اقتباس
إن لله –تعالى- على عبدِه عبوديَّةً في حالة السرَّاء وما يُحبُّ، وله عبوديَّةٌ في حالة الشرَّاء وفيما يكرَه، وهاتان العبوديَّتان هما رُكنا السعادة وقُطبَا رحاها، ومَن كمَّلَهما وأتى بهما فلا أسعَدَ مِنه، ولا أشرَحَ صَدرًا، ولا أكمَلَ طُمأنينةً وسَكِينةً مِنه.
مكة المكرمة:
ألقى فضيلة الشيخ خالد بن علي الغامدي - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "العبوديَّةُ في السرَّاء والضرَّاء"، والتي تحدَّث فيها عن تفرُّد المُؤمن بكَونِه عبدًا لله مُطيعًا لأوامِره - سبحانه وتعالى -، شاكرًا لنعمائِه، وراضِيًا بقضائِه في حالتَي السرَّاء والضرَّاء، مُبيِّنًا أقسَى العُقُوبات التي تنزِلُ على مَن لم يشكُر عند الخير أو يصبِر عند الضُّرِّ، وبعضَ صُورها.
واستهل الشيخ بالوصية بتقوى الله -تعالى-، فقال: فأُوصِيكم ونفسِي بتقوَى الله تعالى.
وأضاف الشيخ: ما مِن إنسانٍ في هذه الحياةِ إلا وهو يتقلَّبُ بين حالتَين لا ينفَكُّ عنهما: فإما أن يكسُوَه الله لباسَ النِّعمة والسرَّاء، وإما أن تُنزعَ مِنه فتُصيبُه حالةُ الضرَّاء والبُؤس والبأساء. ولا يخلُو أحدٌ مِن بني البشر مِن هاتَين الحالتَين حتى يقضِيَ أجلَه في هذه الحياة، فيَومًا علينا، ويومًا لنا، ويومًا نُساءُ، ويومًا نُسَرُّ.
وليس الشأنُ في هذا التقلُّبِ بين السرَّاء والضرَّاء فهو حَتمٌ لا مناصَ مِنه، إنما الشأنُ كلُّ الشأنِ في كيفيَّة التعامُل معهما، ومدَى استِثمار العاقلِ المُوفَّق، واغتِنامِه لحالتَي النَّعماء والبَلواء بما يُقرِّبُه مِن ربِّه ويُرضِيه عنه، وبما ينفَعُه في حياتِه ودُنياه وآخرتِه.
وقال حفظه الله: فالإنسانُ مِن حيث هو إنسان يُسرِفُ في الفرَح بالنَّعماء والسرَّاء، ويظنُّ أن الله -عزَّ وجل- قد اختصَّه بها لكرامتِه عنده؛ حتى يصِلَ إلى حدِّ الأشَر والبطَر والفخر، وينسَى أنها نعمةٌ لله، ولو شاءَ الله لنزَعَها مِنه في لَمحِ البصر، وفي المُقابِل نجِد أنه يجزَع ويتسخَّط ويقنَطُ مِن رحمةِ الله إذا ابتُلِيَ بالضرَّاء، ونُزِعَت مِنه العافيةُ والرحمةُ؛ حتى يصِلَ به الحالُ إلى اتِّهام الله في قَدَره، والاعتِراضِ عليه في قضائِه، وتلك فِتنة .. وأيُّ فتنةٍ؟! ولكنَّ أكثرَ الناسِ لا يعلَمُون!
وبيَّن الشيخ أن المُؤمنين الصادِقين الذين صدَقُوا مع الله، وشكَرُوا وصبَرُوا في حالتَي السرَّاء والضرَّاء، فوفَّقَهم ربُّهم لأحسن الأقوال والأعمال والأخلاق، وعلِمُوا أن لله -تعالى- عليهم عبوديَّةً في حالةِ النَّعماء والسرَّاء، كما له -سبحانه- عبوديَّةٌ في حالة الضرَّاء والبَلواء؛ فالمُؤمنُ الصادِقُ هو أسعَدُ الناسِ حظًّا بربِّه، وأكمَلُ الناسِ استِمتاعًا بهذه الحياةِ ولذَّاتِها، وأعقَلُ الناسِ وأحسَنُهم تصرُفًا في حالتَي الضرَّاء والسرَّاء التي لا ينفَكُّ عنهما أحدٌ مِن البشر.
وأكًَّد فضيلته أن لله -تعالى- على عبدِه عبوديَّةً في حالة السرَّاء وما يُحبُّ، وله عبوديَّةٌ في حالة الشرَّاء وفيما يكرَه، وهاتان العبوديَّتان هما رُكنا السعادة وقُطبَا رحاها، ومَن كمَّلَهما وأتى بهما فلا أسعَدَ مِنه، ولا أشرَحَ صَدرًا، ولا أكمَلَ طُمأنينةً وسَكِينةً مِنه. فالمؤمنُ الصادِقُ أمامَ نعمِ الله المُترادِفة عليه يقومُ لله بعبوديَّة الشُّكر والحمد والاعتِراف له بأنها مِنه وله، وأنها محضُ تكرُّمٍ مِنه -سبحانه-، وتفضُّلٍ على عبادِه، ثم يشكُرُ الله -سبحانه- بلسانِه وجوارِحِه، ولا يستعمِلُ هذه النِّعم إلا فيما يُرضِي اللهَ -سبحانه وتعالى-، فمَن فعلَ ذلك فقد أدَّى شُكرَ النِّعمة، وقامَ لله بعبوديَّة السرَّاء، واستحَقَّ جزاءَ الشاكِرِين الحامِدِين الذي جاءَت النُّصُوصُ مُتكاثِرةً ببيانِه وبيانِ فضلِ الشُّكر ومكانتِه، وأنه فريضةُ الله على عبادِه.
وقال وفقه الله: إن عبوديَّة الشُّكر هي قَيدُ النِّعم، وسرُّ بقائِها وديمومتها وزيادتها، وما حُفِظَت النِّعم ولا قُيِّدت بمثلِ الشُّكر والحمد، ولا فرَّت ونفَرَت وشرَدَت ومُحِقَت بركتُها بمثلِ البطَر والأشَر، واستِعمالها فيما حرَّم الله. وهذا هو عينُ كُفران النِّعم، وإن مُقابلةَ نعمِ الله بالبطَر والتكبُّر والإسراف والتبذير، وارتِكابِ ما حرَّم الله بها مُؤذِنٌ بزوالِها، ونذيرُ شُؤمٍ بسَلبِها واستِردادِها.
وأكَّد الشيخ أن أقسَى العقُوبات التي يصُبُّها الله على مَن كفَرَ بأنعُمِه ولم يقُم لله بعبوديَّة الشُّكر: أن يسلُبَه النِّعمةَ بعد العطاء، ويَحرِمَه بعد الإنعام، وليس هناك أشدَّ على النفسِ وَطأةً وألَمًا وحسرةً مِن النَّقصِ بعد الزيادة، والإهانةِ بعد الإكرام، والحَور بعد الكَور، والسُّقُوط بعد العلُوِّ، والذلِّ بعد العِزِّ، والقَبضِ بعد البَسطِ. وإن مِن أقسَى صُور السَّلب بعد العطاء وأمرِّها: أن يُسلَبَ الإنسانُ في حياتِه لذَّةَ الطاعة والإنابَة، وخُشُوعَ القلبِ وزكاةَ النَّفس، والفرحَ بالله، وقُرَّة العينِ بالحياةِ مع الله -سبحانه وتعالى- والأُنسِ به.
وختم الشيخ الخطبة بالتأكيد على أن الابتِلاءَ بالضرَّاء والبأساء سُنَّةٌ ماضِية، وحتميَّةٌ قدَريَّة، والمُسلمُ العاقِلُ لا يملِكُ أمام ذلك إلا أن يرضَى ويُسلِّم أمرَه لله ويصبِر، وهو يعلَمُ أن لله في ذلك الابتِلاء حِكَمًا وغاياتٍ ظاهرةً وخفِيَّة.
ثم هو أيضًا لا يكتَفِي بالرِّضا والصبرِ فحسب؛ بل يتَّخِذُ كلَّ الوسائل المُمكِنة المشرُوعة لدَفعِ ذلك الابتِلاء ورفعِ الضرَّاء، فيدفَعُ قدَرَ الله بقَدَر الله بالأسباب الشرعيَّة، ويتوكَّلُ على الله ويستَعِينُ به، ولا يتواكَلُ ولا يتخاذَلُ ولا يضعُفُ؛ فالمُؤمنُ القويُّ أحبُّ إلى الله مِن المُؤمن الضَّعيف.
والله -تعالى- يُحبُّ مِن عبدِه أن يسعَى في رفع الضَّرر وإزالَة البلاء؛ حتى لا يقَع فريسةَ اليأس والقُنُوط مِن رحمةِ الله، فيضعُفُ عن مُواجهةِ البلاء، فيجزَعُ ويخنَعُ وينهَزِمُ، ويستَولِي عليه الشيطان.
إن عبوديَّة الضرَّاء بالصبر والمُصابَرة يُثمِرُ للعبد أفانِينَ الرِّضا والحُبُور والسَّكينة في صحراء البلاء، ووَهَجِ الضرَّاء، وتستَمطِرُ رحماتِ السماء، وغيثَ اليقينِ والرَّوح؛ لتُروِّيَ جَفافَ البأساء، وقَحطَ المِحَن والبلاء.
إن المُسلمَ إذا صدَقَ مع الله في تحقيقِ عبوديَّة الضرَّاء، فإن المِحَن تكونُ في حقِّه مِنَحًا، وتنقلِبُ الآلامُ آمالًا، والأحزانُ أفراحًا، ويجعلُ الله له مِن كلِّ ضِيقٍ مخرَجًا، ومِن كلِّ همٍّ فرَجًا، وربما صحَّت الأجسادُ بالعِلَل، ورُبَّ ضارَّةٍ نافِعة، ورُبَّ بلاءٍ كان سببًا لأَن يلِجَ العبدُ ملَكُوت السماء.
المدينة المنورة:
ألقى فضيلة الشيخ عبد البارئ بن عواض الثبيتي - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "التحرش وكيفية ردعه"، والتي تحدَّث فيها عن التحرُّش وكيفيَّة ردعه، وبيان الطُّرُق التي ينبغي على العبد أن يسلُكَها وِقايةً لأهلِه وأولادِه مِن هذه الفتنة، كما نبَّه إلى وجوب التصدِّي لهذه الظاهِرة مِن كل فِئات المُجتمع.
واستهل فضيلته خطبته بالوصية بتقوى الله تعالى، فقال: اتقوا الله فإن تقواه أربح بضاعة، واحذروا معصيته فقد خاب عبد فرط في أمر الله وأضاعه.
وأضاف الشيخ: حاصَرَت تعاليمُ الإسلام الجريمةَ بوَأد أسبابِها، ومنع مُسبَّباتها، وقضَى عليها في مَهدِها؛ حِمايةً لأمن المُجتمع، ورِعايةً لحقِّ الفردِ، كما جفَّفَ الإسلامُ منابِعَ الجريمة بتربية المُجتمع على القِيَم النبيلة، وبناءِ الوازِع الأخلاقيِّ، وأوجَبَت الشريعةُ الحدودَ والقِصاصَ والتعازِير لأمنِ المُجتمع كلِّه.
ومِن الجرائِم التي تئِنُّ المُجتمعاتُ مِن وَيلاتِها، ويُجمِعُ العُقلاء على أهمية رَصدِ واقِعِها: جريمةُ التحرُّش بالأعراضِ التي تُفضِي إلى الوُقُوعِ في المحظُور بالغواية والإيذاء والخِداع، وهو سُلُوكٌ منبُوذ، وإفسادٌ مقيتٌ يعملُ على تهيِيجِ العواطِفِ، وإثارةِ الغرائِز.
هذه الجريمةُ لها أضرارٌ بليغةٌ، يكمُنُ ضررُها الأكبرُ في الوُقُوعِ فيما حرَّم الله، وزَعزعةِ المُجتمع، والأمراض النفسيَّة للضحيَّة التي قد تصِلُ إلى الانزِلاق في درَكَات الشرِّ أو الانتِحار.
تجريمُ التحريش والتصدِّي له عملٌ جليلٌ، وفيه إقامةٌ لحُكم الله برَدع مَن يُريدُ الإفسادَ في الأرض، ويُضرِمُ نيرانَ الفتن، ويُزعزِعُ الأمن ويتمادَى في الباطِل، حُكمُ الله يحفَظُ للناسِ أعراضَهم وسُمعتَهم وكرامتَهم.
التحرُّشُ صِفةٌ دَنيئةٌ تلحَقُ الضُّعفاءَ السُّفهاءَ، مريضِي النُّفُوس، علِيلِي القِيَم، قليلِي المُروءة، الذين يأتُون قبائِحَ الأعمال. جريمةُ التحرُّش تتَّخِذُ صُورًا عديدةً، ومُمارساتٍ مُتنوِّعة، تبدأُ بالألفاظِ البذيئة، والعِبارات الساقِطة التي يتبجَّحُ بها مُرتكِبُوها.
التحرُّشُ داءٌ يستَشرِي في كل ميدان، ويطرُقُ كلَّ السُّبُل، وازداد توسُّعًا في واقعِ الفضاءِ الافتراضِيِّ الذي تجاوَزَ المكانَ والزمانَ بحِيَلٍ لم تُعهَد، ومكرٍ لم يُعرَف، فعاثَ في القُلوبِ فسادًا، ولوَّثَ العُقُول، وأفسَدَ الفِطَر السَّوِيَّة. ومِن صُور التحرُّش: التفاعُلُ مع مقاطِعِ الرَّذِيلة في مواقِعِ التواصُل الاجتماعيِّ التي فيها نشرٌ للشرِّ، وإشاعةٌ للفاحِشة، وتحريضٌ فظيعٍ، وضررٌ بليغٌ لا يُحدُّ ولا يُوصَف.
لقد انتشَرَ داءُ التحرُّش بسبب المُجاهَرة والتساهُل والتفاخُر، وتزيين السُّوء، كما أن الجفافَ العاطفيَّ في البيُوت جعلَ الفتيات والأطفالَ والنساء صَيدًا سهلاً في مُتناوَل نزَوَات المُتحرِّشِين.
وأهلُ الشرع والفِكر والرأيِ السَّديد يعلَمُون أن أفضلَ وِقايةٍ لهذا المرض العُضال: غرسُ وازِعِ الدين، وتقوِيةُ الإيمان، والتمسُّكُ بهدايات القرآن، والالتِزامُ بالتقوَى قَولًا وسُلُوكًا، وغضُّ البصَر، واللِّباسُ الساتِر، وتهذيبُ النَّفس بالعِفَّة والخوفِ مِن الله. وبِناءُ جُسُور الثِّقة بين الآباء والأولاد يُنمِّي الشخصيَّةَ القويَّةَ، ويُشجِّعُ السلوكيَّات السليمة، ويبنِي معالِمَ الرُّجُولة، ونبذَ المُيُوعة، ويُربِّي الفتيات على الاحتِشام والسَّتر والحِجاب.
أما الأُسَر التي تترنَّح وترزَحُ تحت وابِلِ المُشكِلات والصِّراعات والتفكُّك، فهي أرضٌ خِصبةٌ للتحرُّش والمُتحرِّشين، كما أن الزواجَ المُبكِّر يُشبِعُ الرغبةَ، ويملأُ الفراغَ، ويحمِي مِن مساوِئِ الأخلاق.
وختم الشيخ خطبته بالحث على التصدي بحزم للتحرش، فقال: إن مُقاومة جريمة التحرُّش وكلِّ الجرائِم مسؤوليَّةٌ مُشتركَة بين جميع فِئات المُجتمع، ومَن لم يردَعه القرآن ونِداءُ الإيمان فلا بُدَّ حينئذٍ مِن سَوطِ السُّلطان. وقد جاء عن عُثمان -رضي الله عنه-: "إن الله ليَزَعُ بالسُّلطات ما لا يَزَعُ بالقرآن".
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم