اقتباس
إن العقلَ والمنطِقَ يقضِي بتأجيل أيَّة خلافاتٍ داخليَّة، أو خُصومات ولو كانت خلافاتٍ مُستحقَّة، ما دامَت البلادُ في حربٍ. فكيف إذا كانت خُصوماتٍ مُفتعلَة، وخلافاتٍ ساذَجة، تُشغلُ بها المُجتمعات، ويصطَفُّ لأجلِها النُّخبُ وذوو الهيئات؟! ترجُفُ بها وسائلُ التواصُل والإعلام، تُوغَرُ بها الصدور، وتُستجاشُ الأحقاد، يصحُو المُجتمعُ وينامُ لأيامٍ على تطوُّراتها وجديدها، يكونُ الانتصارُ فيها للنفسِ أكثرَ من الحقِّ، في استِهانةٍ بالحالةِ التي تعيشُها البلاد، وعدم مُبالاةٍ بجديَّة الأحداث التي يعيشُها الوطن. وإنك لتعجَبُ من قنواتٍ محسُوبةٍ على العربِ والمُسلمين قد انبَتَّ طرحُها عن أخلاق العربِ وشريعة المُسلمين...
مكة المكرمة:
ألقى فضيلة الشيخ صالح بن محمد آل طالب - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "فضل الرباط والمرابطين في سبيل الله"، والتي تحدَّث فيها عن الرباط في سبيل الله، مُتحدِّثًا عن فضائله وفضائل المُرابطين في سبيل الله، مُجلِّيًا المفهوم الصحيح له دون ما أدخلَه عليه السفهاءُ، كما وجَّه نصائحَه للكُتَّاب والإعلاميين بضرورة ترك الخلافات الداخلية والاهتمام بما يُحاكُ للأمة من مُؤامراتٍ، ووجوب حفاظ المُسلمين على الثغور الداخلية كما يُحافظُ المُرابطون على الحدود، من كل عدوٍّ مُتربِّصٍ بالمُسلمين.
واستهل الشيخ بالوصية بتقوى الله -تعالى- فقال: أُوصِيكُم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله تعال؛ فهي الزادُ للسفَر، وخيرُ ما يُجنَ ويُدَّخَر.
وأضاف الشيخ: الأمنُ والأمانُ نعمةٌ من الله على البشر، كما أنه فِطرةٌ يتطلَّبُها كلُّ حيٍّ على هذه الأرض. وفي ظلِّ الأمن يعبُد الناس ربَّهم في طُمأنينة، ويغدُو الناسُ إل معايشِهم ومعاهِدهم في سَكينة، فتُعمرُ الدنيا ويُسعَ إلى الآخرة.
وقال حفظه الله: وكما تُوضعُ الأقفالُ على الأبواب خشيةَ اللُّصوص، وتُبنى السُّدود خشيةَ دمار الطُّوفان، فإن على حدود البلاد سُدودًا وأبوابًا، يحرُسُونها - بإذن الله - من طُوفان الشرِّ وخرابِ الديار. رجالٌ يسهَرون لينام الناس، وينصَبون لراحة الآخرين. في ميزانهم الصالح كلُّ عبادةِ عابِدٍ، وعلمِ مُتعلِّمٍ، وكسبِ تاجرٍ، ودعوةِ هادِي. إنهم المُرابِطون عل الثُّغور، والحارِسون للحدود، والحافِظون للأمن.
وقال وفقه الله: الرِّباطُ هو الإقامةُ في الثُّغور، وهي الأماكنُ التي يُخافُ على أهلها من العدوِّ، والمُرابِطُ هو المُقيمُ على الثُّغور، والمُعِدُّ نفسَه للجهاد في سبيلِ الله والدفاعِ عن دينه وإخوانِه المُسلمين، وهو واجبٌ أمرَ الله به في قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [آل عمران: 200].
وبيَّن الشيخ أن الرباط عبادةٌ مُمتدَّةُ الأثر، عظيمةُ الخطر، وقد نقلَ شيخُ الإسلام في فضلِ المُرابَطةِ في سبيل الله الاتفاقَ بين أئمةِ الإسلام عل أنها أفضلُ من المُجاورةِ بالمسجِد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصَى. فكيف بمن رابطَ لأجل حماية هذه المُقدَّسات، وحِراسة أراضِيها، ورعايةِ قاصِديها؟!
وأكَّد الشيخ أن الرِّباط والجهاد فروضٌ شرعية، لها معالِمُها وحُدودُها وفقَ الشريعة لا وفقَ الأهواء، ولا كما يُصوّرُها الأعداء، أو يتبنَّاه السُّفهاء. الرِّباطُ والجهادُ شُرِعا لحفظ الدين والأنفُس والأموال والديار، من قاتلَ لتكون كلمةُ الله هي العُليا فهو المُجاهدُ في سبيل الله. فهل يُعلِي كلمةَ الله من يقتلُ المُصلِّين في المساجد، وينتهِكُ الحُرمات، ويُزعزِعُ الأمنَ في ديار الآمِنين، ويستهدِفُ المُسلمين قبل غيرهم بالقتل والتخريب والتدمير؟! إن اختطافَ المارِقين للمُصطلحات الشرعية لا يُلغِيها، ولا يُسوِّغُ تركَ الحقِّ لمُنازعَة المُبطِلين به.
وبيَّن الشيخ أن من يحمِي ثُغورَ المُسلمين، ويدفعُ عنهم هو المُرابِطُ في سبيل الله، والذين يقِفون على حدود البلاد يُؤمِّنونها ويحرُسُونَها هم المُرابِطون في سبيل الله. المُرابِط كلُّ من وقفَ نفسَه على ثغرٍ من ثُغور الإسلام، يدفعُ عنه ويحرُسُه ويحمِيه، حتى ولو لم يُقاتِل. إن مُجرَّد المُرابطَة ولو بدون قتالٍ هو رِباطٌ تامٌّ يُؤجَرُ عليه المُرابِط. فعن سلمان - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «رِباطُ يومٍ وليلةٍ خيرٌ من صيامِ شهرٍ وقِيامه، وإن ماتَ فيه جرَى عليه عملُه الذي كان يعمل، وأُجرِيَ عليه رِزقُه، وأمِنَ من الفتَّان» (رواه مسلم).
وأكَّد الشيخ أن هذا هو الرِّباطُ، وهذا فضلُه، حتى ولو لم يحصُل قتلٌ ولا قتال، أما إذا ابتُلِيَ المُؤمن بمُواجهة العدوِّ فهو في جهادٍ يُؤجَرُ عليه، ومقامٍ عليٍّ يُغبَطُ عليه، وموطِن ابتلاءٍ ورِفعةٍ، ولا شكَّ أن القتالَ أمرٌ صعبٌ تكرَهُه النفوسُ، وإن القتلَ ليس مقصُودًا لذاتِه، فالمُسلمُ لا يذهبُ للجهاد لأجل أن يُقتل، وإنما لأجل أن ينصُر دينَ الله، ويُدافِعَ عن المُسلمين وعن أرضِهم، ولأجلِ أن ينتصِر في مهمَّته.
وبيَّن الشيخ واجب المسلمين نحو المرابطين فقال: إن المُجاهدين والمُرابِطين عل الحُدود لهم عليكم حقٌّ عظيم، يُعرِّضُون أنفُسَهم للموت والخطر، والتعبِ والنصَب، من أجل أن تعيشُوا في أمنٍ ورخاءٍ، وراحةٍ وأمنٍ وطُمأنينة، ورغدِ عيشٍ. يُعرِّضُون أنفُسَهم لكل أنواع المصائِب والأهوال، يُفارِقون الزوجات والأولاد والأهل، من أجل أن ينعَمَ إخوانُهم بعيشةٍ طيبةٍ، فهم يقُومون بواجبٍ عظيمٍ.
وأشار الشيخ إلى أهمية اجتماع الكلمة ووحدة الصف، فقال: فكما أن الرِّباط عادةً يكون في الثُّغور وعلى أطراف البلاد، فإن لأهل الداخِل رِباطًا آخر لا يقلُّ أهميَّةً عن رِباط الحُدود، وخُصوصًا إذا كانت البلادُ قد دخلَت في غِمارِ الحروب. إنه حِراسةُ وحدة الصفِّ، واجتماع الكلمة، وهو ثغرٌ يحرِصُ العدوُّ عل النَّفاذِ منه إذا أعجزَته ثغورُ الأطراف؛ بل إنه لا قيمةَ لكل جهدٍ عل الحُدود إذا تمَّ النَّيلُ من ثغر الداخِل، وهو الثَّغرُ الذي يستهدِفُه المُنافِقون عادةً، وقد يستجِرُّون إليه المُغفَّلين والجُهَّال.
وأضاف الشيخ: إن العقلَ والمنطِقَ يقضِي بتأجيل أيَّة خلافاتٍ داخليَّة، أو خُصومات ولو كانت خلافاتٍ مُستحقَّة، ما دامَت البلادُ في حربٍ. فكيف إذا كانت خُصوماتٍ مُفتعلَة، وخلافاتٍ ساذَجة، تُشغلُ بها المُجتمعات، ويصطَفُّ لأجلِها النُّخبُ وذوو الهيئات؟! ترجُفُ بها وسائلُ التواصُل والإعلام، تُوغَرُ بها الصدور، وتُستجاشُ الأحقاد، يصحُو المُجتمعُ وينامُ لأيامٍ على تطوُّراتها وجديدها، يكونُ الانتصارُ فيها للنفسِ أكثرَ من الحقِّ، في استِهانةٍ بالحالةِ التي تعيشُها البلاد، وعدم مُبالاةٍ بجديَّة الأحداث التي يعيشُها الوطن.
وحذر الشيخ من أن ثمَّة خواصِر ليِّنة في كل مُجتمع، كثيرٌ منا يعرِفُها، إذا تمَّ مسُّها بحقٍّ أو باطِل ثارَ غُبارُ الجدل حولها، وانشغلَ المُجتمعُ بها، واستُحضِرَت الشَّحناءُ عل عتَبَاتها. هذه الخواصِرُ ينخَسُها المُغفَّلون، أو المدفُوعون بلا مُبالاةٍ ولا تقديرٍ للعواقِب، ولا إحساسٍ بالحالةِ الرَّاهِنة للدولةِ، فينسَ الناسُ حربَهم الداخلية، لينشغِلوا باحترابٍ مُجتمعيٍّ داخليٍّ. إن تلك القضايا الحسَّاسة التي تُمسُّ إن كانت إثارتُها بحقٍّ فليس هذا وقتُه، وإن كان بباطلٍ فإنما هي غارةٌ داخليَّةُ الرميِ والمرمَى.
وقال حفظه الله: وإنك لتعجَبُ من قنواتٍ محسُوبةٍ على العربِ والمُسلمين قد انبَتَّ طرحُها عن أخلاق العربِ وشريعة المُسلمين. وآخرون يستَعدُون الرأيَ العام، ويُقلِّبُون الأمور عبرَ الكلمات والتغريدات والمقالات، في ضَجيجٍ تُؤجِّجُه العواطِف، واستِعداءٍ تؤُزُّه الأهواءُ الجامِحة، لا تُنتِجُ إلا إيقاظَ الفتن. وبلادُنا مغبُوطةٌ بتماسُك جبهَتها الداخلية ووارِفِ أمنها، مُستهدَفةٌ من أعداء يَكيدُون لها، ويتربَّصون بها الدوائِر.
وختم الشيخ خطبته ببيان دور المملكة وأوصى الجميع بالحفاظ على أمن البلاد وسلامتها فقال: إن المملكة دولةٌ شرَّفها الله بخدمة المُقدَّسات، ومُؤسِّسُها - رحمه الله - أرادَ لها أن تقوم على المحجَّة البيضاء، فأسلمَ لها الرأيُ العالميُّ الإسلاميُّ، ومنحَها التقديرَ والثقة. فهي ناهِضةٌ لتحقيق مسؤوليَّتها العالمية، وقدرِها وقدَرِها الذي شرَّفَها الله به. فعلى كل قائلٍ وكاتبٍ أن يسعَ لتوجيهِ فيوضِ القول لجمع الكلمة، وتوحيد الصفِّ والجهد لتحقيق الهدف. فالزمنُ بأوجاعه ومُخاتلة أشراره لا يحتمِلُ التصعيد والمُناكفات. لا بُدَّ من حَقن الأحبار، وكفِّ الألسُن، حتى يأذَن الله بانفِراج الأزمَات المُحدِقة بالأمة، وانكِشاف الغُمَّة.
المدينة المنورة:
ألقى فضيلة الشيخ حسين بن عبد العزيز آل الشيخ - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "الهموم والغموم ووسائل دفعها"، والتي تحدَّث فيها عن الهموم والغُموم والمصائِب التي تُصيبُ المُسلمين عمومًا، والمُسلم بصورةٍ خاصَّة، وبيَّن كيفية دفعها، وما الوسائل التي ينبغي للمُسلم أن يأخُذ بها في سبيل تحقيق ذلك.
واستهل الشيخ بالوصية بتقوى الله -تعالى- فقال: أُوصِيكم ونفسي بتقوى الله - جل وعلا -؛ فبتقواه يجعلُ الله لكم من كل ضيقٍ مخرجًا، ومن كل همٍّ فرَجًا.
وأضاف الشيخ: يمرُّ الأفرادُ بكروبٍ وهموم، وتنزلُ بالأمة مِحنٌ وغُموم، وهكذا هي الحياةُ الدنيا تمتزِجُ بالشدَّة والرخاء، والسرَّاء والضرَّاء، ولكن من الحقائِق اليقينية: أن المُسلم في كل أحواله عل خيرٍ عظيمٍ وأجرٍ جَسيم، يقولُ ربُّنا - جل وعلا -: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) [البقرة: 155- 157]، ويقولُ سيِّدنا ونبيُّنا محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - مُسلِّيًا لأمَّته: «عجَبًا لأمر المُؤمن، إن أمرَه كلَّه خير، وليس لأحدٍ إلا للمُؤمن، إن أصابتْه سرَّاءُ شكَرَ فكان خيرًا له، وإن أصابَته ضرَّاءُ صبرَ فكان خيرًا له» (رواه مسلم).
وقال حفظه الله: وإن من الأُصول الإيمانية، والحقائق القرنية، والبشائِر النبوية: أن العاقبةَ الحسنةَ لأهل الإيمان، لأهل التوحيد والطاعة والإحسان، يقولُ ربُّنا - جل وعلا -: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) [الشرح: 5، 6]، ولن يغلِبَ عُسرٌ يُسرَين، وما من عبدٍ مُوحِّدٍ يُصيبُه همٌّ إلا أعقبَه الله بفرَجٍ وتخفيفٍ، وتدارَكَه برحمته بصُنعٍ جليلٍ لطيف، يقول - جل وعلا -: (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) [الأنبياء: 87، 88].
وقال وفقه الله: اعلَم أن بعد الضيقِ تيسير، وأن بعد الكرْبِ فرَج، فرسولُنا - صلى الله عليه وسلم - الذي لا ينطِقُ عن الهوى يقول: «واعلَم أن النصرَ مع الصبر، وأن الفرَجَ مع الكرْبِ، وأن مع العُسر يُسرًا». وقال عُمرُ الفاروقُ - رضي الله عنه -: "مهما ينزلُ بامرئٍ من شدَّة يجعلُ الله بعدها فرَجًا، وإنه لن يغلِبَ عُسرٌ يُسرَين". بل هي عقيدةٌ راسِخةٌ عند المُؤمنين المُتوكِّلين، المُنقطِعين إلى ربِّهم، المُنكَسِرين الخاضِعين لخالقِهم.
وأكَّد الشيخ أن أعظمَ أسباب الفرَج، وأمتَنَ مُقوِّمات اليُسر: اللُّجوءُ إلى الله - سبحانه - بالتوبة النَّصُوح، والرُّجوع الصادقِ إليه - سبحانه - بالتضرُّع والتذلُّل، والطاعة والتقرُّب، فالإقبالُ على الله - جل وعلا - وعلى مرضاتِه وتحقيق طاعته، والبُعد عن مساخِطه ومناهِيه، هو الأساسُ المَكين للخُروج من الأزمات والخلاصُ من الشدائِد في هذه الحياة الدنيا وبعد الممات. فعلى الأفراد والجماعات، على الأمة الإسلامية جميعًا أن يُحسِنوا الظنَّ بربِّهم في السرَّاء والضرَّاء، وعند المصائِب والبلواء؛ فمن فرَّ إليه واه، ومن التجَأَ إليه واستجارَ به أجارَه، وكشفَ ضرَّه وبلوَاه.
وبيَّن الشيخ أن صمام الأمان عند الكُروب والمصائِب، وحبل النجاة عند المخاوِف والخُطوب ليس هو الشأنُ البشريُّ فيما يقومون به من أسباب؛ بل هو تحقيقُ التعبُّد لله - جل وعلا -، والتمسُّك بالعقيدة الصحيحة وحقائِقِها، وبالوحيَيْن وتوجيهِهما، فمن سُنَّة الله أنه يسُوقُ للعباد الشدائِدَ لتحمِلَهم عل التوبة والإنابة، ولو أنَّنا نقرأُ كتابَ ربِّنا كما كان صحابةُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - يقرؤونَه، لجعلَ الله في حياتنا عجائِب.
وخاطب فضيلته المسلمين قائلاً: تمرُّ أمَّتُكم بكُروبٍ شديدة، ومصائِب عظيمة، ألا وإنه لا كاشِفَ لها ولا دافِع، مهما ظنَّ الخلقُ غيرَ ذلك، لا كاشِفَ إلا الرجوعُ إلى الصراط المُستقيم، وإصلاحُ الوضع بالإسلام وتعاليمِه، إصلاحُ حياة المُسلمين، إصلاحُ مُجتمعات المُسلمين بما يرجُونَه ويصبُونَ إليه، الإسلامُ وهديُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -. قال - جل وعلا -: (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الأعراف: 168].
وبيَّن الشيخ أنه إذا لم تُعالِجِ الأمةُ وضعَها المُزرِيَ من مُنطلَق أًصُولِها على ضوء هديِ دُستورِها. فمتى الرُّجوع والإصلاحُ يا تُرى؟! فأحدِثُوا - يا أمة الإسلام - توبةً ومُراجعةً صادقةً تنسِفُون بها بكل صدقٍ كلَّ المُخالفات العقائِديَّة، التي تُزاوَلُ في حياتِكم. طهِّرُوا واقِعَكم من كل ما لا يتَّفِقُ مع شرعِ ربِّكم، استَجيبُوا لربِّكم فيما يُنادِيكم به، ومتى حقَّق المُسلمون ذلك على مُستوى حُكَّامهم ومحكُوميهم، وعلى شتَّى مناحِي حياتهم، تبدَّلَت أحوالُهم رخاءً وعزًّا وصلاحًا.
وقال حفظه الله: يعيشُ المُسلمون في كثيرٍ من البُلدان التي لا تخفَ عليكم، يعيشُون في شدَّةٍ وكربٍ من العيش، يُقاسُون ويلاتٍ من المصائِب والإِحَن، ولا مخرَج للمُسلمين جميعًا وهم تُنذُِر بهم أسبابُ الخطر، لا مخرجَ لهم ولا مدفَع إلا بالخُضوع إلى الله وحدَه، والانقِياد لأمره، والإنابةِ الصادقةِ إلى دينِه، (وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ) [المؤمنون: 76]، يقول ابنُ دقيق العيد مُعلِّقًا على أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالدعاء والتكبير والصلاةِ والصدقةِ عند الكُسوف: "الحديثُ دليلٌ على استِحباب الصدقةِ عند المخاوِفِ لاستِدفاع البلاءِ والمحذُور".
وقال وفقه الله: وهي سُنَّةٌ لا تتبدَّلُ، ووعدٌ لا يتخلَّف من القوي القادر، اقتِرانُ الفرَجِ بالكَربِ، إذا اشتدَّ وعظُمَ وتناهَى، متى أحدثَ العبادُ تعلُّقًا بالله - جل وعلا -، وانقِطاعًا وتضرُّعًا إليه، والوقائِعُ في حياة المُسلمين قديمًا وحديثًا على مُستوى الأفراد والمُجتمعات والدُّول أشهرُ من أن تُحصَر، وأعظمُ من أن تُحصَى، (قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ) [الأنعام: 64].
وأكد الشيخ أن من أعظم ما يُزيلُ الهمَّ، ويُفرِّجُ الكربَ: لُزومُ ذكر الله - جل وعلا - بلسانٍ يُواطِئُه القلبُ، وأعظمُ الذكرِ: تلاوةُ كتاب الله - جل وعلا - بتدبُّرٍ وتمعُّنٍ وتعقُّل، وإن مما يجلِبُ الخيرات ويدفعُ البلِيَّات: كثرةُ الاستِغفار بلسانِ المقال ولسانِ الحال، ومن لزِمَ الصلاةَ والسلامَ عل النبي المُختار - عليه أفضلُ الصلاة والتسليم -، جعلَ الله له من كل همٍّ فرَجًا، ومن كل ضيقٍ مخرَجًا، وفتحَ عليه من الخيرات ما لم يكُن عل بالٍ، فكيف إذا لزِمَ سُنَّته وهديَه وسيرتَه؟!
وأوصى فضيلته من وقعَ في غمٍّ وكربٍ، وأصابَه عظيمُ الخَطْب! فقال: تضرَّع إلى ربِّك، استسلِم وانقطِع إليه، وفوِّضِ الأمرَ إليه - سبحانه -، فهو الذي يُحوِّلُ الحالَ، بيدِه أزِمَّةُ الأمور، وهو القويُّ الكبيرُ المُتعال، وهو الذي يجعلُ العدوَّ صديقًا، والصديقَ عدوًّا، ويجعلُ الرخاءَ سخاءً، ويجعلُ الشدَّة رخاءً.
وختم الشيخ خطبته ببيان أعظم ما يدفعُ الله به الهُموم، ويكشِفُ به الغُموم فقال: التضرُّعُ إليه بخالِصِ الدعاء باللِّسانِ والقلبِ، مع اليقين بالاستِجابة، (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ) [الأنبياء: 83، 84]. وفي الحديث: «لا يرُدُّ القدَرَ إلا الدعاءُ» (رواه أحمد والترمذي).
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم