ليالي القيام

خالد بن سعد الخشلان

2022-10-11 - 1444/03/15
التصنيفات: رمضان الصلاة
عناصر الخطبة
1/ مفاسد الإهمال في استثمار مواسم الفضل 2/ فضل قيام الليل ومنزلته 3/ هدي النبي صلى الله عليه وسلم في قيام الليل 4/ خطورة الانصراف عن الطاعات 5/ الحث على اغتنام ما بقي من رمضان.

اقتباس

من أعظم المصائب للعبد أن يُصرف عن طاعة الله وعبادته، والله إن من أعظم المصائب وأعظم البلايا أن تُصرف عن طاعة الله وعبادته (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ)، هذا والله الخسران أن تمر عليك أيام حياتك وسنين عمرك وفترة شبابك ونشاطك وقوتك وصحتك وعافيتك دون أن تستثمرها في تحقيق الهدف الذي خُلقت من أجله دون الوصول للغاية العظيمة التي خُلقت من أجلها. حاسب نفسك يا عبد الله على أيام وشهور وأعوام مضت من عمرك في غفلة ولهو وإعراض عن مولاك، ...

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وصفيه وخليله وأمينه على وحيه وخيرته من خلقه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أئمة الهدى ومصابيح الدجى ومن تبعهم واكتفى وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]،

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].

 

أما بعد فاتقوا الله عباد الله فإن تقوى الله -عز وجل- من أجلّ المقامات وأعظم الدرجات وهي الوصية التي لا يملّ سماعها ولا تكررها فهي وصية ربنا -سبحانه وتعالى- لنا: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ) [النساء: 131].

 

راقبوا علام الغيوب، وواظبوا على إصلاح القلوب، وكونوا على الحق أعوانًا، وفي إصلاح ذات البين إخوانًا، وفي إعلاء كلمة الله أركانًا. جعلني الله وإياكم من عباده المتقين الموعودين بجنات النعيم والناجين من العذاب الأليم.

 

عباد الله: شهركم هذا أيام معدودات، كما قال ربكم -عز وجل- وها هي أيامه بدأت في النقصان، وقد مضى ما يقرب من نصفه ولم يبقَ إلا نصفه الآخر.

 

وسرعان ما يمر كما مر الأول، ألا فمن أحسن منكم في النصف الأول، فليحسن في النصف الآخر، ومن أساء وفرط وقصر وأهمل فليبادر بتلافي تقصيره، وليتدارك إهماله وتفريطه؛ فإنَّ الغبن في عدم اغتنام هذه الأيام والليالي هو –والله- من أشد أنواع الغبن والحسرة التي يورثها الإهمال في استثمار مواسم الفضل وأزمنة المرابحة والمتاجرة مع الله حسرة قاتلة وندامة دائمة، فإن ما مضى من عمر الإنسان لا يمكن أن يعود، وليس للعبد إذا قدم على ربه إلا ما أودعه في هذه الأيام والليالي من الأعمال الصالحات والقربات النافعات.

 

ألا فاجتهدوا -رحمكم الله-، وضاعفوا من اجتهادكم في كل ما يقرِّبكم من ربكم -عز وجل-، واستعينوا بالصبر والمصابرة ومجاهدة النفس على العمل الصالح؛ فإن عاقبة ذلك حميدة، وقد قال ربكم -عز وجل-: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزمر: 10]، وقال سبحانه: (وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [الشورى:43].

 

أخذ الله بنواصينا جميعًا للبر والتقوى، وجنَّبنا أسباب الهلاك والردى، وسلك بنا صراطه المستقيم؛ إنه سبحانه بر رءوف رحيم.

 

عباد الله: من خير ما يتقرب به إلى الله -عز وجل- في هذا الشهر المبارك من النوافل "قيام الليل"؛ فقد رتب الله -سبحانه وتعالى- على قيام ليالي رمضان مغفرة الذنوب وتكفير السيئات، يقول نبيكم محمد -صلى الله عليه وسلم-: "من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه".

 

وكتاب ربنا -عز وجل- وسنة نبينا -صلى الله عليه وسلم- مليئان بالآيات والأحاديث التي تبيِّن فضل قيام الليل ومنزلته، وما أعده الله -عز وجل- لعباده القائمين من أصناف الكرامات وأنواع العطايا والهبات.

 

وإذا كانت هذه الفضائل والأجور الوافيات لقيام الليل في سائر أيام العام؛ فإن للقائم في رمضان منها القدح المعلى والنصيب الأوفى.

 

والتراويح -يا عباد الله- سواءً كانت أول الليل بعد العشاء أو آخر الليل هي قيام الليل في رمضان، وإنما سمي القيام في رمضان بالتراويح؛ لأن السلف الصالح -رضوان الله عليهم- كانوا يطيلونها جدًّا، وكانوا كلما صلوا أربع ركعات بتسليمتين جلسوا للاستراحة قليلاً من طول القيام فسُمِّيَت بالتراويح من أجل ذلك.

 

عباد الله: لقد أشاد ربكم -عز وجل- بالقانتين بين يديه فقال سبحانه: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) [الزمر:9].

 

وقال في وصف عباده المتقين كانوا (كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الذاريات:18].

 

وبيَّن -سبحانه وتعالى- أن ما ينتظر القائمين بين يديه من عظيم الأجر الذي أخفاه الله -عز وجل- عن عباده في الدنيا شيء لا يخطر على قلب بشر؛ فقال -عز وجل-: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [السجدة:17].

 

وفي السنة -يا عباد الله- أحاديث كثيرة تبين منزلة القيام بين يدي الله، وما أعده -سبحانه وتعالى- للقائمين، فقد كان -صلى الله عليه وسلم- يواظب على قيام الليل ولم يترك الوتر سفرًا ولا حضرًا، وكان -صلى الله عليه وسلم- يقوم قيامًا طويلاً، بل قد قام من الليل -صلى الله عليه وسلم- حتى تورمت قدماه الشريفتان فقيل له: تصنع هذا وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال -صلى الله عليه وسلم-: "أفلا أكون عبدًا شكورًا".

 

وكان يحثّ أصحابه على قيام الليل، ويوصيهم به؛ فقد قال -صلى الله عليه وسلم- عن عبدالله بن عمر: "نعم الرجل عبدالله لو كان يصلي من الليل"، فكان عبدالله بعد لا ينام من الليل إلا قليلاً.

 

وفي حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: "أوصاني خليلي بثلاث؛ ركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر".

 

وبيَّن -صلى الله عليه وسلم- أن قيام الليل من أسباب دخول الجنة، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "أيها الناس أفشوا السلام، وصلوا الأرحام، وأطعموا الطعام، وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام".

 

عباد الله: مما امتن الله به عليكم في هذا الشهر المبارك أن مَن قام مع الإمام لصلاة التراويح حتى ينتهي الإمام من صلاته كُتب له أجر قيام ليلة كاملة؛ يقول -صلى الله عليه وسلم-: "من قام مع الإمام حتى ينصرف كُتب له قيام ليلة".

 

ألا فاتقوا الله -رحمكم الله-، اتقوه في هذه الليالي المباركة بقيامها والصلاة فيها فما هي والله إلا ليالي معدودة عما قريب تنتهي، وما العمر كله إلا أيام معدودة وعما قريب ينتهي، ويتمنى الواحد لو يُرَدّ إلى الدنيا ليعمل عملاً صالحًا، فاستكثروا -رحمكم الله- من الصلاة في شهركم هذا، واحرصوا على قيام الليل إن تيسر مع الجماعة فهو أولى وأفضل، وإن لم يتيسر فلا تحرموا أنفسكم فضل القيام ولو في بيوتكم.

 

واحرصوا في صلاتكم أن تكون صلاة مؤداة بخشوع وطمأنينة تأتون فيها بأركان الصلاة وواجباتها وسننها، فليست العبرة بكثرة العدد، وإنما العبرة بإحسان الصلاة وإتقانها، ولهذا وصفت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- ليلاً فقالت: "فلا تسل عن حُسنهن وطولهن"، أي الركعات التي كان يقوم بها -صلى الله عليه وسلم- "فلا تسل عن حسنهن وطولهن".

 

مَنَّ الله عليَّ وعليكم بهداه، وأعاننا جميعًا على ذِكره وشكره وحسن عبادته، وأخذ بنواصينا إلى ما يحب ويرضى.

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا) [الإسراء:79].

 

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.

 

أما بعد: فإن أفضل الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع جماعة المسلمين، ومن شذ عنهم شذ في النار.

 

عباد الله: اتقوا الله في أعماركم أن تذهب عليكم في غير ما يحب ربكم ويرضى، اغتنموا مواسم الفضل والخير فإنها لا تدوم، استحضروا أننا ما خُلقنا في هذه الدنيا إلا لعبادة الله وطاعته (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات:56].

 

فلا يشغلنكم عن هذه الغاية العظيمة التي خُلقتم من أجلها شاغل، ولا يصرفنكم عنها صارف، فليس من العقل ولا من الحكمة أن يُطلب منك تحقيق هدف في عمرك والهدف محدد موضح ويترتب على هذا الهدف دخول الجنة إن حققته، أو الخلود في النار إن لم تحققه ثم تنشغل عنه بما لم تُخلَق من أجله.

 

وتأمل قوله تعالى: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ) [المؤمنون:115]، وتأمل قوله تعالى: (أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى) [القيامة:36].

 

واعلم أن من أعظم المصائب للعبد أن يُصرف عن طاعة الله وعبادته، والله إن من أعظم المصائب وأعظم البلايا أن تُصرف عن طاعة الله وعبادته (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ

هذا والله الخسران أن تمر عليك أيام حياتك وسنين عمرك وفترة شبابك ونشاطك وقوتك وصحتك وعافيتك دون أن تستثمرها في تحقيق الهدف الذي خُلقت من أجله دون الوصول للغاية العظيمة التي خُلقت من أجلها.

 

حاسب نفسك يا عبد الله على أيام وشهور وأعوام مضت من عمرك في غفلة ولهو وإعراض عن مولاك، حاسب نفسك يا عبد الله على أوقات قضيتها في معصية الله، حاسب نفسك على أوقات فاضلة وأزمنة شريفة منحك الله إياها ففرطت في اغتنامها، بل وصرفتها فيما يغضب الله ويسخطه أو على الأقل فيما لا يحب ولا يرضى سبحانه من الأعمال والأقوال.

 

لنتدارك أيها الإخوة الفضلاء تقصيرنا، لنتدارك إهمالنا وتفريطنا ولنحاسب أنفسنا على ذلك قبل أن ينتهي الشهر فنندم ولا ينفع الندم. أسأل الله -عز وجل- ان يسلك بنا صراطه المستقيم إنه على كل شيء قدير.

 

هذا وصلوا وسلموا على نبيكم محمد بن عبدالله؛ فقد أمركم ربكم بهذا في كتابه فقال -عز من قائل-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56]، وقال عليه الصلاة والسلام: "من صلى عليَّ صلاةً صلى الله عليه بها عشرًا"، اللهم صل وسلم وبارك...

 

 

 

المرفقات

القيام

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات