاد، قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) [يونس: 81]، وقال تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) [الفجر: 14]. ألا يتذكَّرُ أمثال هؤلاء أنهم موقوفون بين يدي رب العالمين؟! ألا يُحاسِبُون نفوسَهم؟! ألا يُفكِّرون بعقولِهم؟! قال تعالى: (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) [آل عمران: 8].

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات