ليلة الرضا

الشيخ شايع بن محمد الغبيشي

2023-12-15 - 1445/06/02 2023-12-25 - 1445/06/12
عناصر الخطبة
1/شفقة النبي ورحمته بأمته 2/فرح المؤمن بأنه من أمة محمد 3/من دعاء النبي لأمته 4/واجبنا تجاه النبي 5/الاعتزاز بالانتساب لأمة محمد

اقتباس

حديثنا اليوم عن ليلةٍ عجيبةٍ في كل أطوارها، مؤثرةٍ في أحداثها، مفرحةٍ في نهايتها، جمعت بن الدعاء والبكاء والبشارة والسناء، وجمعت بين الضراعة واللجأ والرحمة والوفاء، وجمعت بين الخوف والوجل والأمل والرجاء، وجمعت بين الحاضر والمستقبل...

الخُطْبَةُ الأُولَى:

 

إنّ الحمدَ لله، نَحْمَدُهُ ونستعينُهُ ونستغفرُه، ونعوذ بالله من شرور أنفسينا وسيئات أعمالنا، من يهدِ اللهُ فلا مضل له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبدُهُ ورسُولُهُ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسَلَّمَ تسليمًا كثيرًا.

 

أما بعدُ: فاتقوا الله عبادَ الله حق التقوى؛ (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].

 

إخوة الإيمان: حديثنا اليوم عن ليلةٍ عجيبةٍ في كل أطوارها، مؤثرةٍ في أحداثها، مفرحةٍ في نهايتها، جمعت بن الدعاء والبكاء والبشارة والسناء، وجمعت بين الضراعة واللجأ والرحمة والوفاء، وجمعت بين الخوف والوجل والأمل والرجاء، وجمعت بين الحاضر والمستقبل، وحوارات الأرض وحوارات السماء؛ إنها ليلة الرضا، وما أدراكم ما ليلة الرضا؟!.

 

حُقَ لكل مسلم من أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- أن يفرح ويغتبط بها، ولا تُنسى ولا تُمسح من ذاكرته، ليلةٌ لابد أن نحب صاحبها من كل قلوبنا، ونطيع أمره ونشتاق للقياه، هذا عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- يروي لنا تفاصيل هذه الليلة فيخبرنا: "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-: تَلَا قَوْلَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ - فِي إِبْرَاهِيمَ: (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[إبراهيم: 36]، وَقَالَ عِيسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)[المائدة: 118]، فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ: "اللهُمَّ أُمَّتِي أُمَّتِي"، وَبَكَى، فَقَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: "يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ -وَرَبُّكَ أَعْلَمُ- فَسَلْهُ مَا يُبْكِيكَ؟"، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- فَسَأَلَهُ، فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- بِمَا قَالَ، وَهُوَ أَعْلَمُ، فَقَالَ اللهُ: "يَا جِبْرِيلُ، اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ، فَقُلْ: إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِي أُمَّتِكَ وَلَا نَسُوءُكَ"(رواه مسلم).

 

وفي خبر هذه الليلة دروس وهدايات منها:

أولاً: ما كان عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- من الضراعة لربه ودعائه وإطالة القيام بين يديه -سبحانه-، بخشية وخضوع وحب وطمع في عظيم فضله وجميل هباته، وهو درس لنا في الإقبال على ربنا، وأن نجعل لنا من الليل نصيباً من الصلة بالله -عز وجل-، ودعائه والضراعة إليه -جل وعلا-؛ تأسياً بخير البشر -عليه الصلاة والسلام-.

 

ثانياً: عناية الله بنبيه -صلى الله عليه وسلم- وحفاوته به، يسمع ضراعته ويرسل جبريل -عليه السلام- إليه؛ ليطمئنه ويبشره، ويعطيه سؤله: (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى)[الضحى: 5]، ويزيل عنه ما أخافه وأهمه.

 

ثالثاً: حب النبي -صلى الله عليه وسلم- لأمته، وشفقته عليها، وحرصه على نجاتها، فقد وصفه الله -تعالى- بالحرص على أمته والرأفة والرحمة بها فقال: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)[التوبة: 128]، وتأملو قوله هنا: "فرفع يديه وقال: اللهم أمتي أمتي، وبكى"، لما البكاء يا رسول الله؟ لله قلبك ما أعظمه! ولله شفقتك ما أجلها! حُق لإمة محمد الفرحة والغبطة والسرور، كيف لا؟! ومحمد -صلى الله عليه وسلم- يسهر ليله يسح الدمع ويجهش بالبكاء، لا لشيء إلا لنجاتها.

 

يا رب، ارزقنا حب محمد -صلى الله عليه وسلم-، وحب ما يحبه وحب سنته وهديه، يا رب، اجعلنا ممن يرد حوضه ويشرب منه، يا رب، اجعلنا ممن يعبر الصراط معه ويحشر في زمرته، يا رب، أكرمنا برؤيته والجلوس معه يا حي يا قيوم.

 

تأملوا هذا الخبر، عن عائشة أنها قالت: لما رأيت من النبي -صلى الله عليه وسلم- طيب نفس، قلت: يا رسول الله، ادع الله لي، فقال: "اللهم اغفر لعائشة ما تقدم من ذنبها وما تأخر، ما أسرت وما أعلنت"، فضحكت عائشة حتى سقط رأسها في حجرها من الضحك، قال لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أيسرك دعائي؟"، فقالت: وما لي لا يسرني دعاؤك، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "والله إنها لدعائي لأمتي في كل صلاة"(رواه ابن حبان بسند صحيح).

 

يا الله! في كل صلاة محمد يدعو لأمته بالمغفرة، صدق الله في وصفه: (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)[التوبة: 128]، وفي حديث الشفاعة بعد أن يسجد بين يدي ربه يقول الله له: "يا محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعط، واشفع تشفع، فأقول: يا رب، أمتي أمتي، فيقول: انطلق فأخرج منها من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان، فأنطلق فأفعل، ثم أعود، فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجدا، فيقال: يا محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعط، واشفع تشفع، فأقول: يا رب، أمتي أمتي، فيقول: انطلق فأخرج منها من كان في قلبه مثقال ذرة -أو خردلة- من إيمان فأخرجه، فأنطلق فأفعل، ثم أعود فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجدا، فيقول: يا محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعط، واشفع تشفع، فأقول: يا رب أمتي أمتي، فيقول: انطلق فأخرج من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال حبة خردل من إيمان، فأخرجه من النار، فأنطلق فأفعل"(رواه البخاري).

 

فتأملوا هذا الحرص من حبيبنا -صلى الله عليه وسلم- على إخراج كل من يستطيع من أمته من النار، فصلوات ربي وسلامه ما أرحمه وأعظم شفقته ورأفته بأمته!، وإنما يفوز بذلك من أمته من حقق التوحيد، وحافظ على الصلاة، وابتعد عن كل أسباب الكفر، أجارنا الله وإياكم منها، وأحب محمد -صلى الله عليه وسلم- وهديه وسنته.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَن لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا، أما بعد:

 

عباد الله ومن هدايات الخبر السابق:

رابعاً: البشارة العظيمة لهذه الأمة من الله -تعالى- بقوله -جل وعلا-: "إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِي أُمَّتِكَ وَلاَ نَسُوءُكَ"، يا الله ما أعظمها من بشارة! إنها أمة الرضا، اللهم اجعلنا ممن أرضيت به نبيك -صلى الله عليه وسلم- بمنك وكرمك يا حي يا قيوم فأوجبت له النجاة من النار والفوز بالجنة.

 

خامساً: إدارك أن الموقف يوم القيامة عصيب عصيب؛ ولذلك خافه النبي -صلى الله عليه وسلم- على أمته وأتباعه، فعن أبي هريرة: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أول من يدعى يوم القيامة آدم، فتراءى ذريته، فيقال: هذا أبوكم آدم، فيقول: لبيك وسعديك، فيقول: أخرج بعث جهنم من ذريتك، فيقول: يا رب كم أخرج؟ فيقول: أخرج من كل مائة تسعة وتسعين"، فقالوا: يا رسول الله، إذا أخذ منا من كل مائة تسعة وتسعون، فماذا يبقى منا؟! قال: "إن أمتي في الأمم كالشعرة البيضاء في الثور الأسود"(رواه البخاري).

 

سادساً: الاعتزاز والافتخار بأمة الإسلام، وحمد الله والثناء عليه أن جعلنا مسلمين وجعلنا من أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ فإنها من أجل النعم والمنن، خَرَجَ مُعَاوِيَةُ علَى حَلْقَةٍ في المَسْجِدِ، فَقالَ: ما أَجْلَسَكُمْ؟ قالوا: جَلَسْنَا نَذْكُرُ اللَّهَ، قالَ آللَّهِ ما أَجْلَسَكُمْ إلَّا ذَاكَ؟ قالوا: وَاللَّهِ ما أَجْلَسَنَا إلَّا ذَاكَ، قالَ: أَما إنِّي لَمْ أَسْتَحْلِفْكُمْ تُهْمَةً لَكُمْ، وَما كانَ أَحَدٌ بمَنْزِلَتي مِن رَسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أَقَلَّ عنْه حَدِيثًا مِنِّي، وإنَّ رَسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- خَرَجَ علَى حَلْقَةٍ مِن أَصْحَابِهِ، فَقالَ: "ما أَجْلَسَكُمْ؟"، قالوا: جَلَسْنَا نَذْكُرُ اللَّهَ وَنَحْمَدُهُ علَى ما هَدَانَا لِلإِسْلَامِ، وَمَنَّ به عَلَيْنَا، قالَ: "آللَّهِ ما أَجْلَسَكُمْ إلَّا ذَاكَ؟"، قالوا: وَاللَّهِ ما أَجْلَسَنَا إلَّا ذَاكَ، قالَ: "أَما إنِّي لَمْ أَسْتَحْلِفْكُمْ تُهْمَةً لَكُمْ، وَلَكِنَّهُ أَتَانِي جِبْرِيلُ فأخْبَرَنِي: أنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يُبَاهِي بكُمُ المَلَائِكَةَ"(رواه مسلم).

 

علينا أن نعتز بانتسابنا لأمة الإسلام أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، إنها أمة الرضا وأمة الخيرية؛ (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)[آل عمران: 110].

 

علينا أن نحمد الله على أن جعلنا من أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، وعلينا أن نحبه ونحب سنته وهديه، ونعتز بانتسابنا لهذا الدين العظيم، اللهم اجعلنا ممن رضي بك رباً وبالإسلام ديناً بمحمد -صلى الله عليه وسلم- رسولاً.

 

ومما زادني شرفاً وتيها *** وكدت بأخمصي أطأ الثريا

دخولي تحت قولك يا عبادي *** وأن صيّرت أحمد لي نبيا

 

ما نصيب سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- من حياتنا؟ هل قرأنا سيرته؟ ما هي آخر مرة قرأنا عنه أو سمعنا شيئاً من سيرته؟ هل عرفنا هديه؟ هل نحن نتشبه به في جميع شؤوننا؟.

 

ألق نظرة على حياتك اليومية على مظهرك وسلوكك وأخلاقك وتعاملك، لباسك وشعرك وهندامك، هل تشعر بالفخر بالانتساب إليه؟ هذا نبيك يحبك، يسهر لأجلك، يدعو ويبكي من أجلك، فماذا فعلت من أجله؟ هل بشرت الدنيا بنبي الرحمة؟ هل نشرت سنته ودافعت عنها، هل عرفت به وسيرته؟.

 

قف واسأل نفسك هذا السؤال: مع من تريد أن تكون يوم القيامة؟ أعد السؤال مرة أخرى، حتماً ستقول: أريد أن أكون مع رسول الله، إذاً بشراك بشراك، فتش فقط في قلبك فإن كان يستولي عليه حب محمد -صلى الله عليه وسلم- فستكون معه فقد بشرك بقوله: "المرء مع من أحب"، وفتش عن دليل ذلك، فتش عن هديه في ليلك ونهارك، في سلوكك وأخلاقك، في اقتدائك وتأسيك، ستجد الإجابة واضحة جلية.

 

 

المرفقات

ليلة الرضا.doc

ليلة الرضا.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات