اقتباس
والعملُ الصالحُ ميدانُه واسِعٌ، ومفهومُه شاملٌ، ينتظِمُ أعمالَ القلوب والجوارِح في الظاهر والباطِن، في كل حركةٍ وسكنَةٍ يُمكن أن تجعلَ لله طاعة، وأن تكون دومًا في عبادةٍ. أعمالٌ خاصَّةٌ وعامَّةٌ للفرد والجماعة، وكل الأعمال محسوبةٌ في ميزان العبد، حتى نيَّتُه وقصدُه الحسن، في كتابٍ لا يُغادرُ صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها. إن العُمر كل العُمر للمُسلم موسِم، وكل لحظةٍ في حياة المُوفَّق فُرصةٌ لاكتِساب الحسنات، ونَيل المراتِب في الجنَّة وعالِي الدرجات. فليكُن شهرُ رمضان لنا بدايةَ موسمٍ طويلٍ، عيدُه عندما يُختمُ العملُ بحُلول الأجل.
مكة المكرمة:
ألقى فضيلة الشيخ صالح بن محمد آل طالب - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "وداع شهر رمضان"، والتي تحدَّث فيها عن شهر رمضان وانتهاء موسِم الخير فيه، مُذكِّرًا بالثبات على الصالحات بعده وفي كل وقتٍ وحينٍ.
واستهل الشيخ بالوصية بتقوى الله -تعالى- فقال: فاتَّقوا الله تعالى واشكرُوه، وأطيعُوا أمرَه ولا تعصُوه.
وأضاف فضيلته: هنيئًا لكم هذا العيد، وطُوبَى لكم المُدَّخرُ ليوم المزيد. جعلَ الله أيامَكم كلها سعادة، وتفضَّل عليكم بالحُسنى وزيادة. هنأَت منكم الأيام، وامتدَّت بكم على الصالِحات الأعوام. جعلَ الله أعمالَكم مقبولة، وأعمارَكم بالخير موصولة.
وقال حفظه الله: ألا ما أعظمَ فرحةَ الصائمين حين يُفطِرون! وحين يخافُ الناسُ وهم يأمَنون! (لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ) [الأنبياء 103]، من تاجرَ مع الله فتجارتُه رابِحة، عملٌ يسيرٌ، وأجرٌ كبيرٌ. فما أكرمَ الله!
وقال وفقه الله: العيدُ مُناسبةٌ جميلةٌ لإطلاق الأيادِي الخيِّرة في مجالات البرِّ والإحسان، لتعلو البسمةُ كلَّ الشِّفاه، وتغمُر البهجةُ كلَّ القلوب. عيدٌ لتأكيد أواصِر القُربى وصِلة الأرحام، والوُدِّ مع الإخوان والجِيران، فتتقارَبُ القلوبُ مع المحبَّة، وترتفِعُ عن الضغائِن.
وأضاف فضيلته: هذا يومُ شُكرٍ وذكرٍ، وأكلٍ وشُربٍ وفِطرٍ، يحرُمُ صومُه؛ لما في صومِه من إعراضٍ عن ضيافة الربِّ الكريم. تناوَلُوا الطيبات، واهنَأوا بالمُباحات، وأظهِروا الفرحَ والسُّرورَ بالعيد وبتمام العبادة، (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [يونس: 58]، ثم اسأَلوا اللهَ القبول؛ فإن من صفاتِ الصادقين: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ) [المؤمنون: 60].
وقال حفظه الله: إنما السعيدُ من تقبَّل الله صيامَه وقيامَه، وغفرَ ذنوبَه وإجرامَه، فرجعَ من صلاةِ العيد بجائزةِ الربِّ وإكرامه. أما من كان شهرُه لهوًا وتفريطًا، وعيدُه غفلةً ونُكوصًا؛ فليس له من العيد إلا مظاهِرُه، ولا من الحظِّ إلا عواثِرُه، وقد فاتَه من الخير أولُه وآخرُه.
وقال وفقه الله: سُنَّةُ الله في خلقِه: أن لكل مُقيمٍ في هذه الدنيا ارتِحالاً، ولكل موجودٍ زوالاً. فلنُحاسِب أنفسَنا، ولنزِن أعمالَنا، والتاجرُ يقِفُ بعد الموسِم يُراجِع حساباته، ويحسِبُ ربحَه من خسارتِه، ويتعلَّم من خطئِه وصوابِه ويُتابِعُ نجاحاته. والله إن تجارةً مع الله مربَحُها الجنة لهِيَ أولَى بالمُحاسَبة، وأولَى بالمُراجَعة. رمضانُ أُنموذجٌ للعبادة ولذَّة الطاعة، والتوبة والثبات. فهل تعلَّمنا الدرسَ؟!
وأضاف فضيلته: إن مُداومةَ المُسلم على الطاعة من غير قصرٍ على وقتٍ مُعيَّن، من أعظم البراهِين على القبول وحُسن الاستِقامة، فأديمُوا الطاعات، واجتنِبُوا المُوبِقات، ولا تكونوا كالتي نقضَا غزلَها من بعد قوةٍ أنكاثًا، ولا تكونوا من الذين بدَّلوا نعمةَ الله كُفرًا.
وقال حفظه الله: والعملُ الصالحُ ميدانُه واسِعٌ، ومفهومُه شاملٌ، ينتظِمُ أعمالَ القلوب والجوارِح في الظاهر والباطِن، في كل حركةٍ وسكنَةٍ يُمكن أن تجعلَ لله طاعة، وأن تكون دومًا في عبادةٍ. أعمالٌ خاصَّةٌ وعامَّةٌ للفرد والجماعة، وكل الأعمال محسوبةٌ في ميزان العبد، حتى نيَّتُه وقصدُه الحسن، في كتابٍ لا يُغادرُ صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها. إن العُمر كل العُمر للمُسلم موسِم، وكل لحظةٍ في حياة المُوفَّق فُرصةٌ لاكتِساب الحسنات، ونَيل المراتِب في الجنَّة وعالِي الدرجات. فليكُن شهرُ رمضان لنا بدايةَ موسمٍ طويلٍ، عيدُه عندما يُختمُ العملُ بحُلول الأجل.
وختم الشيخ خطبته بالتذكير بصيام الست من شوال فقال: وامتِدادًا للخير في رمضان، فإن في شهر شوال مِنحةٌ ربَّانيَّة، وسُنَّةٌ نبويَّة، تفضَّل الله بها على عباده ليرفعَ درجاتهم، ويُضاعِف حسناتهم؛ ستةُ أيامٍ شرعَ الله صيامَها من شهر شوال، هي نافلةٌ بعد الفريضة، وحسنةٌ بعد الحسنة. ولا بأسَ بصيامِها أو مُتفرِّقة، في أوائل الشهر أو وسطِه أو أواخِره، ومن صامَها سنةً لم تلزَمه كل سنة، بل هو بالخيار إن شاءَ داومَ عليها وهو خيرٌ له، وإن شاءَ تركَها متى شاء. فاستزِيدُوا من الخيرات، ولا تتوانَوا عن الطاعات، والزَموا التقوَى جميعَ دهركم، واسعَوا إلى الله سعيًا حثيثًا، وأعِدُّوا للقاءِ الله واجتهِدوا، ولا تُبطِئُوا في العمل؛ فإن أسرعَ شيءٍ إليكم الأجل.
المدينة المنورة:
ألقى فضيلة الشيخ علي بن عبد الرحمن الحذيفي - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "دوام الطاعات بعد رمضان"، والتي تحدَّث فيها عن شهر رمضان وانتهاء موسِمه، مُشيرًا إلى أن علامة قبول الله تعالى لأعمال العباد هي في استمرارهم ومُداومتهم على الطاعات بعد مواسِم الخير، مثل: رمضان وغيره.
واستهل الشيخ بالوصية بتقوى الله -تعالى- فقال: فاتَّقوا الله –تعالى- بدوام الطاعات، وهجر المُحرَّمات؛ فقد فاز من تمسَّك بالتقوى في الآخرة والأولى، وخابَ وخسِرَ من اتَّبعَ الهوى.
وأضاف الشيخ: بالأمس في رمضان صفَتْ لكم الأيام والليالي، وتلذَّذتم بأنواع الطاعات في تلك الساعات الخوالِي، ووفَّق الله لهجر المُحرَّمات خوفًا من عقاب الكبير المُتعال، فلا تتبدَّلوا العِصيان بطاعة الرحمن، ولا تتبدَّلوا الغفلةَ بذِكرِ الله وتلاوة القرآن، ولا يدخلنَّ عليكم في الفرائِض النقصُ بالتقصيرِ فيها أو الكسل عنها. فالصبرُ على الطاعات، والصبرُ عن المعاصِي هو صفاتُ المؤمنين، وشِعارُ المُتَّقين.
وقال حفظه الله: ولا يتحوَّلُ أحدٌ مما يحبُّ الله -تعالى- منه إلى ما يكرهُ الله منه؛ لئلا يتحوَّل الله له إلى ما يكره، ولا يُغيِّرنَّ أحدٌ ما كان عليه من الاستقامة، والسَّداد، والطاعة إلى اتباع الهوى والشيطان، ومُقارفة المُنكرات والمُحرَّمات، فيُغيِّر الله عليه أحوالَه، وتنتكِس عليه أمورُه. قال الله -تعالى-: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الأنفال: 53].
وقال وفقه الله: ألا تعلَمون أن أحسنَ أمور المُسلم: أن يكون على طاعةٍ بعد طاعة؟ وأن يُتبِع الحسناتِ الحسنات مع مُجانبة السيئات؟ قال الله -تعالى-: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ) [محمد: 17]، ثم إن دون هذه المنزلة أن يُتبِع السيئةَ الحسنة لتُكفِّرَها، قال الله -تعالى-: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًى مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ) [هود: 114].
وأضاف فضيلته: وأسوأُ أحوال الإنسان: أن يُتبِع السيئات السيئاتِ، أو يُتبِع الحسناتِ السيئات التي تُبطِلُها، قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ) [محمد: 33]، لأن السيئات والمعاصِي بعد الحسنات والطاعات قد تُحبِط العمل، وقد تُبطِلُ بعض العمل، وقد تُنقِصُ ثوابَ الأعمال. وقد ذَكَر الصالِحون عن السلف أنهم كانوا يدعُون الله أن يتقبَّل منهم رمضان ستة أشهر، ويدعُون الله ستة أشهر أن يُبلِّغهم رمضان.
وقال حفظه الله: ومن كيد الشيطان: أن يُزيَّن للإنسان التهاوُن في الطاعات، والضعفَ أمام المُحرَّمات في غير رمضان، فيَنالَ منه ما لم ينَلْ في رمضان؛ لأنه كان في رمضان مأسورًا. قيل لبشرٍ الحافيٍّ: ما تقولُ في قومٍ يجتهدون في رمضان، فإذا ولَّى تركُوا! قال: "بئسَ القوم؛ لا يعرِفونَ الله إلا في رمضان".
وقال وفقه الله: وأعظمُ الكرامة: هي أن يمُنَّ الله على العبد بالاستقامة في كل أيام عُمره، فذلك هو الفوزُ كلُّه والسعادةُ التامَّة، قال الحسنُ البصريُّ - رحمه الله -: "ليس للمؤمن وقتٌ ينتهي إليه حتى يأتِيَه الموتُ"، وإذا كان رمضان قد انقضَى فرضُ صيامِه، وشُرِع في شهره أنواعُ الطاعات؛ فقد شرعَ الله فيما بعد رمضان فعلَ الخيرات، وأوجبَ الفرائض، ونهى عن المُحرَّمات، فقد شُرِع صيامُ ستة أيامٍ من شوال. فالأعمالُ الصالحات كما هي في رمضان، هي مشروعةٌ فيما بعد رمضان، والسابِقون هم المُستكثِرون منها.
وأضاف فضيلته: ومن مكر الشيطان: أن يُصابَ بعضُ الناس بالكسل عن صلاةِ الفريضة، فيُصلِّي في رمضان ويترك الصلاة بعده، أو يُصلِّي بعضَ الصلاة ويترك بعضَها، وذلك كفرٌ أكبر، ومن نامَ عنها وصلاَّها بعد الاستيقاظ على وجه العادة، أو أخَّرها إلى آخر وقتِها، أو تركَ صلاةَ الجماعة؛ ماتَ على غيرِ سُنَّة.
وقال حفظه الله: إن عدوَّكم الشيطان كان عنكم مأسورًا، ويُريدُ أن يأخُذ منكم بثأره ليجعلَ الأعمالَ هباءً منثُورًا، فردُّوه بالاعتصام بالله والثبات على الصراط المُستقيم خائِبًا مدحُورًا.
وأوصى الشيخ في ختام خطبته باغتنام الأعمار في الأعمال الصالحة، فقال: واعلموا أن السعادة والفلاح الأبديَّ صبرُ ساعةٍ على الطاعة وعن المعصية، وأن الخُسران والشقاء الأبديَّ اتِّباعُ الهوى ساعة، ولو تفكَّر ابنُ آدم في قِصَر الحياة وزوال الدنيا وقِصَر أجَلِها لاشتغلَ بصالح العمل، ولَمَا ألهَاه الأمل. قال الله -تعالى-: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) [يونس: 45]، فما نسبةُ عُمرك في هذه الساعة التي ذكرَها الله؟! وهذه الدارُ ليست بدارِ قرار، وإنما دارُك هي الآخرة: إما نعيمٌ مُقيم، وإما عذابٌ أليم.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم