اقتباس
عندما تفتحت آفاق ومدارك شيخ الإسلام ابن تيمية على أوضاع الأمة الإسلامية، وجد أن مكمن الداء الحقيقي يرجع لتكدر معين النبوة الصافي وحقائق الدين الناصعة بالكثير من البدع والخرافات، التي تسربت للحياة اليومية للمسلمين عبر الطرق الصوفية البدعية والتي ما زالت زاوية الانحراف تنفرج في سلوكياتها حتى تحولت إلى شركيات ظاهرة عليها من الله فيها ألف برهان، وأصبح التصوف مرادفًا لمعنى التدين، بل أصبحت الصوفية دولة كاملة وراسخة في عقول المسلمين ..
محنته:
لقد تجلت في شيخ الإسلام ابن تيمية آيات النبوغ العلمي منذ صغره، فكان آية في المناظرة والاستدلال والتفسير والإفتاء والتدريس، ولقد كان قلمه ولسانه فرسي رهان في التعبير عن إبداعات عقله الكبير، وقد جعل جل همه في التفكير في النهوض بأمته وكيفية الخروج من حالة التردي التي أصابتها، حتى وضع يده على مواطن الداء وأسباب الخلل، فراح بكل ما أوتي من حجة وبيان يدك معاقل الخرافة وحصون الباطل وقلاع التعصب والجمود، وأخذ في صياغة مشروعه التجديدي العظيم لنهضة الأمة وإعادة البريق والصفاء لتميز الوسطية الإسلامية الجامعة، وعمل على عدة جبهات، وحارب في مختلف الساحات، من أجل لحمة الأمة مرة أخرى على منهاج النبوة الصافية، وطرد ونفي كل دخيل تسرب لحياة المسلمين من أفكار الفلسفة اليونانية والمطالب العلية، وما اشتمل عليه من خصال عظيمة سخرها ابن تيمية لتحقيق حلمه الكبير، تعرض ابن تيمية لمحن متتالية مع سدنة القبور وحراس الخرافة وأهل التقليد وأتباع التعصب المذهبي، فكفَّره أهل الجهل وبغى عليه الحسدة والظلمة وهو صابر لا يتزعزع ولا يهادن ولا يداهن، وذلك لشدة اقتناعه بما يعتقد ويعمل له، فابن تيمية كان من أعظم أئمة السلفية، لا يقول في شيء بهواه أو بالتشهي، ولكن يعمل بما دل عليه النقل الصحيح والعقل الصريح، فلقد كان ابن تيمية وقافًا عند كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لذلك قال عنه الحافظ ابن حجر: (المسائل التي أنكرت عليه ما كان يقولها بالتشهي).
وقال الحافظ البزار: (ابن تيمية ليس له مصنف ولا نص في مسألة ولا فتوى إلا وقد اختار فيه ما رجَّحه الدليل النقلي والعقلي على غيره، وتحرى قول الحق المحض، فبرهن عليه بالبراهين القاطعة الواضحة، وتراه في جميع مؤلفاته إذا صحَّ الحديث عنده يأخذ به ويعمل بمقتضاه، ويقدمه على قول كل قائل من عالم ومجتهد...).
ولقد تعاقبت المحن على شيخ الإسلام ابن تيمية من خصم لآخر ومن مصر إلى الشام ومن جب إلى سجن وهكذا، وهذه بعض محطات المحن التي تعرض لها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، والتي كثيرًا ما كان يتحالف عليه فيها خصومه من المبتدعة والمتعصبة والجهلة.
محنته مع الصوفية:
عندما تفتحت آفاق ومدارك شيخ الإسلام ابن تيمية على أوضاع الأمة الإسلامية، وجد أن مكمن الداء الحقيقي يرجع لتكدر معين النبوة الصافي وحقائق الدين الناصعة بالكثير من البدع والخرافات، التي تسربت للحياة اليومية للمسلمين عبر الطرق الصوفية البدعية والتي ما زالت زاوية الانحراف تنفرج في سلوكياتها حتى تحولت إلى شركيات ظاهرة عليها من الله فيها ألف برهان، وأصبح التصوف مرادفًا لمعنى التدين، بل أصبحت الصوفية دولة كاملة وراسخة في عقول المسلمين وحياتهم، فأعلنها ابن تيمية مدوية وصريحة: كل ما ليس عليه أمر الله ورسوله فبدعة وضلالة، وسن حربًا شعواء بلا هوادة على معاقل التصوف وحراس الخرافة، وتعرض من أجل ذلك للعديد من المحن، منها:
* في سنة 705هـ اشتكت الصوفية الرفاعية إلى أمير دمشق "الأفرم" من شيخ الإسلام ابن تيمية لكثرة إنكاره عليهم، وقد أحضر الشيخ لقصر الأمير، وطلب ذلك منه، ولكنه رفض بشدة وقال بكل عزة العالم: (هذا ما يمكن، ولابد لكل أحد أن يدخل تحت الكتاب والسنة قولاً وعملاً، ومن خرج عنهما وجب الإنكار عليه)، فأرادت الرفاعية استخدام حيلهم المعروفة من اللعب بالحيات ودخول النيران من أجل إقناع الوالي والحاضرين بصحة أفعالهم، فأبطل شيخ الإسلام هذه الحيل، وخرج من هذه المناظرة منصورًا مظفرًا، وقد ألزمت الصوفية الأحمدية الرفاعية بترك أحوالهم البدعية وكتب محضر بذلك.
* وفي سنة 708هـ تولى سلطنة المماليك بيبر الجاشنكير وكان صوفيًا غاليًا فشدد على ابن تيمية الذي كان وقتها مسجونًا في سجن القلعة بمصر بسبب العقائد، ونقله من القاهرة إلى الإسكندرية حتى يتجرأ عليه أحد الصوفية هناك فيقتله، فلم يتفق لهم مرادهم لحفظ الله عز وجل لابن تيمية، وجاء نفي الشيخ للإسكندرية خيرًا عظيمًا له وللمسلمين؛ إذ وجد الإسكندرية قد باض فيها إبليس وأفرخ وأضل عامة أهلها، فصاروا من أتباع الطرق الصوفية الضالة مثل السبعينة والعربية، فأخذ الشيخ ابن تيمية في نشر العلم والسنة ومقاومة البدعة حتى أخمدها وشتت شمل أهلها، ودحض الباطل والخرافة، وذلك كله وهو سجين يعاني ويلات السجون والمعتقلات.
* وفي سنة 726هـ تعرض ابن تيمية للاعتقال مرة أخرى بسبب فتواه بحرمة شد الرحال لزيارة قبور الصالحين والأنبياء، مع التنبيه على أمر قد تعمد الصوفية على مر العصور ترويجه بالكذب على ابن تيمية رحمه الله، ذلك أن ابن تيمية قد أفتى بمنع شد الرحال للزيارة أي السفر لها خصيصًا من بلد لآخر، ولم يفت بحرمة الزيارة، بل قال إنها مستحبة للآثار التي صحت في ذلك، وشتان الفارق بين شد الرحال للزيارة والزيارة نفسها، وقد استعدت الصوفية السلطان والأمراء والقضاة والفقهاء على ابن تيمية بسبب هذه الفتوى، حتى أن بعضهم قد أفتى بتكفير ابن تيمية وقتله، ثم انتهى الأمر باعتقاله هو وأصحابه وتشهير بالعديد من تلاميذه الكبار مثل ابن القيم وابن كثير والكتبي وغيرهم في دمشق، ثم خرجوا بعد فترة وبقي ابن تيمية ومعه ابن القيم فقط في المعتقل.
الجدير بالذكر أن ابن تيمية ظل في معتقله هذه المرة حتى مات رحمه الله فيه بعد ذلك بأكثر من عامين، وقد ضيقوا عليه بشدة وآذوه خلال هذه الفترة إيذاءً شديدًا وهو صابر محتسب، وسنذكر ذلك بشيء من التفصيل عند وفاته رحمه الله.
محنته مع الأشاعرة:
في معرض كلامنا عن المحنة التي تعرض لها الحافظ عبد الغني المقدسي، ذكرنا أن عقيدة السلف الصالح قد أصبحت ممثلة في أتباع المذهب الحنبلي، في حين سيطرت العقيدة الأشعرية على أتباع المذاهب الأخرى خاصة المذهب الشافعي، حتى أصبحت كلمة الأشعري مترادفة مع الشافعي، والسلفي مع الحنبلي، ولما كان ابن تيمية مجودًا مصلحًا داعيًا للعودة على منابع الدين الأولى وإلى مصدريه المعصومين ـ الكتاب والسنة ـ فقد كان من الطبيعي جدًا أن ينتقل الأشاعرة وعقيدتهم المحدثة بعد القرون الثلاثة الفاضلة خاصة وأن العقيدة الأشعرية تأثرت بشدة بالعلوم المنطقية اليونانية وأرباب الكلام من أتباع المذاهب الضالة مثل المعتزلة والفلاسفة وغيرهم، فانبرى ابن تيمية كواحد من أعظم الناقدين والنافضين للفكر الفلسفي والمنطقي اليوناني الذي تسرب إلى كثير من مناحي الفكر الإسلامي وأثر على عقيدة الأمة، وألف في ذلك الرد والنقد الكثير من المؤلفات العظيمة النافعة، ولقد كان قلمه ولسانه فرسي الرهان في التعبير عن إبداعات عقله الكبير، ولم يقو الأشاعرة على منازلته في ميدان الحجة والبرهان، فلجئوا إلى حد السلطان واستعداء الدولة عليه، كما هو الحال مع حجة العاجز والمفلس؛ يبحث عمن ينصره من القوة والسلطة.
* في سنة 698هـ ثار الأشاعرة على ابن تيمية بسبب تأليفه لرسالته الشهيرة بالحموية ويتكلم فيها عن عقيدة أهل السنة في الأسماء والصفات، وحاولوا استعداء أمير دمشق عليه، ولكن الأمير لم يسمع لهم وهدأت الفتنة.
* وفي سنة 705هـ اجتمع علماء الأشاعرة وفقهاؤهم وقضاتهم عن بكرة أبيهم عند أمير دمشق وطلبوا من ابن تيمية الحضور لمناظرته في كتابه العقيدة الواسطية، وعقدوا له ثلاثة مجالس للمناظرة، استطاع خلالها ابن تيمية أن يظهر عليهم بالحجة والبرهان حتى ألزمهم بتقرير صحة ما جاء في الواسطية، وقد أدى ذلك لتشويش كبير في دمشق، واستشاط الأشاعرة غيظًا وغضبًا وأخذوا في الاعتداء على تلاميذ ابن تيمية ومنعوا الحافظ جمال الدين المزي من التحديث بالجامع وحبسوه.
* وفي نفس السنة وهي 705هـ تكاتب أشاعرة الشام مع أشاعرة مصر للضغط على السلطان من أجل نفي ابن تيمية من الشام إلى مصر، ومحاكمته هناك، وبالفعل حمل ابن تيمية إلى مصر في رمضان وعقدت له مناظرة مع العلماء والفقهاء بها ولم يمكنوه من الدفاع عن نفسه أو الكلام أصلاً، وكان زعيمهم ابن مخلوف قاضي المالكية وكان من أشد خصوم ابن تيمية، ويحسده لقلة علمه وكثرة خطئه في الفتوى، وأيضًا الشيخ الصوفي الضال الحلولي الاتحادي نصر المنبجي وكان صاحب حظوة ووجاهة عند أمير مصر بيبرس الجاشنكير، وقد انتهى الأمر لسجن ابن تيمية في القلعة بالقاهرة، ثم وضع بالجب هو وأخوه عبد الله وأخوه الثالث عبد الرحمن، وكتب كتاب بالحط على الشيخ ابن تيمية وعلى عقيدته، وقرئ هذا الكتاب في الشام ومصر، وأجبروا الحنابلة على مخالفته، وحصلت لهم إهانة كبيرة ومحنة عظيمة في سائر البلاد، وعادت البدع للظهور بدمشق أثناء سجن الشيخ بمصر، فصليت الرغائب في النصف من شعبان سنة 706هـ وأوقدت النيران كالعادة، وكان ابن تيمية قد أبطل ذلك كله منذ عدة سنوات، وقد حاول بعض العلماء إخراج ابن تيمية من السجن مقابل أن يرجع عن بعض نقاط في العقيدة، ولكن ابن تيمية رفض وآثر السجن على التنازل عما يعتقد، وقد ظل الشيخ في سجنه قرابة العامين، ثم خرج بشفاعة الأمير حسام الدين مهنا ملك العرب، وظل مقيمًا بالقاهرة.
* ولما اغتصب بيبرس الجاشنكير السلطنة من الأمير محمد بن قلاوون، عمل على إيذاء ابن تيمية قدر استطاعته، وذلك بإشارة من شيخه الضال نصر المنبجي الصوفي، فأمر بيبرس بحبس ابن تيمية مرة أخرى ثم التضييق عليه في حبسه، ثم نفاه من القاهرة إلى الإسكندرية سنة 709هـ، وهناك حبس أيضًا، وذلك كله بسبب تأليب الأشاعرة ومعهم الصوفية الجهلة، وجملة ما ظل فيه ابن تيمية بالسجن بسبب الأشاعرة أربع سنوات من سنة 705هـ حتى أواخر سنة 709هـ، وقد زادته المحنة رفعة ومكانة عند الناس عامتهم وخاصتهم.
محنته مع المتعصبة والمقلدة:
* رغم أن شيخ الإسلام ابن تيمية كان ينتمي للمذهب الحنبلي في الفقه، إلا إنه كان مجتهدًا مطلقًا يفتي بما يؤدي به اجتهاده دون أن يتقيد بمذهب معين، ولأن العصر الذي كان فيه ابن تيمية كانت الأمة الإسلامية تعاني من تراجعات على كافة المستويات، ومنها المستوى العلمي، فإن التقليد والجمود قد سيطر على العقول وقتها، وعكف العلماء على دراسة آراء وأقوال مذهبهم وأئمتهم السابقين، وأغلق باب الاجتهاد ووضعت عليه أقفال كبيرة، حتى جاء ابن تيمية ففتح باب الاجتهاد من جديد وحطم أقفاله وأغلاله، ولأن التعصب هو الابن الشرعي للجمود والتحجر، والناتج الطبيعي لعهود التقليد وقلة الإبداع، فإن المتعصبة من المقلدين والجامدين والمتفقهة من أتباع المذاهب قد ناصبوا ابن تيمية العداء، وحاربوه بمنتهى العنف، لا لشيء إلا لأنه قد خالف أئمتهم وشيوخهم، ولأن المقلد والجامد بضاعته في العلم مزجاة، وأدلته وبراهينه وحججه إنما هي أقوال شيخه وإمامه، لم يستطع المتعصبة والمقلدة الصمود أمام ابن تيمية في ميدان الإبداع والإقناع، وعوضًا عن ذلك استعانوا بالسلطان والدولة والغوغاء والعامة والدهماء وتلاميذ الزوايا وطلاب المدارس للنيل من الشيخ ابن تيمية، ولكن هيهات هيهات أن ينالوا من علم علامة مثل ابن تيمية، إنما غاية ما ينالوا منه السجن والامتحان.
فعندما أفتى شيخ الإسلام ابن تيمية بأن الطلاق البدعي لا يقع أصلاً، وأن الطلاق بالثلاثة إنما يقع واحدة، وأن الحلف بالطلاق يقع يمينًا إذا لم ينو به الطلاق، ثارت عليه ثورة عنيفة من علماء المذاهب وناقشوه فألزمهم الحجة، فاستعانوا بالدولة التي أصدرت فرمانًا بمنعه من الفتوى بهذه المسألة وذلك سنة 719هـ، ولكنه لم يلتزم بذلك وظل يفتي بما أدى إليه اجتهاده وهو مأجور عليه في كل حال، فحبسوه في القلعة بدمشق لمدة حوالي ستة أشهر حتى خرج منها في المحرم سنة 721هـ.
والعجيب أن الفقهاء وأتباع المذاهب ظلوا يشنعون على ابن تيمية في اجتهاداته وفتاويه لقرون عديدة في كتبهم وإلى تلاميذهم، جيلاً وراء جيل، وخصوصًا في مسألة الطلاق، حتى رأينا أحدهم الشيخ زاهد الكوثري أحد أشهر فقهاء الأحناف في أوائل القرن العشرين وهو أيضًا من رءوس البدعة المعاصرين يؤلف كتابًا في أحكام الطلاق يملؤه سبًا وشتمًا في ابن تيمية بسبب فتواه في الطلاق، والجدير بالذكر أن العالم الإسلامي بأسره الآن يعمل بفتاوى ابن تيمية في الطلاق ويجعلها مقررًا في كل المحاكم الشرعية المهتمة بالأحوال الشخصية.
وفاته:
* قضى شيخ الإسلام ابن تيمية معظم حياته في محن وابتلاءات متتالية، يدخل المعتقل ثم يخرج منه، في الشام وفي مصر، دخول وخروج، حتى جاءت اللحظة التي دخل فيها بجسده ثم خرج بروحه الطيبة، وذلك عندما اعتقلوه ولآخر مرة سنة 726هـ بسجن القلعة بدمشق، بسبب تأليب الصوفية عليه لفتواه الشهيرة بحرمة شد الرحال لزيارة القبور، حتى ظل في المعتقل هذه المرة لأكثر من عامين، وقد ضيقوا عليه بشدة، ولكنه رحمه الله لم يكف عن إعمال عقله وفكره وتدوين علمه، وقد حوّل سجنه من محنة لحريته وجسده إلى منحة لسياحاته الفكرية وإبداعاته العقلية والعلمية لخدمة مشروعه الإصلاحي الكبير لنهضة الأمة.
ولما رأى خصومه فيوضات عقله النير تخرج من خلف الجدران والأسوار ممثلة في رسائله ومؤلفاته الفائقة، أرادوا أن يسكتوا صوت الحق، ويطفئوا نور العلم، فصادروا أقلامه وأوراقه لمنعه من الكتابة، حتى أنه اضطر لأن يكتب الرسائل لأهله وتلاميذه خارج السجن بالفحم على الرسائل التي أرسلوها إليه أولاً بعد أن غسلها بالماء وجففها، فما كان من أعدائه إلا إنهم قد بالغوا في أذيته، ونقلوه إلى زنزانة مظلمة فأضرت ببصره فلم يستطع أن يكتب بالفحم، وذلك قبل وفاته بخمسة شهور.
ظن خصوم ابن تيمية أن بجرائمهم تلك قد نالوا من معنوياته وروحه الطيبة العالية ولكن هيهات هيهات، أنَّا بالريح العاتية أن تنال من الجبال الراسية، فلقد انتهز ابن تيمية الأمر وأقبل على كتاب الله عز وجل قراءة وتدبرًا ودعاءً وتبتلاً وصلاة ومناجاة، وهو في أسعد عيش وأطيب قلب، ويقول هذه الكلمات النيرات: (أنا ماذا يفعل أعدائي بي، أنا جنتي في صدري، أنى رحت فهي معي، أنا حبسي خلوة، ونفيي سياحة، وقتلي شهادة). وقد ختم الشيخ ابن تيمية خلال الشهور الأخيرة من حياته القرآن أكثر من ثمانين مرة.
وفي 20 من ذي القعدة سنة 728هـ آن للروح الطيبة أن تصعد لبارئها وآن للراكب أن يترجل، وللمسافر أن يستقر، وللمبتلى والممتحن أن يستريح، وكان نبأ وفاته شديد الوقع على الناس، وكانت آخر كلماته قبل الرحيل مخبرة عن حالته ونهايته رحمه الله، حيث قرأ قوله عز وجل: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر: 54، 55]، وقد تنادى المؤذنون على منارات الجوامع بنبأ وفاته، فأقبل الناس بعشرات الآلاف، لشهود الجنازة في تحد صريح لسلطة الدولة التي حبسته ظلمًا وعدوانًا، حتى أن أهل دمشق كلهم رجالاً ونساءً تقريبًا قد شهدوا الجنازة، وقد أخرجت صباحًا، ولم يوضع الجسد في اللحد إلا في المغرب، وقد تأسف الناس كلهم محبوه وخصومه على رحيله.
وما زالت المحنة مستمرة:
ليست هناك شخصية عظيمة في تاريخنا الإسلامي المتأخر ظلمت في عصرها ـ وبعده ـ مثل شخصية شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، ففي عصره عانى من المحن والابتلاءات المتتالية وضرب وسجن ونُفي وعُذب ومنع من الإفتاء والتدريس وشُهر به في كل مكان، حتى رحل عن عالمنا وهو في السجن مظلومًا مضطهدًا، ورغم أن الرجل قد رحل عن دنيانا إلا أن خصومه قد ظلوا على عداوتهم له وتشهيرهم به والطعن فيه وفي آرائه وفتاويه ومؤلفاته التي لا يحسن أحدهم أن يفهمها، فضلاً على أن يأتي بمعشارها، وظل اسم ابن تيمية يردد في البلاد بالذم والقدح بفعل ميراث العداوة والكراهية الذي حرص خصوم ابن تيمية على توريثه ونقله للأجيال المتعاقبة، حتى بلغت أثر هذه الوشايات والأكاذيب بأحد من ينسب إلى العلم واسمه "العلاء البخاري" لأن يفتي بأن ابن تيمية كافر، وأن من يقول عنه شيخ الإسلام كافر مثله، وهذا يمثل قمة الغلو والشطط في الخصومة.
والأعجب من ذلك أن الكثير من العلماء كانوا ينقلون كلام ابن تيمية بنصه وحرفه في كتبهم دون الإشارة من قريب أو بعيد لابن تيمية، خوفًا من تعرضهم للاضطهاد والتشهير مثله ورغبة منهم أن تسير آراؤه وأقواله بين الناس، من حيث لا يعلم خصومه، ومن يقرأ في شرح العقيد الطحاوية لابن أبي العز الحنفي، يجد فيه مقاطع كاملة من كلام ابن تيمية بنصه وحرفه دون الإشارة إليه.
وما زالت المحنة مستمرة، وما زالت عداوة شيخ الإسلام قائمة عند كثير ممن ينتسب للعلم، وما زال الأشاعرة والصوفية عبر العصور يعادون الرجل ويبغضونه ويلهجون بذمه بل وتكفيره، حتى تجرأ أحدهم أخيرًا وهو المدعو حسن السقاف تلميذ الغماري الصوفي على شاشة إحدى الفضائيات ـ وهي قناة المستقلة ـ وقال [أي السقاف]: (إن ابن تيمية كافر ولا يستحق دخول الجنة مطلقًا)، وقائمة خصوم الشيخ طويلة وممتدة من لدن عصره رحمه الله لوقتنا الحاضر.
والعاقبة
للمتقين، وهذه سنة ربانية ماضية، لا تبديل لها ولا تغيير، فعلى الرغم من الحملة الشرسة التي شنها خصوم ابن تيمية عليه وعلى سيرته وتراثه، وما زالوا يشنونها، إلا أن الله عز وجل قد أعلى ذكره بين العالمين، وهذه هي كلماته وآراؤه وفتاويه ومصنفاته تملأ العالم كله، وهذه كتبه وتراثه الفكري والعلمي تطبع وتوزع في كل مكان، وما من داعية ولا عالم ولا مصلح إلا وقد تأثر بأفكار وأقوال شيخ الإسلام ابن تيمية، في حين سقط ذكر خصومه وأعدائه من ذاكرة التاريخ، فلم يبق لهم أثر ولا ذكر إلا مقرونًا بجرائمهم وإساءاتهم لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فمن ذا الذي يعرف الآن ابن مخلوف المالكي أو صفي الدين الهندي أو نصر المنبجي أو البكري الصوفي أو الإخنائي وغيرهم من أعداء الشيخ.
وفي هذا المقام يحضرني كلمات قالها أحد المعاصرين لشيخ الإسلام ابن تيمية يبشر فيها بظهور أفكار وآراء ابن تيمية ولو بعد حين، وهو الإمام أحمد بن مري الحنبلي الذي كتب رسالة إلى تلاميذ شيخ الإسلام بعد وفاته يوصيهم بكتب الشيخ، ويحثهم على نشر علمه، ويطيب خواطرهم بأن العاقبة للمتقين فيقول: (والله إن شاء الله ليقيمن الله سبحانه لنصر هذا الكلام، ونشره وتدوينه وتفهمه، واستخراج مقاصده واستحسان عجائبه وغرائبه رجالاً هم إلى الآن في أصلاب آبائهم، وهذه هي سنة الله الجارية في عباده وبلاده).
محنة شيخ الإسلام ابن تيمية (1/2)
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم