اقتباس
أهم أمر حدث في تفاصيل أيام هذا المؤتمر وكانت الثلاثة ـ والعجيب أن مؤتمر الشيشان كان ثلاثة أيام -أيضا- أن شيخ الاسلام ابن تيمية رفض ضغوط الأشاعرة والصوفية في انتزاع اعترافه بأن عقيدته أو عقيدة الإمام أحمد بن حنبل فقط، فلقد فطن الشيخ -رحمه الله- للمكيدة والاستدراج، فقال لهم عندما سألوه عن عقيدته: " "أما الاعتقاد فلا يؤخذ عني ولا عمن هو أكبر مني بل يؤخذ عن الله ورسوله وما أجمع عليه سلف الأمة..
بينما كانت «داريا» السورية المحاصرة منذ عام 2012، تفرغ من سكانها المسلمين السنة، عُقد في عاصمة الشيشان «غروزني» مؤتمر عنون بـ«مؤتمر أهل السنة والجماعة»، لوضع تعريف من «هم أهل السنة والجماعة» أو لتصويب الانحراف الحاد والخطر» في هذا التعريف، كما قال القائمون على المؤتمر.
حصر المؤتمرون ـ أو بالأحرى المتآمرون أهل السنة والجماعة في «الأشاعرة والماتريدية في الاعتقاد، وأهل المذاهب الأربعة في الفقه، وأهل التصوف الصافي علمًا وأخلاقًا وتزكيةً»، ليعني ذلك إخراج كل من خالفهم من دائرة السنة والجماعة، كما قرروا أن الشيعة بشتى طوائفها من الأمة، مع ما بين الشيعة وأهل السنة من الاختلاف العقدي والفقهي، وأن الاتجاه السلفي في العقيدة ـ وهو في ميزان كل عاقل أصوب من مذهب الأشاعرة والماتريدية ـ لا يمثل أهل السنة والجماعة، وهو الهدف الذي أقيم من أجله المؤتمر، برعاية الرئيس الشيشاني الموالي للروس رمضان قاديروف، وروسيا، وإيران، وبحضور مفتي مصر السابق واللاحق، ومفتي سوريا السابق واللاحق، وثُلة من مشايخ الأزهر.
ولسنا في حاجة للتدليل على خليفات المؤتمر وأبعاده وأهدافه الحقيقية، وأنه مؤتمر سياسي بامتياز، المقصود الرئيسي منه حصار التيار السلفي المتمدد بقوة في كل ربوع الأرض، ومناكفة المملكة العربية السعودية التي تعتبر النظام السياسي المتبني للعقيدة السلفية، لذلك لم يكن مستغرباً أن يكون المؤتمر برعاية روسيا وإيران وكلاهما من أكبر الدول الراعية للإرهاب والداعمة له، وأكثر الدول اضطهادا ومعاداة لأهل السنّة والجماعة في المنطقة.
وربما الذي لا يعلمه كثير من المسلمين أن أمثال هذه المؤتمرات ليست بأسلوب جديد من عند أعداء الأمة، فلعبة الاستقواء القوة السياسية، والاستظهار بالبطش السلطوي لمحاربة العقيدة السلفية ليست جديدة، بل قديمة قدم بداية الصراع بين الأشاعرة وعموم المسلمين من أهل السنّة والجماعة. وبين أيدينا مؤتمر وقع في أوائل القرن الثامن الهجري شديد الشبه بمؤتمر جروزني، فقط مع اختلاف الأسماء والأماكن. وهو مؤتمر الأشاعرة والصوفية في دمشق سنة 705 هـ لمحاكمة شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ رأس السلفية وقتها وأكثر عالم في تاريخ المسلمين تعرض للاضطهاد من الأشاعرة وأشباههم من أتباع الفرق والطوائف الذين كان شيخ الإسلام ابن تيمية لهم بالمرصاد. فالقصة جديدة قديمة، والصراع كان ومازال، ومعاول الهدم لم تعرف الكلل ولا الملل حتى اليوم.
بداية الصراع العقدي
ـ لقد احتلت العقائد وما جرى فيها من خلاف بين أهل السنة السائرين على نهج السلف الصالح وبين أهل البدع والضلال من المعطلة والجهمية والمعتزلة والمأولة، والذين كانوا في صدر حياة هذه الأمة وفي قرونها الثلاثة الفاضلة مقهورين منقمعين، حتى وقعت محنة الإمام أحمد وفتنة خلق القرآن، عندما أصبح للبدعة دولة أيام المأمون والمعتصم والواثق العباسيين وبعدها أصبحت سنة ماضية وعادة جارية، أن يستطيل أهل البدعة والضلالة في باب العقائد على أهل السنة، بقوة السلطان، فتقع المحنة تلو الأخرى والفتنة كل يوم تستعر وتزيد ويروح ضحيتها العديد من علماء الأمة الربانيين، وكان معظم هؤلاء العلماء من أتباع الإمام أحمد بن حنبل الذين تمسكوا بعقيدة السلف الصالح عقيدة أهل السنة والجماعة خاصة في باب الصفات وتعرضوا لصنوف البلاء والإيذاء من أتباع المذاهب المخالفة لأهل السنة، فصبروا عليها وضربوا أروع الأمثلة في الثبات حتى الممات، ونسجوا على منوالهم إمامهم فصبروا وصابروا ورابطوا حتى أتاهم اليقين، ومن هؤلاء الأئمة العظام شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- ـ
ـ والأشعري الذي ينتسب إليه معظم المؤتمرون في الشيشان والذين خرجوا بتوصياتهم الصادمة وتعريفاتهم الجائرة الاقصائية لأهل السنة، الأشعري كان له ثلاثة أحوال: في بداية حياته وكان فيه اعتزاليًا من تلاميذ أبي علي الجبائي ـ وكان زوج أمه ـ، غارقًا في بدع المعتزلة من تعطيل وتأويل. أما المرحلة الثانية وفيها تاب من الاعتزال وتفرغ للرد عليهم ولكن بأسلوبهم البدعي وطريقتهم الكلامية فأدى ذلك به لآراء وأقوال خالف بها عقيدة السلف الصالح ووقع في مزالق التأويل والتعطيل واخترع مذهبًا جديدًا عرف باسمه، وعقيدة عرفت باسم العقيدة الأشعرية، جاءت خليطًا من الاعتزال والإرجاء والتجهم وسائر الفرق المبتدعة في العقيدة، وقليل من عقيدة السلف الصالح. وأما المرحلة الثالثة والأخيرة من حياته فعاد فيها لعقيدة أهل السنة والجماعة وسار على نهج السلف الصالح وكتب رسالته الشهيرة "الإبانة".
والعجيب أن أتباع الأشعري تمسكوا بما كان عليه في المرحلة الثانية من حياته، وأصروا على المخالفات والبدع والتعطيل الذي وقع فيها الأشعري واتبعوا الأصول التي وضعها الأشعري في عقيدته والتي تقدم على التأويل والتعطيل والإرجاء والتي خالفوا بها عقيدة أهل السنة والجماعة في كل أبوابها وفصولها تقريبًا وظلت طريقة الأشعري مهجورة متروكة، يحذر منها أهل العلم وينهى عنها أرباب السلوك، بل وصل الأمر لئن يأمر بلعنها على المنابر بأمر من الملوك والسلاطين، مثلما حدث أيام السلطان طغرلبك السلجوقي سنة 433هـ، وظلت هذه العقيدة من جملة الفرق المبتدعة حتى أواخر القرن الخامس الهجري وتحديدًا أيام الوزير السلجوقي الشهير ـ نظام الملك [ت 485هـ] ـ والذي احتضن أتباع الأشعري وفتح لهم المدارس في بغداد وأرجاء العراق بتأثير من أبي حامد الغزالي صاحب الإحياء، وكان نظام الملك يحبه ويعتقد فيه. وبدأ المذهب الأشعري ينتشر في العراق والشام، وقبل ذلك كان بعض علماء الأشاعرة مثل الباقلاني والجويني وابن فورك والاسفراييني والقشيري قد عملوا على الترويج للعقيدة بقوة.
ـ بعض علماء الأشاعرة مثل القشيري ساهم في إشعال حرب كلامية ضروس مع الحنابلة الذين كانوا يمثلون عقيدة السلف وأهل السنة، وكما فعلت المعتزلة من قبل مع الحنابلة استعدى الأشاعرة السلطة الحاكمة على الحنابلة، ورموهم بالتجسيم والتشبيه والكفر، وبالغ الأشاعرة في أذية الحنابلة وفعلوا معهم ما لم يفعله مسلم بكافر ناهيك عن مسلم مثله وصاحب عقيدة صحيحة، وتعرض علماء الحنابلة وبالأخص علماء الحديث منهم لحملة شعواء من جانب الأشاعرة، وطاردوهم في كل مكان وأشاعوا عليهم الأباطيل والأكاذيب حتى نفر كثير من الناس عنهم ولعل هذا يفسر قلة شيوع المذهب الحنبلي في العالم الإسلامي الآن، فهذا موروث قديم تسبب فيه الأشاعرة منذ أزمان بعيدة.
ابن تيمية والصوفية والأشاعرة:
ـ لقد تجلت في شيخ الإسلام ابن تيمية آيات النبوغ العلمي منذ صغره، فكان آية في المناظرة والاستدلال والتفسير والإفتاء والتدريس، ولقد كان قلمه ولسانه فرسي رهان في التعبير عن إبداعات عقله الكبير، وقد جعل جل همه في التفكير في النهوض بأمته وكيفية الخروج من حالة التردي التي أصابتها، حتى وضع يده على مواطن الداء وأسباب الخلل، فراح بكل ما أوتي من حجة وبيان يدك معاقل الخرافة وحصون الباطل وقلاع التعصب والجمود، وأخذ في صياغة مشروعه التجديدي العظيم لنهضة الأمة وإعادة البريق والصفاء لتميز الوسطية الإسلامية الجامعة، وعمل على عدة جبهات، وحارب في مختلف الساحات، من أجل لحمة الأمة مرة أخرى على منهاج النبوة الصافية، وطرد ونفي كل دخيل تسرب لحياة المسلمين من أفكار الفلسفة اليونانية والمطالب العلية، وما اشتمل عليه من خصال عظيمة سخرها ابن تيمية لتحقيق حلمه الكبير، تعرض ابن تيمية لمحن متتالية مع سدنة القبور وحراس الخرافة وأهل التقليد وأتباع التعصب المذهبي، فكفَّره أهل الجهل وبغى عليه الحسدة والظلمة وهو صابر لا يتزعزع ولا يهادن ولا يداهن، وذلك لشدة اقتناعه بما يعتقد ويعمل له، فابن تيمية كان من أعظم أئمة السلفية، لا يقول في شيء بهواه أو بالتشهي، ولكن يعمل بما دل عليه النقل الصحيح والعقل الصريح، فلقد كان ابن تيمية وقافًا عند كتاب الله وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، لذلك قال عنه الحافظ ابن حجر: (المسائل التي أنكرت عليه ما كان يقولها بالتشهي).وقال الحافظ البزار: "ابن تيمية ليس له مصنف ولا نص في مسألة ولا فتوى إلا وقد اختار فيه ما رجَّحه الدليل النقلي والعقلي على غيره، وتحرى قول الحق المحض، فبرهن عليه بالبراهين القاطعة الواضحة، وتراه في جميع مؤلفاته إذا صحَّ الحديث عنده يأخذ به ويعمل بمقتضاه، ويقدمه على قول كل قائل من عالم ومجتهد".
ـ ولما كان ابن تيمية مجودًا مصلحًا داعيًا للعودة على منابع الدين الأولى وإلى مصدريه المعصومين ـ الكتاب والسنة ـ فقد كان من الطبيعي جدًا أن ينتقد الأشاعرة وعقيدتهم المحدثة بعد القرون الثلاثة الفاضلة خاصة وأن العقيدة الأشعرية تأثرت بشدة بالعلوم المنطقية اليونانية وأرباب الكلام من أتباع المذاهب الضالة مثل المعتزلة والفلاسفة وغيرهم، فانبرى ابن تيمية كواحد من أعظم الناقدين والناقضين للفكر الفلسفي والمنطقي اليوناني الذي تسرب إلى كثير من مناحي الفكر الإسلامي وأثر على عقيدة الأمة، وألف في ذلك الرد والنقد الكثير من المؤلفات العظيمة النافعة، ولقد كان قلمه ولسانه فرسي الرهان في التعبير عن إبداعات عقله الكبير، ولم يقو الأشاعرة على منازلته في ميدان الحجة والبرهان، فلجئوا إلى حد السلطان واستعداء الدولة عليه، كما هو الحال مع حجة العاجز والمفلس؛ يبحث عمن ينصره من القوة والسلطة. ففي سنة 698هـ ثار الأشاعرة على ابن تيمية بسبب تأليفه لرسالته الشهيرة بالحموية ويتكلم فيها عن عقيدة أهل السنة في الأسماء والصفات، وحاولوا استعداء أمير دمشق عليه، ولكن الأمير كان حسن الظن بابن تيمية مقدراً لعلمه ومنزلته، فلم يسمع لهذه الوشايات وخاب سعي مسعري الفتن وقتها.
مؤتمر دمشق:
ـ في سنة 705هـ اشتكت الصوفية الرفاعية إلى أمير دمشق الملقب بابن "الأفرم " من شيخ الإسلام ابن تيمية لكثرة إنكاره عليهم، وقد أحضر الشيخ لقصر الأمير، وطلب ذلك منه، ولكنه رفض بشدة وقال بكل عزة العالم: "هذا ما يمكن، ولابد لكل أحد أن يدخل تحت الكتاب والسنة قولاً وعملاً، ومن خرج عنهما وجب الإنكار عليه"، فأرادت الرفاعية استخدام حيلهم المعروفة من اللعب بالحيات ودخول النيران من أجل إقناع الوالي والحاضرين بصحة أفعالهم، فأبطل شيخ الإسلام هذه الحيل، وخرج من هذه المناظرة منصورًا مظفرًا، وقد ألزمت الصوفية الأحمدية الرفاعية بترك أحوالهم البدعية وكتب محضر بذلك.
ـ اشتعلت قلوب الصوفية والأشاعرة غلاً وحقداً على شيخ الإسلام لظفره عليهم في المرتين، وحاولوا التقول عليه والافتراء عليه، وتصيد الأخطاء له من فتاوايه وآرائه الفقهية والعلمية حتى وجدوا ضالتهم في رسالته المشهور لأهل " واسط " بالعراق يشرح لهم عقيدة السلف في الأسماء والصفات، وهي المشهورة باسم " العقيدة الواسطية " وهي مطبوعة ومتداولة حتى اليوم. وفي سنة 705هـ اجتمع علماء الأشاعرة وفقهاؤهم وقضاتهم عن بكرة أبيهم عند أمير دمشق ومعهم رؤوس الصوفية والقبوريين في الشام ومصر، وطلبوا من ابن تيمية الحضور لمناظرته في كتابه العقيدة الواسطية.
قال ابن كثير في البداية والنهاية عن هذا المؤتمر: " وفي يوم الاثنين ثامن رجب حضر القضاة والعلماء، وفيهم الشيخ تقي الدين بن تيمية عند نائب السلطنة بالقصر، وقرئت عقيدة الشيخ تقي الدين الواسطية، وحصل بحث في أماكن منها، وأخرت مواضع إلى المجلس الثاني. فاجتمعوا يوم الجمعة بعد الصلاة ثاني عشر الشهر المذكور وحضر الشيخ صفي الدين الهندي وكان من رؤوس الأشاعرة والصوفية في نفس الوقت، وتكلم مع الشيخ تقي الدين كلاما كثيرا، ولكن ساقيته لاطمت بحرا ـ وللأسف التعصب يدفع عالماً من وزن السبكي لئن يفتري الكذب في هذه النقطة تحديداً ويقول أن ابن تيمية راغ من الهندي وتهرب من مناظرته، على الرغم من كون المناظرة مدونة وعليها شهود، ولكنه التعصب الذي أعمى بصائر الكثيرين ـ. ثم اصطلحوا على أن يكون الشيخ كمال الدين بن الزملكاني هو الذي يحاققه من غير مسامحة، فتناظرا في ذلك، وشكر الناس من فضائل الشيخ كمال الدين بن الزملكاني وجودة ذهنه وحسن بحثه حيث قاوم ابن تيمية في البحث، وتكلم معه.ثم انفصل الحال على قبول العقيدة، وعاد الشيخ إلى منزله معظما مكرّما، وبلغني أن العامة حملوا له الشمع من باب النصر إلى القصاعين على جاري عادتهم في أمثال هذه الأشياء " انتهى كلامه -رحمه الله-.
ـ أهم أمر حدث في تفاصيل أيام هذا المؤتمر وكانت الثلاثة ـ والعجيب أن مؤتمر الشيشان كان ثلاثة أيام -أيضا- أن شيخ الاسلام ابن تيمية رفض ضغوط الأشاعرة والصوفية في انتزاع اعترافه بأن عقيدته أو عقيدة الإمام أحمد بن حنبل فقط، فلقد فطن الشيخ -رحمه الله- للمكيدة والاستدراج، فقال لهم عندما سألوه عن عقيدته: " "أما الاعتقاد فلا يؤخذ عني ولا عمن هو أكبر مني بل يؤخذ عن الله ورسوله وما أجمع عليه سلف الأمة فما كان في القرآن وجب اعتقاده وكذلك ما ثبت في الأحاديث الصحيحة مثل صحيح البخاري ومسلم". فدحض بذلك حجتهم في نسب العقيدة له أو لإمامه فقط، إذ رد الأمر للنصوص الشرعية مباشرة دون غيرها من آراء الرجال وأقوال الأئمة كما يفعلون هم أنفسهم في عقيدتهم.
ـ فلما باءت المحاولة الأولى بالفشل، انتقلوا للثانية بمحاولة إنهاء المناظرة دون حل. قال شيخ الإسلام: " ولما رأى هذا الحاكم العدل تمالؤهم وتعصُّبهم ورأى قلة المعاون منهم والناصر وخافهم قال: أنتَ قد صنفت اعتقاد الإمام أحمد؛ فنقول: هذا اعتقاد أحمد!".
ويشرح ابن تيمية مقصود السلطان بهذه العبارة وغرضه فيقول: "يعني: والرجل يصنف على مذهبه؛ فلا يعترض عليه؛ فإن هذا مذهب متبوع وغرضه بذلك قطع مخاصمة الخصوم.
ـ تفطّن ابن تيمية لهذا أيضًا فأجاب: "ما جمعتُ إلا عقيدة السلف الصالح جميعهم، ليس للإمام أحمد اختصاص بهذا، والإمام أحمد إنما هو مبلغ العلم الذي جاء به النبي -صلى اله عليه وسلم، ولو قال أحمد من تلقاء نفسه ما لم يجئ به الرسول لم نقبله، وهذه عقيدة محمد -صلى الله عليه وسلم- !. ثم كان التحدي الساحق من ابن تيمية لهؤلاء المتآمرين، فقال لهم: "قد أمهلت كل من خالفني في شيء منها ثلاث سنين؛ فإن جاء بحرف واحد عن القرون الثلاثة التي أثنى عليها النبي -صلى الله عليه وسلم- يخالف ما ذكرته فأنا أرجع عن ذلك" وباءت المحاولة الثانية بالفشل.
نتائج مؤتمر دمشق:
ـ لم يكن انتصار ابن تيمية في هذه المناظرات، نهاية لهذا المؤتمر المشبوه، بل كان بداية المحنة لابن تيمية ولأهل السنّة المتمسكين بعقيدة السلف. حيث عمد المنهزمون في ميدان البحث والمناظرة والحجة إلى الفوضى والشغب والإرهاب، فلقد وقع بدمشق خبط كثير وتشويش بسبب غيبة نائب السلطنة، وطلب القاضي الشافعي ابن صصرى الأشعري جماعة من أصحاب الشيخ وعزر بعضهم، ثم اتفق أن الشيخ جمال الدين المزي الحافظ قرأ فصلا بالرد على الجهمية من كتاب " أفعال العباد " للبخاري تحت قبة النسر بعد قراءة ميعاد البخاري بسبب الاستسقاء. فغضب بعض الفقهاء الأشاعرة الحاضرين وشكاه إلى القاضي الشافعي ابن صصرى، وكان عدو الشيخ فسجن المزي، فبلغ الشيخ تقي الدين فتألم لذلك وذهب إلى السجن فأخرجه منه بنفسه، وراح إلى القصر فوجد القاضي هنالك، فتقاولا بسبب الشيخ جمال الدين المزي، فحلف ابن صصرى لا بد أن يعيده إلى السجن وإلا عزل نفسه، فأمر النائب بإعادته تطييبا لقلب القاضي فحبسه عنده في القوصية أياما ثم أطلقه. ولما قدم نائب السلطنة ذكر له الشيخ تقي الدين ما جرى في حقه وحق أصحابه في غيبته، فتألم النائب لذلك ونادى في البلد أن لا يتكلم أحد في العقائد، ومن عاد إلى تلك حل ماله ودمه، وأخذت داره وحانوته، فسكنت الأمور.
ـ لجأ الأشاعرة لتأليب السلطان المملوكي نفسه، بعد أن فشل سعيهم عند أمير دمشق ابن الأفرم الذي رأي من علم ابن تيمية وعقله وحجته ما قطع به شبهات خصومه. وبالفعل نجح الأشاعرة والصوفية في مسعاهم الخبيث، وجاء البريد باستدعائه هو وخصمه ابن صصرى إلى القاهرة، فخرج مع الشيخ خلق من أصحابه وبكوا وخافوا عليه من أعدائه، وأشار عليه نائب السلطنة ابن الأفرم بترك الذهاب إلى مصر، وقال له: أنا أكاتب السلطان في ذلك، وأصلح القضايا. فامتنع الشيخ من ذلك، وذكر له أن في توجهه لمصر مصلحة كبيرة، ومصالح كثيرة. فلما توجه لمصر ازدحم الناس لوداعه ورؤيته حتى انتشروا من باب داره إلى قرب الجسورة، فيما بين دمشق والكسوة، وهم فيما بين باكٍ وحزين، ومتفرج ومتنزه، ومزاحم متغال فيه.
ـ وفي القاهرة، عقد للشيخ مجلس بالقلعة اجتمع فيه القضاة وأكابر الدولة، وأراد أن يتكلم على عادته فلم يتمكن من البحث والكلام، وافترى عليه صوفي محترق اسمه الشمس ابن عدنان وادعى عليه عند قاضي القضاة ابن مخلوف المالكي أنه يقول: إن الله فوق العرش حقيقة، وأن الله يتكلم بحرف وصوت فسأله القاضي جوابه فأخذ الشيخ في حمد الله والثناء عليه، فقيل له: أجب، ما جئنا بك لتخطب. فقال: ومن الحاكم في؟ فقيل له: القاضي المالكي. فقال له الشيخ: كيف تحكم في وأنت خصمي؟ فغضب ابن مخلوف غضبا شديدا، وانزعج وأقيم مرسما عليه وحبس في برج أياما، ثم نقل منه ليلة العيد إلى الحبس المعروف بالجب، هو وأخوه شرف الدين عبد الله وزين الدين عبد الرحمن. واتضح الهدف الحقيقي من إحضاره إلى مصر، وهو سجنه وتغييبه في السجون حتى لا يواصل سعيه في نشر العقيدة الصحيحة.
وأما ابن صصرى فإنه جدد له توقيع بالقضاء بإشارة شيخ الصوفية نصر المنبجي شيخ السلطان المملوكي بيبرس الجاشنكير حاكم مصر، وعاد إلى دمشق يوم الجمعة سادس ذي القعدة والقلوب له ماقتة والنفوس منه نافرة، وقرئ تقليده بالجامع وبعده قرئ كتاب فيه الحط على الشيخ تقي الدين ومخالفته في العقيدة، وأن ينادى بذلك في البلاد الشامية، وألزم أهل مذهبه بمخالفته، وكذلك وقع بمصر. قام عليه جاشنكير وشيخه نصر المنبجي، وساعدهم جماعة كثيرة من الفقهاء والفقراء، وجرت فتن كثيرة منتشرة، نعوذ بالله من الفتن، وحصل للحنابلة بالديار المصرية إهانة عظيمة كثيرة، وذلك أن قاضيهم كان قليل العلم مزجى البضاعة، وهو شرف الدين الحراني، فلذلك نال أصحابهم ما نالهم، وصارت حالهم بائسة.
انتهى المؤتمر، ولم تنته المؤامرة. فما أشبه الليلة بالبارحة.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم