اقتباس
فينبغي للمؤمن في الجمعة أن ينصت ويخشع ويحذر العبث بالحصى أو غيره، وإذا سلم عليه أحد أشار إليه ولم يتكلم، وإن وضع يده في يده إذا مدها من غير كلام فلا بأس كما تقدم، ويعلمه بعد انتهاء الخطبة أن هذا لا ينبغي له، وإنما المشروع...
الإنكار على الخطيب إذا أخطأ:
الخطيب إذا أخطأ أثناء الخطبة في القرآن خطأ يترتب عليه تغيير المعنى، أو قرر الشرك والبدعة المكفرة والمنكر المتفق عليه بين أهل العلم. وجب تصحيح هذا الخطأ أثناء الخطبة وهو أمر متعين، لما يترتب على عدم تصحيح الخطأ من إضلال الخلق، لأن هؤلاء الجمع إذا انفضوا ترسب ذلك في أذهانهم واعتقدوه وأخذوا به..
ويشترط لمن أراد القيام بالإنكار عدة أمور:
1- أن يتلطف في بيان الحق، ونقد ما قاله الخطيب، وأن يكون بالتي هي أحسن امتثالا لقوله تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)([1])، حتى يؤدي إنكار المنكر ثمرته المرجوَّة، وأن لا يترتب على ذلك حدوثُ مفسدةٍ أعظم من المصلحة، أو فتنةٍ وهَرْج ومَرْج ولغط وصياحٍ وبلبلةٍ في المسجد تتنافى مع قدسيته. أما إذا أدى الإنكار إلى حدوث فتنة أكبر، أو لغط وتشويش، لم يشرع الإنكار والتعرض للخطيب درءًا للمفسدة.
وعملا بقاعدة: درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة. فننظر إلى المصلحة من إنكار المنكر على الخطيب: فإن كانت المصلحة هي الغالبة فلا مانع من الإنكار وإن وقعنا بالمفسدة. وإن كانت المفسدة هي الغالبة، فإنا ندرأ المفسدة وإن فاتت المصلحة.
2- يجب أن يكون من يردُّ على خطيب الجمعة أو يصحح له خطأً متأكداً وواثقاً تماماً مما يقول.
وخلاصة الأمر أن الأصل المقرر عند جماهير فقهاء الإسلام هو منعُ الكلام أثناء خطبة الجمعة ووجوبُ الإنصات لها، وأن العلماء قد استثنوا حالاتٍ خاصةٍ يجوز الكلام فيها مع خطيب الجمعة، والردِّ عليه للحاجة والمصلحة، ويجوز للخطيب أيضاً أن يُكلم المصلين وأن ضابط جواز الكلام مع خطيب الجمعة والردِّ والاعتراض عليه هو عدمُ حدوث مفسدةٍ أكبر من المصلحة، وعدم حدوث فتنة وهرْج ومرْجٍ ولغط وصياح وبلبلة في المسجد.
سئل الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: إذا أخطأ الخطيب في الخطبة. فهل يرد عليه المستمع؟
فأجاب رحمه الله بقوله: إذا أخطأ الخطيب في خطبة الجمعة خطأ يغير المعنى في القرآن خاصة، فإن الواجب أن يرد عليه لأنه لا يجوز أن يغير كلام الله عز وجل إلى ما يتغير به المعنى، فلا يجوز الإقرار عليه فليرد على الخطيب. أما إذا كان خطأ في كلامه فكذلك يُرد عليه، مثل لو أراد الخطيب أن يقول: هذا حرام، فقال: هذا واجب فيجب أن يرد عليه؛ لأنه لو بقي على ما قال: إنه واجب لكان في ذلك إضلال الخلق، ولا يجوز أن يقر الخطيب على كلمة تكون سبباً في ضلال الخلق. أما الخطأ المغتفر الذي لا يتغير به المعنى فلا يجب عليه أن يرد، مثل لو رفع منصوباً، أو نصب مرفوعاً على وجه لا يتغير به المعنى فإنه لا يجب أن يرد عليه، سواء كان ذلك في القرآن، أو في غير القرآن([2]).
وقد سئل علماء اللجنة الدائمة:
ما حكم الإسلام في خطيب يتحدث أثناء الخطبة، أو كلها، عن إسرائيليات، أو يذكر أحاديث ضعيفة، يبغي بذلك إعجاب الناس به؟.
فأجابوا:
إذا علمتَ يقيناً أن ما يذكره في الخطبة إسرائيليات لا أصل لها، أو أحاديث ضعيفة: فانصحه بأن يأتي بدلاً عنها بالأحاديث الصحيحة، والآيات القرآنية، ولا يجزم بنسبة شيء إليه صلى الله عليه وسلم لا يعلم صحته؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الدين النصيحة" الحديث رواه مسلم في الصحيح([3])، على أن تكون النصيحة بالأسلوب الحسن، لا بالشدة، والعنف، وفقك الله، ونفع بك([4]).
أما تشميت العاطس، ورد السلام ففيه تفصيل واختلاف:
القول الأول:
يرخص في رد السلام، وتشميت العاطس أثناء الخطبة، وهو رواية عن الإمام أحمد، أخذًا من قول الأثرم: سمعت أبا عبد الله أي الإمام أحمد سئل يرد الرجل السلام يوم الجمعة؟ فقال: نعم. ويشمت العاطس؟ فقال: نعم، والإمام يخطب، قد فعله غير واحد، وممن رخص في ذلك الحسن، والشعبي، والنخفي، وقتادة، والثوري وإسحاق. قال ابن قدامة: وذلك لأن هذا واجب، فوجب الإتيان به في الخطبة كتحذير الضرير. وقال أبو داود: قلت لأحمد: يرد السلام والإمام يخطب ويشمت العاطس؟ قال: إذا كان ليس يسمع الخطبة فيرد، وإذا كان يسمع فلا لقول الله -تعالى-: (فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ)([5])([6]).
قال ابن قدامة: وذلك لأن الإنصات واجب فلم يجز الكلام المانع منه من غير ضرورة كالأمر بالإنصات بخلاف من لم يسمع([7]).
القول الثاني:
لا يرد السلام، ولا يشمت العاطس أثناء الخطبة، وهو مذهب الحنفية([8])، والمالكية([9])، قال ابن عبد البر: اختلفوا في رد السلام وتشميت العاطس في الخطبة فقال مالك وأصحابه: لا يشمت العاطس، ولا يرد السلام، إلا إن رده إشارة كما يرد في الصلاة([10]). وهو قول للإمام الشافعي في القديم([11])، ورواية عن الإمام أحمد ([12]).
واختاره ابن باز وقد سئل -رحمه الله-: إذا كان الإمام يخطب وسلم عليك آخر، ولو مد يده وسلم فما الحكم؟ فأجاب: تشير له وقت الخطبة وتضع يدك في يده إذا مدها من دون كلام؛ لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمر بالإنصات وقال: "إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب فقد لغوت". فجعل أمره بالمعروف لغوا وقت الخطبة فكيف بغيره من الكلام. وقال -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح: "من مس الحصى فقد لغا"([13]).
فينبغي للمؤمن في الجمعة أن ينصت ويخشع ويحذر العبث بالحصى أو غيره، وإذا سلم عليه أحد أشار إليه ولم يتكلم، وإن وضع يده في يده إذا مدها من غير كلام فلا بأس كما تقدم، ويعلمه بعد انتهاء الخطبة أن هذا لا ينبغي له، وإنما المشروع له إذا دخل والإمام يخطب أن يصلي ركعتين تحية المسجد ولا يسلم على أحد حتى تنتهي الخطبة، وإذا عطس فعليه أن يحمد الله في نفسه ولا يرفع صوته([14]).
واختاره ابن عثيمين قال: الصحيح أن ليس له أن يرد السلام؛ لأن واجب الاستماع مقدم على واجب الرد، ثم إن المسلم في هذه الحال ليس له حق أن يسلم والإمام يخطب؛ لأن ذلك يشغل الناس عن ما يجب استماعهم إليه، وأنه لا رد ولا ابتداء في السلام والإمام يخطب([15]).
وهذا هو الحق فقد جعل -صلى الله عليه وسلم- أمره بالمعروف لغوًا وقت الخطبة فكيف بغيره من الكلام؟! كما أن رد السلام يمكن تحصيله في كل وقت بخلاف سماع الخطبة.
ولما كان المسلم مأمورًا بالإنصات للخطبة كالصلاة، فليس له أن يرد السلام أو يشمت حال الخطبة كالصلاة.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
([1]) النحل: 125.
([2]) مجموع فتاوى و رسائل العثيمين (16/149).
([3]) صحيح مسلم (1/53) رقم (205)
([4]) فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (8/230).
([5]) الأعراف: 204.
( ([6]انظر الشرح الكبير مع المقنع والإنصاف لابن قدامة (5/308).
([7]) المغني (2/165).
([8]) المبسوط للسرخسي (2/28).
([9]) انظر شرح الزرقاني على مختصر خليل (2/113).
([10]) التمهيد (19/37).
([11]) روضة الطالبين للنووي (2/29).
( ([12]الإنصاف للمرداوي (2/293).
([13]) صحيح ابن خزيمة (3/128) رقم (1756) وصححه الألباني في صحيح الجامع (6179).
(([14] مجموع فتاوى العلامة عبد العزيز بن باز رحمه الله (12/410، 411).
( ([15]مجموع فتاوى ورسائل العثيمين (16/162).
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم