محرقة حلب.. آلام وآمال

الشيخ د إبراهيم بن محمد الحقيل

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/ ما جرى في حلب السنوات الماضية 2/ الأسباب الشرعية لأحداث حلب 3/ الرجوع إلى الدين والاعتصام بحبل الله من أعظم أسباب النصر 4/ضرورة نشر الوعي في الأمة سبب أساسي من أسباب النصر.

اقتباس

حُوصِرَتْ حَلَبُ وَجُوِّعَ أَهْلُهَا طِيلَةَ السَّنَوَاتِ الْمَاضِيَةِ، ثُمَّ شُدِّدَ عَلَيْهَا الْحِصَارُ وَأُحْرِقَتْ بِالْقَنَابِلِ وَالصَّوَارِيخِ وَالْبَرَامِيلِ الْمُتَفَجِّرَةِ، وَسَقَطَتْ أَجْزَاءٌ مِنْهَا فِي أَيْدِي الصَّفَوِيِّينَ وَالنُّصَيْرِيِّينَ بِمَعُونَةِ الصَّلِيبِيِّينَ، وَكَانَ أَهْلُهَا يَسْتَغِيثُونَ الْعَالَمَ مِنْ شَرْقِهِ إِلَى غَرْبِهِ وَلَا مُغِيثَ لَهُمْ مِنَ الْبَشَرِ؛ لِأَنَّ الدُّوَلَ بَيْنَ مُتَوَاطِئٍ عَلَى قَتْلِهِمْ وَسَحْقِهِمْ، وَبَيْنَ عَاجِزٍ عَنْ نُصْرَتِهِمْ وَنَجْدَتِهِمْ، فَكَانَ مِنْ أَمْرِ اللهِ تَعَالَى مَا كَانَ مِنْ قَتْلِ الرِّجَالِ وَذَبْحِ الْأَطْفَالِ وَاغْتِصَابِ النِّسَاءِ.

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الْحَمْدُ لِلهِ الْقَوِيِّ الْقَهَّارِ، الْعَزِيزِ الْجَبَّارِ؛ كَتَبَ الِابْتِلَاءَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَالْإِمْلَاءَ لِلظَّالمِينَ، وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ، نَحْمَدُهُ فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ، وَنَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى الْفَوَاجِعِ وَالْآلَامِ، وَنَسْأَلُهُ أَنْ يَحْفَظَ أَهْلَ السُّنَّةِ فِي الْيَمَنِ وَالشَّامِ وَالْعِرَاقِ، وَأَنْ يَدْحَرَ أَعْدَاءَهُمْ، وَأَنْ يَجْعَلَ مُصَابَ إِخْوَانِنَا تَكْفِيرًا لِخَطَايَاهُمْ، وَرِفْعَةً لِدَرَجَاتِهِمْ، وَشَهَادَةً لِمَوْتَاهُمْ وَقَتْلَاهُمْ، وَأَنْ يُوقِظَ بِمُصَابِهِمْ أَهْلَ الْإِيمَانِ مِنْ رَقْدَتِهِمْ، وَيُنَبِّهَهُمْ مِنْ غَفْلَتِهِمْ، وَيَجْمَعَ كَلِمَتَهُمْ، وَيُوَحِّدَ صَفَّهُمْ، وَيَعْصِمَهُمْ بِدِينِهِ الْقَوِيمِ مِنَ الرُّكُونِ إِلَى الظَّالِمِينَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ لَا يَقْضِي لِلْمُؤْمِنِينَ قَضَاءً إِلَّا وَهُوَ خَيْرٌ لَهُمْ، وَلَوْ كُشِفَ الْقَدَرُ لَهُمْ مَا اخْتَارُوا غَيْرَ اخْتِيَارِ رَبِّهِمْ؛ فَإِنَّهُ –سُبْحَانَهُ- يُحِبُّ الْمُؤْمِنِينَ فَيَبْتَلِيهِمْ، وَيُمْلِي لِلْمُجْرِمِينَ وَيَمْكُرُ بِهِمْ (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) [القلم: 45]، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ رَأَى مَقْتَلَ أَصْحَابِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- فِي أُحُدٍ قَبْلَ وُقُوعِهِ؛ فَمَا زَادَهُ مُصَابُهُ بِهِمْ إِلَّا يَقِينًا بِاللهِ تَعَالَى، وَحُسْنَ ظَنٍّ بِهِ، وَصِدْقًا فِي التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، قَالَ فِي رُؤْيَاهُ: "رَأَيْتُ فِي سَيْفِي ذِي الْفَقَارِ فَلًّا، فَأَوَّلْتُهُ: فَلًّا يَكُونُ فِيكُمْ، وَرَأَيْتُ أَنِّي مُرْدِفٌ كَبْشًا، فَأَوَّلْتُهُ: كَبْشَ الْكَتِيبَةِ، وَرَأَيْتُ أَنِّي فِي دِرْعٍ حَصِينَةٍ، فَأَوَّلْتُهَا: الْمَدِينَةَ، وَرَأَيْتُ بَقَرًا تُذْبَحُ، فَبَقَرٌ وَاللهِ خَيْرٌ، فَبَقَرٌ وَاللهِ خَيْرٌ  فَكَانَ الَّذِي قَالَ" صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

 

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَالْجَئُوا إِلَيْهِ فِي الشَّدَائِدِ، وَعَظِّمُوهُ فِي الْمِحَنِ وَالْمَصَائِبِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْيَأْسَ مِنْ رَوْحِهِ سُبْحَانَهُ، أَوِ الْقُنُوطَ مِنْ نَصْرِهِ عَزَّ وَجَلَّ (إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) [يوسف: 87] (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) [يوسف: 110].

 

أَيُّهَا النَّاسُ: فَجِيعَةُ الْمُؤْمِنِينَ بِإِخْوَانِهِمْ فِي حَلَبَ شَدِيدَةٌ، وَمُصَابُهُمْ بِهِمْ عَظِيمٌ، وَحُزْنُهُمْ عَلَيْهِمْ كَبِيرٌ. وَالشُّعُورُ بِالْأَلَمِ يُؤْجَرُ عَلَيْهِ الْمُـَتَأَلِّمُ كَمَا يُؤْجَرُ الْمُصَابُ عَلَى مُصِيبَتِهِ. وَإِنَّ قُلُوبًا تَقَطَّعَتْ مِمَّا أَصَابَ الْحَلَبِيِّينَ، وَإِنَّ عُيُونًا مُؤْمِنَةً فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا مَا جَفَّ دَمْعُهَا حُزْنًا عَلَى مُصَابِ إِخْوَانِهِمْ، وَإِنَّ سَجَدَاتٍ أُطِيلَتْ فِي هَزِيعِ اللَّيْلِ الآخِرِ لِلدُّعَاءِ لَهُمْ وَهُمْ يُوَاجِهُونَ أَرْذَلَ الْأَعْدَاءِ وَأَشَدَّهُمْ حِقْدًا وَكَرَاهِيَةً وَانْتِقَامًا.  

 

حُوصِرَتْ حَلَبُ وَجُوِّعَ أَهْلُهَا طِيلَةَ السَّنَوَاتِ الْمَاضِيَةِ، ثُمَّ شُدِّدَ عَلَيْهَا الْحِصَارُ وَأُحْرِقَتْ بِالْقَنَابِلِ وَالصَّوَارِيخِ وَالْبَرَامِيلِ الْمُتَفَجِّرَةِ، وَسَقَطَتْ أَجْزَاءٌ مِنْهَا فِي أَيْدِي الصَّفَوِيِّينَ وَالنُّصَيْرِيِّينَ بِمَعُونَةِ الصَّلِيبِيِّينَ، وَكَانَ أَهْلُهَا يَسْتَغِيثُونَ الْعَالَمَ مِنْ شَرْقِهِ إِلَى غَرْبِهِ وَلَا مُغِيثَ لَهُمْ مِنَ الْبَشَرِ؛ لِأَنَّ الدُّوَلَ بَيْنَ مُتَوَاطِئٍ عَلَى قَتْلِهِمْ وَسَحْقِهِمْ، وَبَيْنَ عَاجِزٍ عَنْ نُصْرَتِهِمْ وَنَجْدَتِهِمْ، فَكَانَ مِنْ أَمْرِ اللهِ تَعَالَى مَا كَانَ مِنْ قَتْلِ الرِّجَالِ وَذَبْحِ الْأَطْفَالِ وَاغْتِصَابِ النِّسَاءِ، حَتَّى إِنَّ نِسَاءً حَلَبِيَّاتٍ عَفِيفَاتٍ طَاهِرَاتٍ اعْتَزَمْنَ عَلَى قَتْلِ أَنْفُسِهِنَّ؛ لِئَلَّا يَكُنَّ عُرْضَةً لِلِاغْتِصَابِ الْجَمَاعِيِّ مِنَ الْبَاطِنِيِّينَ الْأَرَاذِلِ.

 

كُلُّ هَذَا -وَأَشَدُّ مِنْهُ- وَقَعَ، وَلَا يَزَالُ يَقَعُ فِي حَلَبَ، وَفِي سَائِرِ الْأَرْضِ الْمُبَارَكَةِ، كَمَا أَنَّهُ وَقَعَ وَيَقَعُ فِي الْعِرَاقِ وَفِي الْيَمَنِ، وَفِي كُلِّ أَرْضٍ يَزْحَفُ إِلَيْهَا الصَّفَوِيُّونَ، وَيَمْلِكُ أَجْوَاءَهَا الصَّلِيبِيُّونَ، فَمَا هَذَا الذُّلُّ وَالْهَوَانُ الَّذِي حَاقَ بِالمُسْلِمِينَ؟! وَمَا هَذَا الْعَجْزُ الَّذِي أَحَاطَ بِهِمْ فَأَقْعَدَهُمْ يَنْتَظِرُونَ أَدْوَارَهُمْ فِي الرَّحَى الْبَاطِنِيَّةِ الَّتِي نَصَبَهَا الصَّلِيبِيُّونَ لِتَطْحَنَهُمْ؟!

 

(إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [يونس: 44] وَمُصَابُ الْمُسْلِمِينَ هُوَ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيهِمْ (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) [الشورى: 30] (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) [آل عمران: 165].

 

وَمِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ هَذَا الْمُصَابِ الْجَلَلِ: الْإِصْرَارُ عَلَى الْعِصْيَانِ؛ فَالْأَعْدَاءُ يُحِيطُونَ بِالْأُمَّةِ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، وَيُعْلِنُونَ أَنَّهُمْ سَيُسْقِطُونَهَا بَلَدًا بَلَدًا، وَيُنَكِّلُونَ بِأَهْلِهَا. وَالْمَعَاصِي فِي النَّاسِ تَزْدَادُ وَلَا تَنْقُصُ، بَلْ أَصْبَحَ بَيْنَ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ وَبَيْنَ الْمُنْكَرَاتِ أُلْفَةٌ وَاعْتِيَادٌ بِسَبَبِ تَوْطِينِ الْمُنْكَرَاتِ وَتَطْبِيعِ النَّاسِ عَلَيْهَا. فَهَلْ يَسْتَحِقُّ نَصْرَ اللهِ تَعَالَى وَحِفْظَهُ وَحِمَايَتَهُ مَنْ يُبَارِزُونَهُ بِالْآثَامِ وَالْمَعَاصِي. وَالْمُنْكَرَاتُ فِيهِمْ تَكْثُرُ وَلَا تَقِلُّ؟!

 

وَمِنْ أَسْبَابِ ذُلِّ الْمُسْلِمِينَ وَهَوَانِهِمْ: رُكُونُهُمْ إِلَى الْأَعْدَاءِ الظَّالِمِينَ، وَاسْتِجْدَاؤُهُمْ فِي حَلِّ قَضَايَاهُمْ، وَهُمْ سَبَبُهَا وَمُسَعِّرُو الْحُرُوبِ وَالْمَشَاكِلِ فِي بُلْدَانِهِمْ، وَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ: (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ) [هود: 113]، فَكَيْفَ تَنْتَصِرُ أُمَّةٌ تُسْلَبُ مِنْهَا وِلَايَةُ اللهِ تَعَالَى وَنَصْرُهُ بِسَبَبِ رُكُونِهَا إِلَى أَعْدَائِهِ سُبْحَانَهُ؟!

 

وَأَعْظَمُ مِنْ رُكُونِهِمْ إِلَى أَعْدَائِهِمْ: طَاعَتُهُمْ إِيَّاهُمْ فِي قَضَايَاهُمْ الْمَصِيرِيَّةِ، وَهُمْ يَرَوْنَ خِيَانَةَ أَعْدَائِهِمْ لَهُمْ، وَيَرَوْنَ مَعُونَةَ أَعْدَائِهِمْ لِلْفِرَقِ الْبَاطِنِيَّةِ لِتَسْحَقَ الْمُسْلِمِينَ، وَتُحِلَّ بِبُلْدَانِهِمُ الْخَرَابَ وَالدَّمَارَ وَالدِّمَاءَ وَالْآلَامَ. وَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ مُخَاطِبًا نَبِيَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا * وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا) [الأحزاب: 1 - 3] فَأَمَرَ –سُبْحَانَهُ- بِتَقْوَاهُ وَبِالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَبِاتِّبَاعِ وَحْيِهِ، وَنَهَى عَنْ طَاعَةِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ؛ لِأَنَّهَا تُورِدُ الْمُؤْمِنِينَ الْمَهَالِكَ، وَتَحْجُبُ نَصْرَ اللهِ تَعَالَى وَتَأْيِيدَهُ.

 

وَمِنْ أَسْبَابِ مَا يَجْرِي الْآنَ فِي حَلَب مِنْ مَشَاهِدَ مُرَوِّعَةٍ: تَفَرُّقُ الْمُسْلِمِينَ وَاخْتِلَافُهُمْ؛ فَالتَّفَرُّقُ وَالِاخْتِلَافُ قَرِينُ الْفَشَلِ وَالْهَزِيمَةِ (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [الأنفال: 46]، فَكَمْ صَبَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى إِذْلَالِ أَعْدَائِهِمْ لَهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَصْبِرُونَ عَلَى حَمَاقَاتِ إِخْوَانِهِمْ، فَكَانَ التَّفَرُّقُ وَالِاخْتِلَافُ هُوَ سِلَاحَ الْعَدُوِّ الْأَقْوَى لِلنَّفَاذِ لَهُمْ، وَاخْتِرَاقِ صُفُوفِهِمْ، وَغَزْوِهِمْ مِنْ دَاخِلِهِمْ.

 

حَتَّى فِي الْبِلَادِ الْمُحَاصَرَةِ وَالْمَنْكُوبَةِ وَالْمَوْطُوءَةِ تَفَرُّقٌ وَاخْتِلَافٌ. وَمَا ضَرَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ شَيْءٌ أَكْثَرُ مِنَ الِاخْتِلَافِ وَالتَّفَرُّقِ الَّذِي سَبَبُهُ حُبُّ الزَّعَامَةِ وَالرِّئَاسَةِ، وَالْمَيْلُ لِلدُّنْيَا وَشَهَوَاتِهَا، وَتَغْلِيبُ الْمَصَالِحِ الْخَاصَّةِ الضَّيِّقَةِ عَلَى مَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ الْعَامَّةِ. وَحُبُّ الدُّنْيَا يُفْسِدُ الْقُلُوبَ وَيَقْلِبُ وَلَاءَهَا وَانْتِمَاءَهَا؛ وَلِذَا قِيلَ: حُبُّ الدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ.

 

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُسْلِمُونَ وَبَلَغُوا فِي اخْتِلَافِهِمْ حَدَّ الِاقْتِتَالِ وَالتَّحَالُفِ مَعَ الْأَعْدَاءِ عَلَى إِخْوَانِهِمْ رَغْمَ أَنَّ رَبَّهُمْ وَاحِدٌ، وَنَبِيَّهُمْ وَاحِدٌ، وَكِتَابَهُمْ وَاحِدٌ، وَدِينَهُمْ وَاحِدٌ، وَمَا يَجْمَعُهُمْ أَكْثَرُ مِمَّا يُفَرِّقُهُمْ، وَشَرِيعَتُهُمْ جَاءَتْ بِكُلِّ مَا يَجْمَعُ الْقُلُوبَ، وَلَكِنْ لِأَنَّهُمْ فَرَّقُوا دِينَهُمْ تَفَرَّقُوا (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) [الأنعام: 159] نَعُوذُ بِاللهِ تَعَالَى مِنْ تَفْرِقَةِ الدِّينِ وَتَفَرُّقِ الْقُلُوبِ.

 

وَوَاجِبٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ إِنْ أَرَادُوا النَّصْرَ عَلَى أَعْدَائِهِمْ، وَأَرَادُوا حِفْظَ أَنْفُسِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ وَبُلْدَانِهِمْ، وَأَرَادُوا أَنْ تَجْتَمِعَ قُلُوبُهُمْ بَعْدَ تَفَرُّقِهَا، وَأَرَادُوا عَوْنَ اللهِ تَعَالَى وَمَدَدَهُ وَنَصْرَهُ: أَنْ يُرَاجِعُوا دِينَهُمْ، وَيَجْتَمِعُوا عَلَيْهِ وَلَا يُفَرِّقُوهُ، وَأَنْ يَسْعَوْا فِي كُلِّ مَا يَجْمَعُ كَلِمَةَ الْمُسْلِمِينَ، وَيَجْتَنِبُوا كُلَّ سَبَبٍ لِلتَّفْرِقَةِ؛ فَإِنَّ الْأَعْدَاءَ يُرَابِطُونَ عَلَى حُدُودِهِمْ يُرِيدُونَ الْفَتْكَ بِهِمْ، فَإِذَا لَمْ يَجْمَعْهُمْ مَا يَرَوْنَهُ مِنْ هَوْلٍ وَاقِعٍ، وَخَطَرٍ قَادِمٍ؛ فَمَا الَّذِي سَيَجْمَعُ كَلِمَتَهُمْ وَيُرْجِعُهُمْ إِلَى دِينِهِمْ؟! (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) [آل عمران: 103].

 

 فَلْنَعُدْ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَلْنَتَمَسَّكْ بِدِينِهِ، وَنَعْتَصِمْ بِحَبْلِهِ، وَنَسْتَجْلِبْ نَصْرَهُ بِطَاعَتِهِ وَدُعَائِهِ، وَلْنَتُبْ مِنْ ذُنُوبِنَا حِمَايَةً لِأَنْفُسِنَا، وَنُصْرَةً لِإِخْوَانِنَا وَأُمَّتِنَا، وَلْتَجْتَمِعْ كَلِمَتُنَا عَلَى دِينِنَا؛ فَالدِّينُ جَمَعَ الْمُؤْمِنِينَ الْأَوَّلِينَ، وَتَفْرِقَةُ الدِّينِ فَرَّقَتِ الْمُتَأَخِّرِينَ (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء: 92].

 

نَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى فَرَجًا لِأَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ عِنْدِهِ، وَنَصْرًا لِعِبَادِهِ (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) [آل عمران: 126].

 

وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ...

 

 

الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

 

الْحَمْدُ لِلهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

 

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ (وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ) [البقرة:223].

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: النَّصْرُ لَا يَكُونُ لِلْأُمَّةِ إِلَّا بَعْدَ الْوَعْيِ؛ لِأَنَّ الْأُمَّةَ إِذَا انْتَصَرَتْ قَبْلَ وَعْيِهَا عَادَ نَصْرُهَا وَبَالًا عَلَيْهَا فِي سُهُولَةِ اخْتِرَاقِهَا وَزَرْعِ الْفُرْقَةِ بَيْنَ أَبْنَائِهَا. وَقَدْ تَمَّ تَجْهِيلُ الْمُسْلِمِينَ طِيلَةَ قَرْنٍ بِضَخِّ مَفَاهِيمَ عَنْ أَعْدَائِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ لَيْسَتْ صَحِيحَةً، وَتُخَالِفُ مَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ. فَإِذَا هَذِهِ الْأَحْدَاثُ الْمُؤْلِمَةُ تُعِيدُ لِلْأُمَّةِ وَعْيَهَا، وَتَدُلُّهَا عَلَى طَرِيقِهَا، وَهِيَ لَا زَالَتْ فِي بِدَايَتِهِ، وَتَحْتَاجُ إِلَى تَضْحِيَاتٍ كَبِيرَةٍ إِلَى بُلُوغِ نِهَايَتِهِ؛ وَذَلِكَ لِاجْتِثَاثِ الْمَفَاهِيمِ الْخَاطِئَةِ الْمُتَرَسِّخَةِ، وَإِحْلَالِ الْمَفَاهِيمِ الْقُرْآنِيَّةِ مَحَلَّهَا.

 

لَقَدْ ضَخَّ الْإِعْلَامُ الْعَلْمَانِيُّ طِيلَةَ قَرْنٍ مَضَى أَنَّ الرُّجُوعَ لِلدِّينِ سَبَبٌ لِلتَّخَلُّفِ، وَأَنَّ اللِّحَاقَ بِالرَّكْبِ الْحَضَارِيِّ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ تَرْكِ الدِّينِ وَالْقُرْآنِ، وَأَنَّ الْعَدَاءَ فِي الدِّينِ خُرَافَةٌ، ثُمَّ هَاهُمْ يَرَوْنَ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ يَتَكَالَبُونَ عَلَى أَهْلِ السُّنَّةِ لِإِبَادَتِهِمْ. وَالنَّاسُ إِذَا لَمْ يَفْهَمُوا بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ سُنَنَ اللهِ تَعَالَى فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَعْدَائِهِمْ أَرَاهُمُ اللهُ تَعَالَى إِيَّاهَا وَاقِعًا عَلَى أَرْضِهِمْ؛ لِتَحْيَى قُلُوبُهُمْ، وَيُرَاجِعُوا دِينَهُمْ، وَيَصْدُرُوا عَنْ قُرْآنِهِمْ.

 

وَلَنْ تَكُونَ مَحْرَقَةُ حَلَبَ آخِرَ مَحَارِقِ الصَّلِيبِيِّينَ مَعَ الْبَاطِنِيِّينَ، فَلَوْ قَدَرُوا لَأَحْرَقُوا أَهْلَ السُّنَّةِ جَمِيعًا. وَلَيْسَتْ هِيَ أَيْضًا نِهَايَةَ التَّارِيخِ لِأَهْلِ السُّنَّةِ حَتَّى لَا يَيْأَسَ أَهْلُ الْحَقِّ، وَلَا يُفَارِقُوا حَقَّهُمْ إِلَى بَاطِلِ غَيْرِهِمْ؛ فَإِنَّ الْأَيَّامَ دُوَلٌ، وَوَرَاءَ هَذِهِ الظُّلْمَةِ الْحَالِكَةِ فَجْرٌ يَبْزُغُ فِيهِ الْحَقُّ، فَيَدْمَغُ الْبَاطِلَ وَأَهْلَهُ. وَأَعْظَمُ نَصْرٍ لِأَهْلِ مَحْرَقَةِ حَلَبَ الَّتِي آلَمَتْ كُلَّ مُؤْمِنٍ أَنَّهُمْ لَقُوا اللهَ تَعَالَى ثَابِتِينَ عَلَى دِينِهِمْ لَمْ يُغَيِّرُوا وَلَمْ يُبَدِّلُوا، وَلَمْ يَبِيعُوا دِينَهُمْ بِسَلَامَةِ أَنْفُسِهِمْ. وَإِنَّ أُمَّةً تُقِيمُ عَلَى هَذِهِ الْمَبَادِئِ، وَتَتَّكِئُ عَلَى دِينِهَا فِي شَدَائِدِهَا لَأُمَّةٌ جَدِيرَةٌ بِالنَّصْرِ وَلَا حِيلَةَ لِأَعْدَائِهَا مَعَهَا.

 

اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرَضِينَ وَرَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكَهُ نَسْأَلُكَ بِاسْمِكَ الْأَعْظَمِ الَّذِي إِذَا دُعِيتَ بِهِ أَجَبْتَ، وَإِذَا سُئِلْتَ بِهِ أَعْطَيْتَ نَسْأَلُكَ بِأَنَّكَ أَنْتَ اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ، نَسْأَلُكَ بِأَسْمَائِكَ الْحُسْنَى وَصِفَاتِكَ الْعُلَى فَرَجًا مِنْ عِنْدِكَ لِإِخْوَانِنَا الْمُسْتَضْعَفِينَ فِي حَلَبَ وَفِي سَائِرِ الشَّامِ وَالْيَمَنِ وَالْعِرَاقِ وَفِي كُلِّ بَلَدٍ يُذَلُّ فِيهِ أَهْلُ دِينِكَ. اللَّهُمَّ فَرِّجْ كَرْبَهُمْ، وَارْحَمْ ضَعْفَهُمْ، وَاجْبُرْ كَسْرَهُمْ، وَتَوَلَّ أَمْرَهُمْ، وَأَدِرْ دَوَائِرَ السُّوءِ عَلَى أَعْدَائِهِمْ. اللَّهُمَّ الْطُفْ بِعِبَادِكَ الْمُسْتَضْعَفِينَ الْمُسْتَضَامِينَ، وَارْفَعِ الْبَلَاءَ عَنْهُمْ، وَأَسْبِغْ عَلَيْهِمْ عَافِيَتَكَ.

 

اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِالْبَاطِنِيِّينَ وَالصَّلِيبِيِّينَ وَمَنْ عَاوَنَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ. اللَّهُمَّ اخْضُدْ شَوْكَتَهُمْ، وَشَتِّتْ شَمْلَهُمْ، وَارْفَعْ أَمْنَهُمْ، وَأَعِدْهُمْ إِلَى ذُلِّهِمْ وَهَوَانِهِمْ، وَانْصُرْ عِبَادَكَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِمْ.

 

اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ، مُنْشِئَ السَّحَابِ، هَازِمَ الْأَحْزَابِ اهْزِمِ الْبَاطِنِيِّينَ وَالصَّلِيبِيِّينَ، وَانْصُرْ إِخْوَانَنَا عَلَيْهِمْ، إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

 

اللَّهُمَّ ضَعُفَ النَّاصِرُ إِلَّا بِكَ، وَانْقَطَعَ الرَّجَاءُ إِلَّا فِيكَ، وَلَا حَوْلَ لِإِخْوَانِنَا الْمُسْتَضْعَفِينَ وَلَا قُوَّةَ لَهُمْ إِلَّا بِكَ، اللَّهُمَّ فَثَبِّتْهُمْ، وَاحْقِنْ دِمَاءَهُمْ، وَصُنْ أَعْرَاضَهُمْ، وَفُكَّ حِصَارَهُمْ، وَاشْفِ جَرْحَاهُمْ، وَخَلِّصِ الْأَسْرَى مِنْهُمْ، وَتَقَبَّلْ قَتْلَاهُمْ فِي الشُّهَدَاءِ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ، وَاجْعَلْ مُصَابَ الْمُؤْمِنِينَ فِي إِخْوَانِهِمْ خَيْرًا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، إِنَّكَ سَمِيعٌ قَرِيبٌ.

 

  (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الصافات: 180 - 182]

 

  وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

 

 

المرفقات

حلب.. آلام وآمال - مشكولة1

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات