ما أهون الخلق على الله!

عبد الله بن ناصر الزاحم

2022-10-11 - 1444/03/15
التصنيفات: التربية
عناصر الخطبة
1/ وجوب الإيمان بالقدر وحكمته 2/ ما يجب على المؤمن عند نزول المصائب 3/ ارتباط حلول المصائب بارتكاب المعاصي 4/ عقوبات يبتلى بها العاصي 5/ الاعتبار بالسابقين من العصاة 6/ اتقاء المصائب والعقاب العام بالتوبة وإصلاح الأحوال

اقتباس

لقد أهلك الله أمماً وأقواماً كانوا أشدَّ منا قوةً وأطولَ أعمارا، وأرغدَ عيشا وأكثرَ أموالا، فاستأصلهم وأبادهم، ولم يُبقِ لهم ذكرا ولا أثرا، تركوا وراءهم قصوراً مشيدة، وزروعاً مثمرة، وآبارا معطلة، وأراضي خالية. فما أهون الخلق على الله -عز وجل- إذا أضاعوا أمره!.

 

 

الخطبة الأولى:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ...

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102].

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1].

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].

 

أما بعد: فيا أيها الناس اتقوا الله حق التقوى، وراقبوه في السر والنجوى.

 

أيها المسلمون: إن من مستلزمات الإيمان أن يعلم العبد أن الكون بإنسه وجنّه، وسمائه وأرضه وكواكبه ونجومه وجميع مخلوقاته، مسخر بأمر الله -تعالى-، يتصرف فيه كيف يشاء -جل وعلا-، ويعلم أن الضر والنفع بيد الله، وأن ما يجري من مصائب وكوارث إنما هو بقدرٍ من الله -جل وعلا-، لحكمة يريدها -سبحانه وتعالى-، وما أصاب العبدَ لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.

 

والواجب على المسلم عند نزول المصائب ثلاثة أمور: الأول: إن أصابته مصيبة أن يصبر ويحتسب، الثاني: أن يجعلها تذكرة له بالله تحيي قلبه وتجدد إيمانه، الثالث: أن تزيد من اتصاله بالله ذكراً وشكراً وتعبداً.

 

وليتذكر بأن سنن الله لا تحابي أحدا، وأنه ليس بين اللهِ وأحدٍ من خلقه نسب. بل إن الله يخاطب الجميع بقوله: (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ) [الملك:16-17].

 

وقال -تعالى-: (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ) [النحل:45-47].

 

لقد أهلك الله أمماً وأقواماً كانوا أشدَّ منا قوةً وأطولَ أعمارا، وأرغدَ عيشا وأكثرَ أموالا، فاستأصلهم وأبادهم، ولم يُبقِ لهم ذكرا ولا أثرا، تركوا وراءهم قصوراً مشيدة، وزروعاً مثمرة، وآبارا معطلة، وأراضي خالية. فما أهون الخلق على الله -عز وجل- إذا أضاعوا أمره!.

 

عن جبير بن نفير قال: لما فتحت قبرص وفُرِّق بين أهلِها، رأيت أبا الدرداء جالساً يبكي، فقلت: يا أبا الدرداء، ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله؟!  فقال: دعنا منك يا جبير، ما أهون الخلق على الله -عز وجل- إذا تركوا أمره! بينا هم أمة قاهرة قادرة إذ تركوا أمر الله -عز وجل- فصاروا إلى ما ترى!.

 

نعم عباد الله، إن المتأمل في كتاب الله -عز وجل- وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- يعلم يقينا صدق مقالةِ أبي الدرداء -رضي الله عنه-، فإن الداءَ المفسدَ لدنيا العبدِ وآخرته معصيةُ الله -تعالى-، وتركُ أمره، وما من مصيبةٍ تصيب العبدَ في جسدِه أو ماله أو أهله إلا وسببها معصيةُ الله -تعالى-: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آل عمران:165].

 

أيها الأحباب: بمعصية الله -تعالى- أُخرج آدمُ من الجنة، وطُرِد إبليسُ ولُعِن، وبمعصية الله -تعالى- أٌغرق أهل الأرض جميعا, وهاجت الريح على قوم عاد, وأخذت ثمودَ الصيحة.

 

وبمعصية الله -تعالى- قُلبت قرى قومِ لوطٍ وجُعل عاليَها سافلَها، وأُمطرت عليهم حجارةٌ من سجيل منضود، وبمعصية الله -تعالى- أَخَذ قومَ شعيبٍ عذابُ يوم الظلة.

 

وبمعصية الله -تعالى- أُغرق فرعونُ وجنودُه، وبمعصية الله خُسف بقارون وبداره، والله -جل وعلا- يقول: (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [العنكبوت:40].

 

فما أهون الخلق على الله -عز وجل- إذا أضاعوا أمره! والسعيد من وعظ بغيره لا من كان عظة لغيره.

 

فليعلم العصاة أنهم لن يُعجزوا الله بالطلب، ولن يُفلتوا منه بالهرب، فما مَنعت بني النضير حصونُهم، ولا الفرسَ والرومَ أموالُهم وجنودُهم.

 

روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أَمَّا بَعْدُ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، فَإِنَّكُمْ أَهْلُ هَذَا الْأَمْرِ مَا لَمْ تَعْصُوا اللَّهَ، فَإِذَا عَصَيْتُمُوهُ بَعَثَ إِلَيْكُمْ مَنْ يَلْحَاكُمْ كَمَا يُلْحَى هَذَا الْقَضِيبُ"،  لِقَضِيبٍ فِي يَدِهِ، ثُمَّ لَحَا قَضِيبَهُ فَإِذَا هُوَ أَبْيَضُ يَصْلِدُ.

 

وكتبت عائشة -رضي الله عنها- إلى معاوية -رضي الله عنه-: "أما بعد: فان العبد إذا عمل بمعصية الله عاد حامدُه من الناس ذامّاً".

 

قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ: "إِنَّمَا هَانُوا عَلَيْهِ فَتَرَكَهُمْ وَمَعَاصِيَهُ، وَلَوْ كَرُمُوا عَلَيْهِ مَنَعَهُمْ عَنْهَا".

 

عباد الله: إن العزَّ كلَّ العزِّ في طاعة الله -عز وجل-: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا) [فاطر:10]، أي: من كان يريد العزة فليطلبها بطاعة الله.

 

ومن دعاء بعض السلف: اللهم أعزني بطاعتك، ولا تذلني بمعصيتك؛ فالمعاصي تزيل النعم الحاضرة، وتقطع النعم الواصلة، فلا تُحفظ نعمُ الله ولا تستجلبُ إلا بطاعته.

 

ومن أعظم ما يبتلى به العاصي أن ينسيه الله نفسه؛ فلا يقوم بمصالح نفسه وما ينجيها من عذاب الله.

 

ومن أعظم العقوبات: موتُ القلب، بالطبع عليه -عياذا بالله من ذلك- فلا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا، ولا تنفعه المواعظ، ولا تؤثِّر فيه الآيات، (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا) [الأعراف:146]، (وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا) [الإسراء:60].

 

فاتقوا الله عباد الله، واعتبروا بما يجري في العالم من أحداث، وتوبوا إلى الله فإن الله هو التواب الرحيم، وتذكروا قوله -تبارك وتعالى-: (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ) [الأنعام:65].

 

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله على إحسانه...

 

أما بعد أيها المسلمون: فاتقوا الله -تعالى-، وتوبوا إليه، وخذوا على أيدي من تحتكم قبل أن يحل بنا ما حل بمن حولنا، ولنعلم جميعاً أن الذي جعل غيرنا عبرةً لنا، قادرٌ على أن يجعلنا عبرةً لغيرنا.

 

عباد الله: ذكر ابن أبي الدنيا أن المدينة زلزلت على عهد عمر -رضي الله عنه- فقال : "أيها الناس: ما كانت هذه الزلزلة إلا عن شيء أحدثتموه، والذي نفسي بيده! لئن عادت لا أساكنكم فيها أبدا".

 

إننا على كثرة ما نسمع ونقرأ ونشاهد من حوادثَ مروعة، وعقوباتٍ مفزعة، وحروبٍ طاحنة، وأمراضٍ مستعصية، ومجاعاتٍ مهلكة، لا يزال الكثيرون منا مُصرِّين على معاصيهم وطغيانهم وفجورهم! (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ) [الأعراف:90].

 

ومن مستلزمات الأمن والرخاء قيام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، روى أحمد: "إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا الْمُنْكَرَ فَلَمْ يُنْكِرُوهُ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللَّهُ بِعِقَابِهِ".

 

عباد الله: اعلموا أنه لا يقينا من عذاب الله وعقوبته، إلا أن نُصلح ما فسد من أحوالنا، فنبدأ بأنفسنا ونحملها على الحق، ثم بأهلنا وجيراننا، فنأمر بالمعروف وننهى عن المنكر قدر استطاعتنا.

 

عباد الله: تعرّفوا على الله في الرخاء يعرفكم في الشدة، اصدقوا الله يصدقكم، واذكروه يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وأدّوا إليه حقَّه يوفّيكم حقكم، فإن الله أكرمُ الأكرمين، وأرحمُ الراحمين، وأجودُ الأجودين.

 

اقرؤوا قول الله -تعالى-: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [الأعراف:96].

 

وعذابُ الله إذا حلّ بقوم عمّهم، سألت عائشةُ -رضي الله عنها- النبي -صلى الله عليه وسلم-: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟! قال: "نعم؛ إذا ظهر الخبث".

 

فاتقوا الله عباد الله، وقفوا عند حدوده، وعظّموا حرماته, وإيّاكم أن تزيدوا فسوقاً كلما زادكم الله نعيما، اقرؤوا قول الله -تعالى-:  (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ) [الأنعام:44].

 

خذوا بأسباب النجاة؛ فإن هلاك الإنسان ونجاته مقيد بما كسبت يداه، كان عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- يحدث في المسجد: "إن الشقيَّ من شقي في بطن أمه، والسعيدَ من وُعِظ بغيره".

 

ثم اعلموا -أيها المؤمنون- أن من خير الأعمال في هذا اليوم العظيم الصلاةَ على البشير النذير، والسراج المنير، كما أمركم اللطيف الخبير فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56]...

 

 

 

المرفقات

أهون الخلق على الله!

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات