عناصر الخطبة
1/سنة ربانية في ابتلاء العباد واختبارهم 2/خطورة سهولة الوصول إلى المعاصي 3/سهولة الذنوب ابتلاء ليعلم الله من يخافه بالغيب 4/التحذير من ذنوب الخلوات 5/كيفية التخلص من ذنوب الخلوات 6/ ذنوب الخلوات سبيل الانتكاسات 7/عبادة الخلوات سبب للثباتاقتباس
من عواصم ذنوب الخلوات وسيئات الغفلات: المداومة على الطاعة.. والحرص على العبادات السرية، والطاعات الخفية، كصلاة الليل وصدقة الخفاء، والإحسان الخفي ليتيم أو محتاج، وقد قيل: ذنوب الخلوات سبيل الانتكاسات، وعبادة الخلوات سبب للثبات.
الخُطْبَةُ الأُولَى:
عباد الله: سُنة الله -تعالى- الباقية، وعادته -سبحانه- الجارية، ابتلاءُ العباد واختبارهم؛ ليميز الصادق من الكاذب، والمؤمن من المنافق: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ)[العنكبوت: 2]، وإن من أعظم الابتلاء وأشده خطورة، سهولةَ الوصول إلى المعصية، ويسر ارتكاب الموبقة، وقرب الذنب من العبد، وقد قيل: إن من العصمة أن لا تجد.
عباد الله: في زمن الحديبية، وحال معاهدة النبي -صلى الله عليه وسلم- قريشاً، كانت بنود الصلح تنص على العودة إلى المدينة وإرجاء العمرة إلى العام المقبل، فلما كانت السنة القابلة، وفي مثل هذا الشهر -ذي القعدة- عام سبع للهجرة، خرج -عليه الصلاة والسلام- ومعه ألفان من الصحابة سوى النساء والصبيان، متجهاً إلى مكة، تلفُّهم اللهفة ويغشاهم الحنين، لبيت الله الحرام ورؤية الكعبة المشرفة.
فأقام -عليه الصلاة والسلام- ومن معه وهم في الطريق بالتنعيم، وهي مَحِلّة قبيل مكة من ناحية المدينة النبوية، وذلك بعد أن أحرموا ولبُّوا ودخلوا في النسك، فكانت الوحش والطير والأوابد والصيد، المحبَّبة إلى نفوسهم، المتعلّقة بها قلوبهم، وهي من ألذ معايشهم وأطيب طعامهم، تغشاهم في رحالهم، وتتخللهم بين خيامهم، وتطالها أسلحتهم ورماحهم بل وتنالها أيديهم، لم يروا مثله قط في كثرته، ويسر تناوله، وسهولة صيده، وهم بأشد الحاجة إليه خاصة في سفر طويل كالسفر بين الحرمين...
كل هذا الإغراء ليحصل به عظيم الابتلاء.. إذ إنها مُحرَّمة على المُحْرِم ما دام في النُّسك، فكانت ابتلاء من الله -تعالى-، واختباراً لهم؛ ليشكروا الله -تعالى- على نعمته وتيسيره العمرة، أو يكفروه ويجحدوا نعمته وفضله، فيحتالوا عليها ويصيدوها سراً أو جهاراً، كصنيع بني إسرائيل في قصة القرية حاضرة البحر، قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[المائدة: 94]؛ فسلمت هذه الأمة حيث أخفقت يهود.
عباد الله: الطاعة وعبادة الله -تعالى- الظاهرة والجماعية، تُقبِلُ عليها النفوس، بدافع جذوة الإيمان، وقبس الطاعة، وروح الجماعة، فهي سهلة ويسيرة على كل مؤمن مصدّق بالله -تعالى- واليوم الآخر، إذ لا يتصور عن مسلم يشهد أن لا إله إلا الله يضيع صلاة، أو يفرط في زكاة، أو يفطر نهار رمضان...
إلا أن النفس قد تضعف، والقدرة تخف، والداعي يخبو، حال العزلة، والبعد عن الأعين، والخلوة بالنفس؛ حيث لا رقيب على نفسك الأمارة بالسوء إلا الله وحده، فحين تبتلى بنعمة قد تقرّب لك المحرم، وتسهّل عليك المحظور، فيكون ليس بينك وبين قبيح المناظر، وقيح المَشَاهِد، وصديد المقاطع، سوى ضغطة زر في جوال، أو أمر بجهاز تحكم في قناة فجور..
فاعلم أنه ابتلاء واختبار من الله العليم الحكيم ليعلم من يخافه بالغيب، وإذا ابتليت بصفقة تجارية أو ربح باهظ في بضاعة، لكن بغش وتدليس، أو كذب وحلف بالباطل، فاعلم أنه ابتلاء وامتحان من الله لك ليعلم الله من يخافه بالغيب، وحين تعرض عليك صور من الربا المحرم، في أسهم مالية، أو قروض تجارية، بتمليح أسمائها، أو تغيير في صورتها، لا تخرجها عن مسماها الحقيقي، فاعلم أنه اختبار وابتلاء ليعلم الله من يخافه بالغيب.
وإن أطلعك الله على شهادة فكتمتها، أو على عيب سألت عنه فأخفيته، فاعلم أنه اختبار وابتلاء، ليعلم الله من يخافه بالغيب. وإن بُليت بعمل مختلط، أو خلوة عابرة، فاعلم أنه اختبار وامتحان، ليعلم الله من يخافه بالغيب. (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ)[الملك: 12].
فحذار حذار –عباد الله- من ذنوب الخلوات، وسيئات الغفلات، فإنهن للعمل موبقات، وللحسنات ناسفات، فعَنْ ثَوْبَانَ -رضي الله عنه-، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا، فَيَجْعَلُهَا اللهُ -عز وجل- هَبَاءً مَنْثُورًا". قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللهِ، صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا؛ أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ. قَالَ: "أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ، وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللهِ انْتَهَكُوهَا"(رواه ابن ماجه 4245".
فاللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك حسن العمل وصلاح السريرة، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا)[النساء: 108].
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم..
الخطبة الثانية:
عباد الله: من عواصم ذنوب الخلوات، وسيئات الغفلات، المداومة على الطاعة والعبادة، صدقاً لا رياء، عبادة لا عادة، فمن عرف الله -تعالى- في الرخاء عرفه في الشدة، فيوسف -عليه السلام- لما نزلت عليه محنة امرأة العزيز، خلَّصه الله -تعالى- منها كونَه من عباد الله المخلَصين المخلِصين.
ومن العواصم: الحرص على العبادات السرية، والطاعات الخفية، كصلاة الليل وصدقة الخفاء، والإحسان الخفي ليتيم أو محتاج، وقد قيل: ذنوب الخلوات سبيل الانتكاسات، وعبادة الخلوات سبب للثبات.
ومن العواصم: إشغال النفس حال الفراغ وعند الخلوة والعزلة، إما بعمل ديني، أو شغل دنيوي، حتى لا تسترسل النفس الأمارة في وساوسها، ويجرها الفراغ إلى دركات الخزي وممارسة التفاهات، وقد قيل: الفراغ يقتل أنبل ما في الإنسان.
ومن العواصم: إحياء عبادة المراقبة، واستحضار اطّلاع الله عليك، فلا يكن الله أهون الناظرين إليك (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى)[العلق: 14].
وإذا خلوت بريبة في ظلمة *** والنفس داعية إلى الطغيان
فاستحي من نظر الإله وقل *** لها إن الذي خلق الظلام يراني
وبعد عباد الله: حَرِيّ بمن يجاهد نفسه، ويأطرها على الحق، ويبتعد بها عن مواطن الريبة، ومظان الفتنة، أن ينجو ويسلم، (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)[العنكبوت: 69].
هذا وصلوا وسلموا على رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم