ماذا بعد الحج؟

عنان مطيع

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/ شكر الله تعالى على أداء العبادة 2/ رجاء قبول العبادة وعدم العجب 3/ المداومة على العمل الصالح وفتح صفحة جديدة مع الله تعالى 4/ المداومة والامتثال لأوامر الله تعالى استلهامًا لمعاني الحج 5/ استصحاب السلوك القويم بعد الحج

اقتباس

يا مَنْ أذرفتَ الدموعَ على عرفات! يا من أنفقتَ مالَك ووقتَك للجنةِ طلباً للرحماتِ! حافظ على حجك وعملك!، ولا تجعله يذهب سُدًى فتهدمَ ما بنيتَ؛ ولا تغتر أيها الحاج بكثرةِ الطاعةِ؛ فإنَّ اللهَ لا يَقبلُ إلّا ما كانَ خالصاً لِوجههِ الكريمِ.. حافظْ على حجك بدوامِ الطاعةِ واجتنابِ المعاصي.. إنَّ الحجَّ الذي يقبله الله –تعالى- من العبدِ له علاماتٌ، ومِنْ ذلك انشراحُ الصدرِ، وسرورٌ في القلبِ، ونورٌ في الوجهِ، وأنَّ صاحبَهُ...

 

 

الخطبة الأولى:

 

أما بعد: ما أسرعَ مرور الأيام والليالي وانقضاء الساعات والأعوام!! قبلَ أيامِ يسيرةٍ كنا نترقبُ قدومَ شهرِ ذي الحجةِ، ينتظره الحُجاج بفارغِ الصبرِ ليقضوا فريضةَ الحجّ، وينتظره جميعُ المسلمين ليعمروه بطاعةِ اللهِ، يترقبون أفضلَ أيامِ الدنيا، ينتظرون يومَ عرفةَ ينتظرون يومَ النحر ينتظرون العِتقَ مِنَ النارِ ينتظرون المغفرةَ مِنَ الآثام.

 

فجاءت أيامُ الحجِّ فقضى الحجاجُ عبادةً مِنْ أعظمِ العباداتِ وقُربةً مِنْ أعظم القُرباتِ؛ تجردوا للهِ مِنَ المخيطِ عند الميقاتِ، وهلّت دموعُ التوبةِ في صعيدِ عرفات؛ خجلاً مِنَ الهفواتِ والعثراتِ، وضجت بالافتقارِ إلى اللهِ بكلِّ الأصواتِ، وازدلفتْ الأرواحُ إلى مزدلفةَ بالمباتِ، وزحفت الجموعُ إلى رمي الجمراتِ.

 

والطوافُ بالكعبةِ المشرفةِ والسعيُ بينَ الصفا والمروةَ في رحلةٍ مِنْ أروع الرحلاتِ وسياحةٍ مِنْ أجملِ السياحاتِ، فعادوا فرحين بما أتاهم اللهُ مِنْ فضلهِ (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ) [يونس: 58].

 

فهنيئاً للحجاجِ بحجهم، وهنيئاً للعباد بعبادتهم واجتهادهم، هنيئاً لهم قولُ الرسولِ -صلى الله عليه وسلم- فيما يَرويهِ عَنْ ربِه "إذا تقرب العبد إليَّ شبرًا تقربت إليه ذراعًا، وإذا تقرب مني ذراعًا تقربت منه باعًا، وإذا أتاني مشيًا أتيته هرولة" (صحيح البخاري).

فهنيئاً لكم يا مَنْ نِلتم الرحماتِ وارتدتم الأرض الطيباتِ المباركاتِ.

 

أيها المسلمون: لقد علمنا أن الحج من أفضل الأعمال، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سئل رسول الله: أي العمل أفضل؟ قال: "إيمان بالله ورسوله"، قيل: ثم ماذا؟ قال: "الجهاد في سبيل الله"، قيل: ثم ماذا؟ قال: "حج مبرور" (رواه البخاري ومسلم).

 

وفي الحديث الآخر عن عائشة قالت: قلت يا رسول الله: نرى الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد؟ قال: "لكن أفضل من الجهاد: حج مبرور"، (رواه البخاري ومسلم).

 

هنيئًا لكم أيها الحجاج، فلقد تساقطت ذنوبُكم كما تتساقط الورقةُ اليابسةُ مِنَ الشجرةِ اليابسةِ في يومٍ ريحٍ عاصفٍ، عن أبي هريرةَ -رضيَ الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه"، رواه (البخاري ومسلم).

 

وقال صلى الله عليه وسلم: "الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة" (رواه البخاري ومسلم).

 

أيها الحاج: ينبغي عليك أن تشكرَ اللهَ –تعالى- على هذه النعمةِ العظيمةِ بعد أنْ منحكَ اللهُ إياها ووفَّقَك لأدائها، قال تعالى: (فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) [البقرة: 200]، وقال تعالى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم: 7].

 

قال علي بن أبي طالب -رضيَ الله عنه-: "إنَّ النعمةَ موصولةٌ بالشكرِ، وإنَّ الشكرَ مُتعلقٌ بالمزيدِ، وهما مقرونانِ بهما، ولا ينقطعُ المزيدُ مِنَ اللهِ حتى ينقطعَ الشكرُ مِنَ العبدِ".

 

عَنْ مُعَاذٍ، قَالَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ بِيَدِي يَوْمًا، ثُمَّ قَالَ: "يَا مُعَاذُ، وَاللَّهِ إِنِّي لأُحِبُّكَ"، فَقَالَ لَهُ مُعَاذٌ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَأَنَا وَاللَّهِ أُحِبُّكَ، فَقَالَ: " أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ، لا تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاةٍ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ" (رواه أبو داود).

 

أيها الحاج: إياك والعجبَ في طاعتك، فإنَّ العجب مِنَ المهلكاتِ التي تُهلكُ العبدَ في الدنيا والآخرة، قال صلى الله عليه وسلم: "ثلاثةٌ مِنَ المهلكاتِ: إعجابُ المرءِ بنفسهِ، وشحٌ مطاعٌ، وهوى مُتبعٌ". (مسند البزار).

 

أيها الحاج: كن حريصاً على الخوفِ مِنِ عدمِ قبول الطاعةِ، فلقد كان الصحابةُ والسلف من أشدِّ الحرصِ والخوفِ مِنْ عدمٍ قَبولِ الطاعةِ، ولقد وصفهم الله –تعالى- في كتابه فقال -سبحانه-: (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) [المؤمنون: 57 - 61].

 

روى الإمامُ أحمد عَنْ عائشةَ -رضيَ الله عنها- أنها قالت: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) هو الذي يسرقُ ويزني ويشربُ الخمرَ، ويخافُ اللهَ -عزَّ وجلَّ- قال: "لا يا بنتَ الصديقِ، ولكنه الذي يصلي ويصوم ويتصدق، وهو يخافُ اللهَ عزَّ وجلَّ". [تفسير ابن كثير].

 

وعن علي -رضيَ الله عنه- قال: "كونوا لِقبولِ العملِ أشدّ اهتماماً منكم بالعمل، ألم تسمعوا قول الله -عزَّ وجلَّ- (إنَّما يَتقبلُ اللهُ مِنَ المتقين). [لطائف المعارف لابن رجب].

 

ويقول علي -رضيَ الله عنه-: "لو علمتُ أنَّ الله –تعالى- تقبَّلَ مني حسنةً واحدةً لاتكأتُ عليها".

 

فلا تغتر أيها الحاج بكثرةِ الطاعةِ؛ فإنَّ اللهَ لا يَقبلُ إلّا ما كانَ خالصاً لِوجههِ الكريمِ.

 

أيها الحاج: يا مَنْ أذرفتَ الدموعَ على عرفات! يا من أنفقتَ مالَك ووقتَك للجنةِ طلباً للرحماتِ! حافظ على حجك وعملك!، ولا تجعله يذهب سُدًى فتهدمَ ما بنيتَ.

حافظْ عليه بدوامِ الطاعةِ واجتنابِ معاصيه.

 

عباد الله: إنَّ الحجَّ الذي يقبله الله –تعالى- من العبدِ له علاماتٌ، ومِنْ ذلك انشراحُ الصدرِ، وسرورٌ في القلبِ، ونورٌ في الوجهِ، وأنَّ صاحبَهُ مستمرٌ بالطاعةِ، وأحبّ الأعمالِ إلى اللهِ أدومُها، وإن قل، كما أخبر النبي -صلى الله صلى الله عليه وسلم- بذلك.

 

ولقد نهانا الله تعالى عَنْ انقطاعِ العملِ فقال: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا) [النحل: 92]، وهذا مثل لامرأة بمكةَ كانت تخيطُ الثوبَ حتى إذا قاربت الانتهاء، فكّت ذلك المخيط، فذهب جهدها هباءً منثوراً، فكذلك الذي يحج ويتعب ويسافر ثم يعود إلى الذنوب؛ فمثلُه كمثلِ المرأةِ في مكةَ ذهب جهدُها هباءً منثوراً.

 

وإن للمداومة على الطاعة آثاراً عظيمة؛ من ذلك: اتصال القلب بالله. وترويض النفس على طاعة الله، وهي سبب لنيل محبة الله وولايته. وفي صحيح البخاري: "وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها".

 

ومن آثار  المداومة على الطاعة أيضًا: النجاة من الشدائد، فقد روى أحمد من حديث ابن عباس –رضي الله عنهما- قال: قال -صلى الله عليه وسلم-: "احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة".

 

والمداومة على الطاعة سبب لمحو الخطايا: ففي الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة مرفوعاً: "أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم ثلاث مرات هل يبقى من درنه شيء؟" قالوا: لا يبقى من درنه شيء، قال: "فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا".

 

ومن آثار المداومة على الطاعة: حسن الخاتمة، قال –تعالى-: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ) [إبراهيم: 27].

 

وهنا قد يسأل سائل ويقول: ما الأسباب التي تعين على المداومة والاستمرار في العمل؟

وأقول: الأسباب كثيرة، من ذلك:

 

العزيمة الصادقة على طاعة الله، وكذلك القصد في العمل بمعنى التوسط، فلا إفراط ولا تفريط، وفي الحديث الذي في الصحيحين: "خذوا من الأعمال ما تطيقون؛ فإن الله لا يمل حتى تملوا".

 

وكذلك من الأسباب: مجالسة أهل الخير والصلاح؛ فإنهم ينبّهون الغافل، ويذكّرون الناسي، وفي الحديث الذي رواه أحمد: "المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل".

 

ومن الأسباب العظيمة: محاسبة النفس دائماً على التقصير في جنب الله، وقراءة سير السلف من الصحابة والتابعين في ذلك؛ فإن ذلك من أعظم الأسباب المعينة على طاعة الله –تعالى-.

 

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

عباد الله: إنَّ السعادةَ في الدارينِ الامتثالُ لأوامر اللهِ –تعالى- ورسولِهِ قال تعالى: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 71].

 

وإنّ التعاسةَ والشقاءَ بمخالفةِ أوامرِ اللهِ –تعالى- ورسولِهِ، قال تعالى: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النور: 63].

 

ما أجملَ أن يعودَ الحاجُ إلى أهلهِ ووطنهِ بالخُلقِ الأكملِ والعقلِ الأرزنِ، والوقارِ الأرصنِ والشيمِ المرضيةِ، والسجايا الكريمةِ، فمن عاد بتلك الصفات فقد استفاد مِنَ الحجّ ودروسهِ وأسرارهِ، فالغايةُ مِنَ الحج هيَ تقوى الله تعالى.

 

وسُئلّ الحسنُ البصري ما الحجّ المبرورُ؟ قال: "أن ترجعَ زاهداً في الدنيا راغباً في الآخرةِ".

 

أخيراً -أيها المسلمون- لقد أنزلَ الله على نبيه -صلى الله عليه وسلم- سورةَ النصرِ في آخرِ حياتهِ، وفيها الأمرُ بالاستغفار.. قال أهل العلم: يُشرعُ الاستغفارُ بعد نهايةِ كلّ عملٍ؛ لعلَّ الواحدَ منا يكونُ قصَّرَ في أدائهِ.

 

وصلى الله وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وسلَّم

 

 

 

 

المرفقات

بعد الحج؟3

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات