ما جاء في كثرة الحلف

عبد الملك بن محمد القاسم

2022-10-06 - 1444/03/10
عناصر الخطبة
1/وجوب حفظ اللسان وآفاته 2/الأيمان وأحكامها الفقهية 3/معنى حديث ثلاثة لا يكلمهم الله 4/فضل الصحابة رضي الله عنهم 5/الصفات الذميمة الظاهرة بعد القرون المفضلة

اقتباس

قد يحلف البائع على السلعة بأن اشتراها بكذا وكذا، وأنه أعطى فيها كذا وكذا وهو كاذب حتى يروجها ويؤدي إلى بيعها والربح فيها، ولكنه قد عصى الله -سبحانه- في فعله هذا، فيُعاقب بزوال بركة هذا المال، فلا ينتفع به دينًا ولا دنيا، وربما ذهب رأس المال والربح معًا؛ بحريق، أو نهب، أو غير ذلك ..

 

 

 

 

 

الحمد لله الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، أحمده وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله ولا رب لنا سواه، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، أرسله بين يدي الساعة بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا. صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله-، وحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا) [فصلت: 46].

أيها المسلمون: اللسان من نعم الله العظيمة ولطائف صنعه الغريبة، فهو صغير جرمه، عظيم طاعته وجُرمه، إذ لا يتبين الكفر والإِيمان إلا بشهادة اللسان، وهما غاية الطاعة والعصيان.

فبهذا المخلوق الصغير يُعبر بالإِنسان عن بُغيته ويُفصح عن مشاعره، به يطلب حاجته، ويدافع عن نفسه، ويعبر عن مكنون فؤاده.

وينبغي لكل مكلف أن يحفظ لسانه عن جميع الكلام؛ إلا كلامًا ظهرت فيه المصلحة، ومتى استوى الكلام وتركه في المصلحة، فالسنة الإِمساك عنه؛ لأنه قد ينجر الكلام المباح إلى حرام أو مكروه، وذلك كثير في العادة، والسلامة لا يعدلها شيء.

ومن آفات اللسان -عباد الله-: كثرة الحلف والأيمان، وقد ورد النهي عنه والوعيد لفاعله، لما يترتب عليه من منافاة كمال التوحيد الواجب.

فإنَّ من تعظيم الله وإجلاله حفظ اليمين، فلا يُحلف بالله إلا عند الحاجة ويكون صادقًا؛ لأن ذلك من كمال التوحيد المستحب، وقد أمر الله -سبحانه- عباده بحفظ اليمين، قال تعالى: (وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ)، والحفظ يكون بأمور:

عدم الإكثار من الحلف وعدم الحنث فيه: أي التراجع عما حلف عليه، إلا إذا حلف على ترك أمر هو خير، وكذلك عدم ترك الكفارة عند الحنث.

فمن المعلوم أن من يُكثر الحلف يكثر حنثه، ويقل تكفيره ليمينه، وكل ذلك من المحرمات المنقصة لتوحيد العبد.

عباد الله: أن يمين اللغو التي تجري على اللسان بلا قصد في عرض الحديث لا كفارة فيها، مثل قول الرجل: "لا والله، بلى والله".

أما اليمين المنعقدة التي تواطأ عليه القلب واللسان فهذه تجب فيها الكفارة عند الحنث، والكفارة هي: إطعام عشرة مساكين، لكل مسكين نصف صاع من الأرز ونحوه، أي: ما يعادل كيلو ونصف تقريبًا أو كسوتهم، أو تحرير رقبة، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام، قال تعالى: (لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَـكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ) [المائدة: 89]

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "الحلف منفقة للسلعة، وممحقة للكسب" رواه البخاري ومسلم.

قد يحلف البائع على السلعة بأن اشتراها بكذا وكذا، وأنه أعطى فيها كذا وكذا وهو كاذب حتى يروجها ويؤدي إلى بيعها والربح فيها، ولكنه قد عصى الله -سبحانه- في فعله هذا، فيُعاقب بزوال بركة هذا المال، فلا ينتفع به دينًا ولا دنيا، وربما ذهب رأس المال والربح معًا؛ بحريق، أو نهب، أو غير ذلك.

فالواجب على التاجر المسلم الحذر من الكذب، وتطييب ماله بالربح الحلال الذي لا يأتي إلا عن طريق الصدق، كما أن على المسلم تجنب كثرة الحلف بالله -تعالى- ولو كان صادقًا، حفظًا لليمين التي أمر الله بحفظها، وتعظيمًا له -سبحانه وتعالى-.

ويجب الحذر من اليمين الغموس، وهي التي تغمس صاحبها في الإِثم ثم في النار، وهي التي يحلفها على أمرٍ ماض كاذبًا عالمًا بكذبه، وهي لا تختص بالبيع والشراء، وإنما عامة لكل من حلف وهو كاذب.

وفي الحديث عن سلمان -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ثلاثة لا يكلمهم الله ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: أشيمط زان، وعائل مستكبر، ورجل جعل الله بضاعته لا يشتري إلا بيمينه، ولا يبيع إلا بيمينه" رواه الطبراني بسند صحيح.

في هذا الحديث بين -صلى الله عليه وسلم- الوعيد الشديد لثلاثة أصناف من العصاة: أن الله لا يكلمهم المراد بنفي الكلام -هنا- كلام الرضا، أما الغضب والتوبيخ فإن هذا الحديث لا يدل على نفيه، ولا يطهرهم من دنس الذنوب، ولهم عذاب أليم وهؤلاء هم:

الأول: من يرتكب فاحشة الزنا مع كبر سنه، والزنا وإن كان قبيحًا من كل أحد، فهو من هذا أشد قبحًا؛ لأن داعي المعصية ضعيف في حقه، فدل على أن الحامل له على الزنا محبة المعصية والفجور، وعدم الخوف من الله.

الثاني: فقير يتكبر على الناس؛ والكبر وإن كان قبيحًا، فاستكبار الفقير مع عدم الداعي إليه يدل على أن الكبر طبيعة له.

الثالث: من يكثر من استعمال الحلف في البيع والشراء، فيمتهن اسم الله ويجعله وسيلة لاكتساب ماله.

وفي الصحيح عن عمران بن حصين -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم" قال عمران: "فلا أدري أذكر بعد قرنه مرتين أو ثلاثًا: "ثم إن بعدكم قومًا يشهدون ولا يستشهدون ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن".

وفيه عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته".

عباد الله: الصحابة -رضي الله عنه- أفضل الأمة كما شهد بذلك الرسول -صلى الله عليه وسلم- في قوله: "خير أمتي قرني"، بل هم أفضل الخلق بعد الأنبياء ما كان ولن يكون مثلهم فقد شرفهم الله -سبحانه- بصحبة نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-، فناصروه، وبلَّغوا عنه العلم وجاهدوا معه بأنفسهم وأموالهم، وتحمَّلوا المشاق من أجل نشر هذا الدين العظيم، -فرضي الله عنهم وأرضاهم-.

وقد بين الرسول -صلى الله عليه وسلم- تفاضل القرون، وأخبر أن خير هذه الأمة القرون الثلاثة الأولى، وهم: الصحابة والتابعون وأتباع التابعين؛ لظهور الإِسلام فيهم وقربهم من نور النبوة، ثم بعد هذه القرن المفضلة يفشو الشر في الأمة.

وأخبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن هناك صفات ذميمة ستظهر بعد القرون المفضلة؛ لضعف الإِيمان، وقد ظهر ما أخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم- وهذا علم من أعلام نبوته -صلى الله عليه وسلم-، وهذه الصفات هي:

أولاً: التهاون بالشهادة والتسرع فيها: حيث ذم التسرع في الشهادة إلا أن تطلب منه إلا إذا كان المشهود له لا يدري أن هذا الشخص عنده شهادة وخُشي أن يضيع حقه، فإن الشاهد يتقدم عليه ويقول له عندي لك شهادة وعلي يحمل حديث: "ألا أخبركم بخير الشهداء؟! الذي يأت بشهادته قبل أن يُسألها" رواه مسلم.

ثانيًا: الخيانة، وهي الغدر والخداع في موضع الائتمان.

ثالثًا: عدم الوفاء بالنذر الذي ألزمه الإنسان مع نفسه.

رابعًا: التنعم والترفه الذي يلهي عن طاعة الله.

خامسًا: كثرة الحلف والشهادة.

فعلى المسلم أن يحذر من الوقوع في هذه الصفات الذميمة؛ سلامة لدينه، وحفظًا لعقيدته، قال إبراهيم النخعي: "كانوا يضربوننا على الشهادة والعهد ونحن صغار".

أخبر إبراهيم النخعي عن التابعين؛ عنايتهم بتربية أبنائهم، وأنّهم يؤدبون أبناءهم على تعظيم النخعي عن التابعين؛ عنايتهم بتربية أبنائهم، وأنّهم يؤدبون أبناءهم على تعظيم الشهادة والحلف بالله؛ لأن من اعتادهما في حال الصغر أدى به ذلك إلى التساهل بهما في حال الكبر.

فما أحوجنا إلى التأسي بالسلف الصالح في تنشئة الصغار على طاعة ربهم وتعظيم أوامره وترك نواهيه.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) [الأنفال: 24]

بارك الله لي ولكم.

 

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله بيده مقاليد الأمور، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته، وأشهد أن نبينا محمدًا -صلى الله عليه وسلم-، أدى الأمانة ونصح الأمة؛ فصلوات ربي وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فقد اختار الله -عز وجل- لصحبة نبيه أفضل هذه الأمة، وأبرها قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم في آثارهم، وقد أثنى الله عليهم هو ورسوله -رضي الله عنه- وأعد لهم الحسنى، في آيات كثيرة، كقوله تعالى: (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ) [التوبة: 100].

وقوله تعالى: (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) [الفتح: 29]

قال شيخ الإِسلام -رحمه الله-: "وأما الخلفاء الراشدون والصحابة فكل خير فيه المسلمون إلى يوم القيامة من الإِيمان والإِسلام والقرآن والعلم والمعارف والعبادات، ودخول الجنة، والنجاة من النار، وانتصارهم على الكفار وعلو كلمة الله، فإنما هو ببركة ما فعله الصحابة الذين بلغوا الدين ،وجاهدوا في سبيل الله، وكل مؤمن من آمن بالله، فللصحابة -رضي الله عنه- الفضل إلى يوم القيامة.


هذا، وصلوا.
 

 

 

 

 

المرفقات

جاء في كثرة الحلف

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات