عناصر الخطبة
1/ الكرب أقصى درجات الحزن 2/ انكشاف الكرب بالله تعالى وحده 3/ اتقاء المسلمين ربهم في إخوانهم المكروبين 4/ أدعية كاشفة للكروب بإذن الله تعالى 5/ إتيان الفرج مع الكرب 6/ الثقة بالله تعالى والاستعانة به لدفع الكرباقتباس
ثم يتذكر العبد أن له ربا كريما غنيا واسع الفضل والعطاء، فليرجع إلى ربه -سبحانه وتعالى-، يقول الله -سبحانه وتعالى-: (قُلِ اللّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ) [الأنعام:64]، فلا ينجي من الكروب إلا الله، ولا يزيل الهموم إلا الله.
الخطبة الأولى:
أما بعد: فيا عباد الله، تحدثنا في الجمعة الماضية عن الحزن، هذا الحزن إذا تكاثر وتعاظم واشتد وغلظ في قلب الإنسان يصبح ماذا؟ يصبح كربا. فيكون هذا الحزن الشديد كربا يذيب قلب ابن آدم.
فإذا كان هذا الحزن بهذه الخطورة، وبهذه المكانة من الخطورة، ويمثل هذا الكرب أقصى درجات الحزن؛ فإن على المسلم أن يتنبه لمثل هذا، وأن يسأل الله -سبحانه وتعالى- أن ينفس همه، وأن ينفس كربته، حتى لا يستمرئ الحزن فيعتاد عليه؛ لأنه إذا تطور الحزن فوصل إلى مرحلة الكرب فإنه يصبح صفة وسمة في ابن آدم يصعب عليه بعدها أن يتخلص منها.
ثم يتذكر العبد أن له ربا كريما غنيا واسع الفضل والعطاء، فليرجع إلى ربه -سبحانه وتعالى-، يقول الله -سبحانه وتعالى-: (قُلِ اللّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ) [الأنعام:64]، فلا ينجي من الكروب إلا الله، ولا يزيل الهموم إلا الله.
ولذا، الرسول -صلى الله عليه وسلم- كما جاء في الصحيحين، واللفظ للإمام احمد: "كان إذا رقى بعض أصحابه من مرض"، ماذا كان يقول-عليه الصلاة والسلام-؟ يقول، واللفظ للإمام أحمد، قال: "امسح البأس رب الناس، بيدك الشفاء، لا يكشف الكرب إلا أنت".
نوح -عليه السلام- لما أصيب بالكرب، ماذا قال -سبحانه وتعالى-؟ (فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) [الأنبياء:76].
موسى -عليه الصلاة والسلام- وهارون، ماذا قال -سبحانه وتعالى-؟ (وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) [الصافات:115].
ثم إن على المسلمين أن يتقوا الله -سبحانه وتعالى- في إخوانهم المكروبين، وأن يفرجوا همومهم، وان ينفسوا كروبهم، وأن يقفوا معهم ليزيلوا ما أصابهم من هم وغم؛ ولذا جاءت دعوة الإسلام دعوة ظاهرة واضحة بينة في هذا المجال.
ففي صحيح مسلمٍ أن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه أنه كان يطلب رجلا دَينا، فلما جاءه وطلبه استتر وتوارى واختفى عنه، فلما وجده بعد ذلك، ووقعت عينه عليه، قال: "لماذا تتوارى عني؟" قال: "إني معسر"، يعني: غريم مدين لا أستطيع السداد، فماذا قال؟ قال: "آلله؟"، أي: أبالله كما قلتَ؟ قال: "آلله". فماذا قال أبو قتادة؟ قال: "سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من سرَّه أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينفس عن معسر أو يضع عنه"، فلينفس عن معسر: يعني عن مدين، إذا كان لك دين على شخص فاستعثر عليه الدين، فإن الأفضل لك أن تعفو عنه، فإن لم تستطع فلتضع عنه بعض الدين.
بل جاء في رواية الإمام أحمد قوله -عليه الصلاة والسلام-: "من سره أن تستجاب دعوته، وأن يكشف الله كربته؛ فلينفس عن معسر".
ولذا، رسولنا -صلى الله عليه وسلم- يعلم خطورة الكرب الذي هو أشد وأعظم الحزن، فماذا كان يقول حتى للنساء؟ لم يخصص الرجال بذلك، فقد جاء في سنن أبي داود وغيره عن أسماء بنت عميس -رضي الله عنها- أنها قالت: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ألا أعلمك كلمات تقولينهن عند الكرب أو في الكرب؟ الله ربي لا أشرك به شيئا"، دعاء يسير أعيده، فهو سهل الحفظ: "الله ربي لا أشرك به شيئا"، إذا قالها العبد أزاح الله -جل وعلا- عنه كروبه.
بل إن رسولنا -صلى الله عليه وسلم- كما قال ابن عباس -رضي الله عنهما- في الصحيحين قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول في الكرب: "لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض ورب العرش الكريم".
بل إن أعظم حالة تمر بالإنسان من أحوال الكرب عند الموت، وهناك كلمة يسيرة ينطق بها كل مسلم، مَن قالها أذهب الله كربه وأزاح عنه همه، وما ألمّ به، وما أحدق به، في مسند الإمام أحمد، عن طلحة بن عبيد الله -رضي الله عنه- أنه أتاه عمر وهو كئيب حزين، أتى عمر -رضي الله عنه- إلى طلحة وهو كئيب، فقال له: "ما لي أراك يا أبا محمد كئيبا؟ أأغاظتك إمرة ابن عمك؟"، يعني: أبا بكر، قال: لا والله! وأثنى على أبي بكر خيرا، ولكنني سمعت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كلمة لا يقولها عبد عند موته إلا أزال الله كربته، وأشرق لونه، فما منعني أن أسأله إلا القدرة عليها حتى مات"، يعني: أنني حفظتها لكنني نسيتها، فأصبحت كئيبا حزينا، فماذا قال عمر -رضي الله عنه-؟: "والله إني لأعلم ما هي تلك الكلمة، ألا ترى أعظم كلمة أمر بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عمه أبا طالب عند الموت؟ لا إله إلا الله"، فقال طلحة: هي والله، هي"، إذاً؛ إذا أصابك هم فقل: "لا إله إلا الله"، إذا أصابك كرب فقل: "لا إله إلا الله".
وهناك دعاء ينبغي لكل مسلم أن يحفظه؛ لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- حث عليه، في مسند الإمام أحمد من حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما أصاب أحدا همٌّ ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك، ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض فيّ حكمك، عدل فيّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك: سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني وهمي، إلا أذهب الله عنه همه وأبدله مكان حزنه فرحا"، قالوا: يا رسول الله، ينبغي لمن سمع هذه الكلمات أن يتعلمهن، فقال -عليه الصلاة والسلام-: " أجل، ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن".
ثم مهما عظمت الكروب، واشتدت على ابن آدم فليعلم أن مع الكرب الفرج، إذا أحدقت بك الكروب فثق بالله، واعلم بأنه مع الكرب يأتي الفرج. ما الدليل؟ وما الأمثلة على ذلك؟ بعد جلسة الاستراحة إن شاء الله -تعالى-.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه وتوبوا إليه؛ إن ربي كان توابا رحيما.
الخطبة الثانية:
أما بعد: فيا عباد الله، في مسند الإمام أحمد من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: "كنت رديف رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "يا غلام"، أو "يا غليم: ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن؟"، فقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "بلى!"، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، تعرّفْ إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة، فلو أن الخلق كلهم اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يقدروا عليه، ولو أن الخلق اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يفعلوه"، ثم قال -عليه الصلاة والسلام-: "واعلم أن في الصبر على ما تكره خيرا، وأن النصر مع الصبر، وأن الفرج -وهو موضع الشاهد- وان الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا".
أمثلة ذكرها البخاري -رحمه الله- في صحيحه، أذكر مثالين من الأمثلة التي تدل على أن ابن آدم مهما كان في كرب عميق شديد، ووثق بالله وحسن ظنه بالله فإن الله -سبحانه وتعالى- يقف معه، ويتولى أمره.
جاء في صحيح البخاري من حديث عائشة -رضي الله تعالى عنها- أنها قالت: "أسلمت امرأة سوداء، وكانت أمَةً -يعني رقيقة- أسلمت أمة سوداء من العرب، وكان لها حِفش في المسجد -يعني بيت صغير متواضع- فكانت تجلس فيه، فكانت تأتينا فتحدثنا، فإذا فرغت من حديثها وقامت تقول:
ويوم الوِشاح من تعاجِيبِ ربنا *** ألا إنه من بلدة الكفر نجَّاني"
كانت تقول هذا البيت كلما قامت وتحدثت معها.
قالت عائشة -رضي الله عنها-: "فسألتها: علام تقول هذا البيت كلما قامت؟"، ما حالها، وما قصتها؟ فقالت: "كنت أمة عند قوم فخرجت جويرية -يعني: جارية من أهل البيت- وكان معها وشاح -يعني: كساء- من أدم -يعني: من جلد- وكان أحمر، فجاءت الحُدَيَّة -وهي طائر- فأخذته تظن أنه لحم، فأخذته فاتهموني به وعذبوني حتى إنهم طلبوه في قُبُلي"، يعني بحثوا حتى في فرجها ليبحثوا عن هذا الوشاح.
تقول: "فبينما أنا في كرب، وهُم حولي إذ أقبلت الحدية حتى وازت برؤوسنا، فألقته، فأخذوه فقلت: هذا الذي اتهمتموني به، وأنا منه بريئة". فكشف الله كربتها.
قصة أخرى في صحيح البخاري: عن عبد الله بن الزبير -رضي الله عنه- أنه قال: "لما وقفت يوم الجمل بجانب أبي"، قال الزبير بن العوام الذي هو أبوه، "قال: يا بني، لا أُراني إلا سأُقتل في هذا اليوم مظلوما، وإن من أعظم همِّي لَدَيني، فإذا قُتلت فاقضِ عني ديني"، ثم قال: "يا عبد الله، أترى أن ديننا يبقي لنا من مالنا شيئا؟"، ثم قال: "يا عبد الله، إذا عجزت عن قضاء ديني فاستعن به على مولاي"، قال عبد الله: "والله ما أدري من مولاه! حتى قلت: يا أبتي: من مولاك؟ قال: إن مولاي هو الله".
يقول عبد الله بن الزبير: "والله، ما وقعت في كربة من دينه إلا قلت: يا مولى الزبير اقض عنه دينه، فيقضيه".
وكان الزبير بن العوام لما قُتل كان له تسعة بنين، وتسع بنات، وأربع نسوة، ولم يدع لا درهما ولا مالا، لم يترك إلا عقارا، لم يترك إلا أرضين، منها الغابة، وهي أرض كبيرة في المدينة، وإحدى عشرة دارا بالمدينة، ودارين بالبصرة، ودارا بالكوفة، ودارا بمصر.
يقول عبد الله بن الزبير: "لما حسبت الذي عليه وجدته: ألفي ألف، ومائتي ألف"، يعني: لما حسب الدين وجده: مليونين، ومائتي ألف، دين عظيم في ذلك الزمن: مليونان ومائتا ألف! فمرّ به، يقول عبد الله: "فمر بي حكيم بن حزام"، وكان ابن عم الزبير، "فقال: والله لا أرى أن مالكم يوفي دينكم، فإذا عجزتم عن شيء منه فاستعينوا بي"، يقول حكيم بن حزام -رضي الله عنه-.
يقول عبد الله: "وكان لعبد الله بن جعفر على أبي أربعمائة ألف، فأتيته، فقال عبد الله بن جعفر: إن شئتم أن أسقطها أسقطتها لأن دينكم عظيم، وإن شئتم أن تؤخروني فيمن تؤخرون فلكم ذلك"، فقال عبد الله بن الزبير: "لا، ولكن خذ أرضا"، فأخذ أرضا مقابل الأربعمائة ألف.
فمضت السنون، مضت أربع سنوات، وعبد الله بن الزبير يبيع هذه العقارات، وكان الدين الذي ألمّ بالزبير بن العوام لم يكن عن سفه، ولا عن حماقة، لا، وإنما كان -رضي الله عنه- إذا جاءه أحد يودعه مالا، كان أمينا -رضي الله عنه-، إذا أتاه أحد يودعه مالا قال: بل هو سلف، بل هو قرض، وهذا من نصحه -رضي الله عنه-؛ لأنك إذا أودعت أحدا مالا، فهذا المال إذا ذهب أو سُرق من غير تعدٍّ ولا تفريط فإنه لا يُضْمَن بينما إذا كان قرضا فإنه يضمن على كل حال، وهذا من نصحه -رضي الله عنه- للمودِع: فقال: "بل هو قرض"، فاجتمعت عليه هذه الديون.
فيقول عبد الله بن الزبير:"فجعلت أبيع الدور والعقار"، يقول -رضي الله عنه-: "فحسبت المال بعد بيع العقار"، حسبت المال والتركة من هذه العقارات: يقول: "خمسين ألف ألف ومائتي ألف"، يعني: خمسون مليونا ومائتا ألف!.
ولذلك أفاد ابن حجر -رحمه الله- في الفتح فقال: هذا يدل على بركة العقار، وأن العقار مبارك، وهذه عبارة نسمعها في عصرنا: "إن العقار ولد مبارك"، ومما يدل على بركة العقار وأنه من أنفع ما يمارس الإنسان فيه نشاطه التجاري؛ لأنه بإذن الله -تعالى- خال من الغش والتدليس، أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال، كما في سنن ابن ماجة: "من باع عقارا ولم يجعل ثمنه في مثله فقَمِنٌ -أي: جدير- ألا يبارك له فيه".
فيقول عبد الله بن الزبير: "فقضيت ما عليه من الديون"، حتى إن عبد الله بن جعفر الذي اشترى تلك الأرض، وهي أرض لا تساوي في ذلك الحال لا تساوي أربعمائة ألف، لكنه أخذها -رضي الله عنه-، باعها بستمائة ألف، يعني ربح عبد الله بن جعفر مائتي ألف.
إذاً؛ يا مكروب يا مهموم يا محزون: عد إلى الله، اسأل الله، استغث بالله، استعن بالله.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم