اقتباس
ومراعاة السياق ليست حاجة هامشية، أو فضولاً في النظر، بل هو من الوعي والإدراك الواجب، فمن لا يراعي السياقات في أقواله وأفعاله فلقصور في عقله، فحين يصرخ بي إنسان من بيته يشتكي تسلط اللصوص على حرماته، وتعديهم على حقوقه، فمن الحمق والسفه أن أحدق النظر فيه مذكراً إياه بأنني سبق أن حذرتك أن لا تفتح الباب في الليل، وأن لا تتأخر في الرجوع ، وأن تفعل ثم تفعل!
احترقت قلوب أهل السنة في كل مكان على حال أهلنا في حلب، تقف الأوصاف عاجزة عن تجسيد حجم المعاناة والألم والشدة التي يقاسيها إخوتنا هناك، معاناة مستمرة من نوات، بلغت أوجها في هذه اللحظات حيث يعيش عشرات الالاف تحت رحمة العصابات الإجرامية الإرهابية.
في هذا الواقع الموجع الدموي، يفتح جواله، فيكتب وهو مسترخٍ بكل برودٍ:
هذا ما كنا نحذرهم منه. هذه الحال التي يريد دعاة الفتنة أن تصل إليها بلادنا، هم يتحملون تبعة هذه الدماء والمفاسد التي حلت بالشام.
ويكتب آخر:
أن الموقف العاطفي ينبغي ان لا ينسينا الخطاب العقلي عن سبب ما حدث. هكذا اختار مثل هذين أن يكون تفاعلهما مع هذا الحدث الذي هزّ وجدان الأمة من شرقها إلى غربها.
فالأولوية في الحديث يجب أن تتجه عندهما نحو السبب الحقيقي لهذه الكارثة، وعدم الاكتفاء بالتفاعل العاطفي معه.
هذا التعاطي البارد يقف وراءه خلل وانحراف في التفكير أوقعه في هذا الموقف النشاز، فهو ليس بالضرورة صادر عن هوى فاسد، أو انعدام للتعاطف مع جراحات المسلمين، بل ربما صرح صاحب هذا الموقف -وهو صادق- أنه يرجو لو بذل كل ما يستطيع للتخفيف عن مصاب أهلنا في حلب، إنما سبب هذا التعاطي البارد هو حزمة من الترتيبات الفكرية بنيت على أفهام وانحرافات في التفكير، فإعادة بناء المشهد، وتصحيح الصورة، وتقويم طريقة التفكير نافع جداً في تنبيه بعضهم على محل الخلل في مواقفه وأحكامه، وإلا سيبقى يحسب موقفه شرعياً وعقلانياً ما لم يبين له وجه الخلل في التفكير.
سنشرح أوجه الخلل في هذا التفكير في ثلاثة عناصر مركزية:
-الخلل في مراعاة السياق:
فالموقف الآن هو موقف مصيبة عظيمة حلت بأهلنا في الشام، تجمعنا بهم حقوق وثيقة وأواصر عميقة فــ(إنما المؤمنون إخوة). "ومثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".
يحتّم هذا دعمهم بكل ما يمكن، والوقوف معهم في محنتهم، ونصرتهم، والدعاء لهم، لا يمكن مع هذا الحق العظيم في هذا الوقت إلا الانشغال بتبعات هذا الواجب، الحديث حينها عن ما تراه سبباً للمصيبة حالة من التفكير الفارغ، الذي يترك التفكير في واجب الوقت، وما يلزمه من عمل، إلى السرحان في منطقة تفكير جديدة لا يناسبها السياق بتاتاً.
تخيل فقط حال من يعيش في حلب وهو يكتوي بآلام الحصار والجوع والقتل، وتلاحقه آلة الموت تنهش في لحمه، وتقطع جسد أطفاله ونسائه، وهو يشعر بعمق الخذلان الذي اجتمع عليه من كل جهة، ثم يجد من يقول له: هذا ما جنته يداك!
هنا يحق لنا أن نقول إن هذا الموقف يذكرنا بحادثة المنافقين التي حكاها القرآن الكريم فقال عنهم: (الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا).
ينزعج من هذا التشبيه فيقول: كيف تشبهنا بالمنافقين، وهؤلاء تخلوا عن نصرة النبي -صلى الله عليه وسلم- في الجهاد الشرعي الواجب، فكيف تشبهنا بهم ونحن نتحدث عن صورة ليست من الجهاد، بل من الفتنة؟
وهنا نعيدك مرة أخرى إلى خلل التفكير، فإنكارنا عليك ليس لأنك تقول الثورة مرفوضة، وأنها تؤدي إلى مفاسد، فلا معنى لأن تقول: أنا اتحدث عن جهاد غير مشروع، والآية تتحدث عن جهاد مشروع.
إنما وجه الشبه: أن هؤلاء المنافقين تركوا الواجب عليهم من نصرة إخوانهم، وتعللوا عن ذلك بأنهم نصحوا ولم يسمع لهم. وأنت تمارس ذات الدور حين تترك الواجب عليك من نصرتهم بقدر ما تستطيع، إلى الحديث عن السبب الذي تراه قد أدى بهم إلى هذا الحال!
إذن، السياق مختلف، فموقفك من الثورة وما يتعلق بها كله لا علاقة له بما يجري الآن في حلب، نحن الآن أمام واقع جديد وتحديات ضخمة تفرض مواقف والتزامات بعيدة جداً عن موقفك النظري من حكم الثورة شرعاً، فاستجرار الموقف النظري في الواقع الجديد بسياقاته المتغيرة خلل في التفكير.
ومراعاة السياق ليست حاجة هامشية، أو فضولاً في النظر، بل هو من الوعي والإدراك الواجب، فمن لا يراعي السياقات في أقواله وأفعاله فلقصور في عقله، فحين يصرخ بي إنسان من بيته يشتكي تسلط اللصوص على حرماته، وتعديهم على حقوقه، فمن الحمق والسفه أن أحدق النظر فيه مذكراً إياه بأنني سبق أن حذرتك أن لا تفتح الباب في الليل، وأن لا تتأخر في الرجوع، وأن تفعل ثم تفعل!
نعم، لو كان الأمر في سياق بحث علمي مثلاً، أو في سياق مناقشة موضوع الثورة، فإيراد المصائب التي حلت كنماذج لتقوية الموقف النظري لا إشكال فيه، ويبقى من الحجج والبراهين المعتبرة، وعلى من يخالف أن يواجهها بالحجة والبرهان، فمن لا يفرق بين هذا السياق، والسياق الذي ينشر فيه تغريداته الباردة فعنده مشكلة معيبة في طريقة التفكير!
وليت الأمر وقف عند هذا، اللافت أنه ليس ثم سياق يستدعي الحديث عن دعاة الفتنة، وخطر التحريض والثورات، فلو أننا مثلاً أمام مطالبات جديدة تدعو إلى الثورة في بلدٍ ما فأراد أن يحذر أهل هذا البلد وينصحهم لقلنا موقف له اعتباره، وسبب يستدعي الحديث. لكن الواقع انه لا وجود لمثل هذا الأمر الآن، إنما هو استحضار لمواقف سابقة، إذن ليس ثم حاجة تستدعي استحضار موضوع تراه سبباً، فالتعليق عليها في محنة إخوانك هو توظيف واستغلال للواقعة لأجل خصومات وصراعات فكرية، والعاقل الذي يخاف الله يترفع عن هذا المنزلق، فبإمكانك أن تتحدث في مثل هذه الموضوعات لاحقاً، إخوانك يحتاجون مد العون الآن، قضيتك مع فلان وفلان من الدعاة والمشايخ، ومشكلتك مع الجماعة الاخرى، وتحليلاتك الخاصة في أسباب الثورات ومن قام بها ومن وراءها .. الخ. ما يزال في العمر سعة تفسح لك أن تعبر عن كل ما في مكنونات صدرك، فأن تأبى إلا هذا الوقت، فإن أحسنا الظن فليس أمامنا إلا عقل قاصر وتفكير مختل!
لا يرى في غمرة هذه الخصومات سبباً لما حل بأهلنا من مصائب إلا ما وقع من مظاهرات قبل سنوات، حسناً ، لماذا لم يفكر أن سبب ما حل بهم هو خذلان أهل الإسلام لهم وتفريطهم في حقوقهم وتضييعهم لقضيتهم، وأن ما يحل بهم سيكون وبالاً على غيرهم، فهذا السبب أقرب وأولى بالاعتبار من ذلك السبب الذي يتعللون به، لكن الخلل في التفكير يبقى مقتصراً على زاوية معينة لا يتجاوزها!
وبسبب خلل التفكير، لا يتفطن الشخص إلى أن ما يذكره قد يكون آتياً على ضد مقصوده، فإذا كان البلاء والمصائب التي حلت بإخواننا هي بسبب المظاهرات فيكون هذا دليلاً على أنها فتنة، فماذا لو أن الواقع انقلب في الشام –بلطف من الله- فأصبحت الامور خيراً مما كانت عليه ، وتفكك النظام، وعاش الناس في نظام خير مما كان، هل يؤخذ منه عبرة على أهمية الثورات ونجاحها؟
فهذه الطريقة في البرهنة على فساد الثورات ربما لا توصلك إلى مرادك ، وستكون محل جدال وخصومات عقيمة تشغلك عن واجب نصرة إخوانك في محنتهم.
-الخلل في فهم أسباب الثورة:
تعتمد طريقة (لو أطاعونا ما قتلوا) على معادلة سطحية جداً في فهم سبب قيام الثورات وتفسير ما سمي بالربيع العربي، فهو تحريض من مجموعة من المشايخ والدعاة أدى بهم إلى هذه الفتنة، فيجب التحذير من هذه الفئة التي تسببت في هذه الفتن والدماء، وكل ما يجري من حولهم من مصائب لا ينظرون إليه إلا من هذه الزاوية الضيقة.
عندنا حزمة كبيرة من التحليلات السياسية حول الأسباب التي حركت هذه الموجات الغاضبة المطالبة بالتغيير، وكل هذه التحليلات تؤمن بأن الوضع معقد متشابك مركب لا يمكن أن يرد إلى عامل واحد، بغض النظر عن هذه التفسيرات والتحليلات فتبقى محل اجتهاد ونظر وما تزال تدور في جانب التحليل المبني على الظن والمقاربة، وقد تظهر الأيام القادمة ما يقوي بعضها على بعض، المهم أن ثم اتفاقاً على تعقد المشهد.
فهذه المعادلة السطحية في الربط المباشر بين خطاب معين وبين الثورات عدا ما فيه من سطحية في المعالجة، هي أصلاً تتحدث عن شيء بعيد جداً عن مجريات الواقع.
فالثورات التي وقعت في بعض البلدان العربية لم تقم بسبب تحريض من مشايخ، ولا بسبب تغريدات كتبها فلان، أو خطبة قالها آخر، أو مقطع نشر لثالث، فالسعي في جمع مثل هذه المواقف هو إنهاك للتفكير في منطقة خاطئة.
فالمظاهرات تحركت واشتعلت في الشارع قبل أن يعرفها هؤلاء، بل الجميع كان مصدوماً من تسارعها وتصاعدها، بل وعامة الإسلاميين في تلك البلاد لم يشاركوا في المظاهرات إلا متأخرين، وكانت التيارات العلمانية والليبرالية تعيب عليهم أن قفزوا على الثورات، لأن ثم قناعة أن المشاركة كانت متأخرة، بغض النظر عن هذه التفصيلات، يبقى أن التعاطي كان متحفظاً عليها من البداية من إسلاميي تلك البلدان، فكيف يتوهم أن مشايخ بلدان أخرى هم من حرضوا تلك البلدان على الثورات وتسببوا فيها فيجب التحذير منهم وتحميلهم مسؤولية ما حدث!
بل إن كان ثم تأثر بأصوات شرعية فهي من أصوات تلك البلدان، فلم يكن ثم شخصيات يرجعون إليها أساساً من خارج بلدانهم.
إذا فهمت هذا استطعت أن تضع تغريدات ومقاطع وتعليقات من أيد هذه الثورات في سياقها الطبيعي، لا أقول لك احكم عليها بالصحة، إنما افهمها كما هي، وانطلق في التفكير بطريقة صحيحة، فما حصل هو تفاعل مع حدث، لم يكن خاصاً بالمشايخ، بل هو تفاعل جميع طبقات الناس في العالم العربي والإسلامي كله، شارك الجميع من شباب وفتيات ومشايخ ودعاة ومثقفين ومفكرين وسياسيين واقتصاديين ورياضيين وإعلاميين و.. عدَّ ما شئت، فالحدث كان حدثاً ضخماً تفاعل معه الجميع، وأكثر التفاعل كان مستبشراً وداعماً ومؤيداً، فإن كنت تعتبر أن هذا التفاعل هو سبب الفتنة ، فيجب أن يتحمله الجميع، فقل كلام أكثر الناس وحديث عموم المجتمع هو سبب الفتنة.
التفكير بهذه الطريقة لا يعني أن تلغي موقفك من الثورة وحكمها. لا، أريدك فقط أن تفكر بطريقة صحيحة، لا يختل عندك ميزان التفكير فتظن أن موقفك شرعي معتدل بمجرد أن تستدل بنصوص شرعية وتستند إلى أقوال فقهية، فيجب أن تضع القضايا الشرعية في ميزانها الصحيح، لا تخلطها بتحليلاتك وأفهامك الخاطئة فيتسبب هذا في بغي وفجور وظلم.
حين يكتب أحدهم مثلاً عن حادثة الشام فيقول: هم في عنق فلان وفلان و فلان ممن حرضهم على الثورة.
فمن يقرأ هذا الكلام وهو لا يعرف عن الواقع شيئاً، فسيفهم أن هذه الأسماء الثلاثة هي التي حركت الناس من بيوتهم، وخدعتهم، ثم دفعتهم نحو المواجهة.
تصدم حين تعلم أن غاية الأمر لا يعدو مجموعة تغريدات أو مقاطع، فيها كلام عن موضوعات معينة متعلقة بالظلم والحريات والحقوق ومطالبات الشعوب، ونحو هذا الكلام قرأه عدة مئات من الناس بعد قيام المظاهرات بشهور!
هذا قصور عقلي فاضح، ولا يعدو الاستدلال بهذه الطريقة إلا توظيفاً لهذه المصائب في سياق خصومات فكرية مع شخصيات معينة، من المعيب أخلاقياً أن تجعل هذه المصائب فرصة لا تعوض للحط من شخصيات محددة وتشويه جماعات وأفكار معينة. بإمكانك مناقشتها والرد على أصحابها لكن بميزان أهل السنة والجماعة ميزان العلم والعدل، فننقد ما نراه من تجاوزات من دون بغي وفجور في الخصومة!
إشكالية هذا القصور أنه لا يعرف من أسباب الثورة إلا تحريض المشايخ!
فكأنه ليس ثم أسباب موضوعية هي التي حركت الشارع للمظاهرة، وإنما هي دعوات موبوءة خدعتهم واستغلت عواطفهم فقامت الثورات!
بينما العاقل يعرف أن المظاهرات -بغض النظر عن موقفك الفقهي منها- لم تقم إلا بسبب مظالم عميقة، وحقوق منتهكة، وتاريخ طويل من الفساد والانحراف والتعديات عمّق في نفوس الناس من معاني القهر والظلم والنفور ما تفجر مع أدنى فرصة، فإذا كنت فعلاً لا تريد قيام الثورات فالموقف العقلي الصحيح أن تركز معالجتك على الأسباب الحقيقية وتنظر في كيفية تخفيفها، لا أن تتوقف حركة تفكيرك فتعيد الدوران في منطقة محددة، غاية ما فيها أنها ستكون موظفة لهذه الأسباب المؤثرة.
سيعترض بعضهم سريعاً: ولكن الواجب الشرعي في التعامل مع المظالم والانحرافات لا يكون بهذه الطريقة، ثم يبدأ في ذكر النصوص وكلام بعض أهل العلم.
وهنا يعود الخلل في التفكير في العمل ، فنحن نتحدث عن السبب لما حدث وليس عن الحكم الشرعي له، فعدم التمييز بين سياق الحديث عن الأسباب وسياق الحديث عن الأحكام خلل في نمط التفكير، فمن يضع ماله في الشارع بلا حفظ سيعرضه للسرقة، لا تعترض على هذا بأن السرقة حرام، لأن الحديث ليس عن حكم السرقة بل عن سببها، وكذلك هنا، فالنقاش ليس في حكم التعامل مع المظالم، وإنما في تأثيرها على الاحتجاجات والاضطرابات والثورات، بغض النظر عن حكمها الشرعي.
وليتنا وقفنا عند هذا الحد فاكتفينا فقط بالتوسع في تحميل هذا الخطاب فوق ما يحتمل، بل تبع ذلك التوسع في مفهوم التحريض، فأصبحت دائرة واسعة لا يعرف أحد ما حدودها فكل شيء ممكن أن يدخل فيها، وحجم التبعة أيضاً عليها واسع جداً لا يعرف عمقه ولا منتهاه، فهي وصف عائم وذو تبعات عائمة، وربما حُكم على تغريدة عابرة كتبت في تويتر قبل سنوات تتحدث عن موقف معين بلغة هادئة، فتبقى مصورة تتداولها الأيدي كإدانة على تحميل صاحبها تبعة الفتن والمصائب التي حلت!
بالتأكيد، لا يفهم من هذا عدم نقد المشايخ أو الدعاة، ولا أن أقول لا تتحدث عن موضوع التحريض على الثورات، إنما المقصد هو التحاكم إلى ميزان الشريعة: "العلم والعدل". أن تضع هذا الخطاب في وضعه الطبيعي، تحاكمه إلى تأثيره الحقيقي، تدقق في طبيعة تناوله للموضوع، تستحضر مستنداته الشرعية، ثم تحاسبه بناءً على ذلك، لا أن تريح دماغك من عناء التفكير فتكتفي بالمعادلة السريعة: خطاب تحريض ويتحمل كل شيء!
-الخلل في استيعاب المعطيات الجديدة:
حين نتحدث عن الثورات الأخيرة فمن الضرورة التي تغيب عن بعض الناس إدراك أن ثم متغيرات جديدة تلت هذه المظاهرات توجب نظراً واجتهاداً جديداً.
فحين تتحدث عن حرمة المظاهرات قبل وقوعها، أو مع بداياتها لما فيها من المفاسد فهذا سياق صحيح، ونظر شرعي مقبول، لكن هذا الواقع قد تغير لاحقاً، فما عادت الصورة الآن صورة مظاهرات تطالب بتغيير النظام فنقول بتحريمها، بل تغير الوضع تماماً، فأنتج الواقع معركة جديدة بين فريقين، لا يمكن حينها أن تكون المعالجة بطريقة أن المظاهرات حرام أو حلال، بل أنت أمام صورة جديدة توجب نظراً مختلفاً.
فقبل قيام الثورة السورية، من المقبول جداً أن تحرم التظاهر ضد النظام مراعاة لما يترتب عليه من مفاسد، وحفظاً لدماء الناس وحقوقهم، لكن حين يخرج الناس ولا يسمعون لك، ثم تنشق المدن عن النظام، وتبدأ المعارك، فأنت الآن أمام واقع جديد مختلف جذرياً عن الحالة التي كانت قبل سنوات، فأنت أمام صراع بين نظام وشعب، نظام تعرف حاله وإجرامه ومقاصده ومن يخدم، وشعب له مطالبه وحقوقه، القضية لم تعد مظاهرات ومفاسد، فاستحضار النقطة الأولى في واقع متغير جداً قصور عقلي وفقهي كبير.
بل لم تقف المتغيرات عند هذا الحد، فالقضية لم تعد معركة بين نظام فاسد وشعب يريد الحرية والحقوق الشرعية، فالمعركة الآن في الشام معركة ضد وجود أهل السنة وهويتهم، المصيبة التي تحل بحلب هي مصيبة على بقية العواصم العربية، وانكسار الثورة الشامية انكسار للأمة جميعاً.
فالذي حصل في موضوع الثورات أن المتغيرات اللاحقة أنتجت واقعاً جديداً يحتم نظراً جديداً، فلا يجوز أن تبقى متسمراً في زمن اللحظة الأولى والدنيا تموج بالمتغيرات!
فعدم إدراك هذا المتغير أوقع الخلل عند فريقين:
فريق يرى دعم الثورات العربية بعد قيامها، ويرى أن دعم الشعوب أولى من الوقوف مع النظم الفاسدة، فحتى يكون قوله منسجماً رأى ضرورة أن يقال بمشروعية المظاهرات الأولى، وترتب عليه أن شنع على من يرى حرمتها، وبالغ في الحط عليه ونسبته إلى المعايب، بل وتوسعوا إلى نقد الموقف الفقهي المعروف في حكم المتغلب لأنهم يرون أنه سيؤول إلى تحريم المظاهرات التي يرون ضرورة دعم الشعوب في مطالبها.
وفريق يرى عدم الالتفات إلى هذه الثورات، ولا نصرتها، ولا حتى مجرد الدعاء لها بالنصر والتمكين، لأنه يرى أن المظاهرات محرمة، فما يتبعها لاحقاً هو محرم تبع لها فلا يرى صحة أن يدعم أمر نشأ عن محرم.
وكلا الطرفين واقع في غلط منهجي بين، وهو عدم إدراك المتغيرات الجديدة التي طرأت على الواقع بما يوجب تغيير الحكم، فالحكم على المظاهرات شيء، والحكم عليها بعد قيامها وانتشارها وظهور معطيات جديدة شيء آخر، فالحكم على الواقع الجديد يجب أن يبنى على مراعاة له وليس أن يتوقف التفكير فيه عند النقطة الأولى!
وثم طرف آخر يلبس لكل حالة متغيرة لبوساً خاصاً، ففي أول أحداث الثورات في غمرة الحديث عن الحريات كان متفاعلاً معها كما تفاعل كثير من الناس، وكان مشاركاً في الحديث عن أهمية المظاهرات والتغيير السلمي، والحريات، و .. وحين تقلبت الأمور وضعف وضع الثورات لبس جبة الحكمة والعقل وبدأ يقرأ الاحداث بأثر رجعي فأصبح يلوم الآخرين ويحملهم مسؤولية ما حدث! ولو قدر أن تقوى الثورات ويتحقق لها مكاسب جديدة فسيعود بموقف جديد ويلوم الآخرين!
إذا فهمت هذا عرفت حجم الغلط والخلل الفكري الكبير عند من يتحدث عن مصائب إخوتنا في الشام بلغة "ألم ننهكم عن هذا"!
فالواقع الشامي تبدل، فحكمك على الواقع الموجود بناءً على حكمك الفقهي الأول على المظاهرات قصور فقهي في النظر، فالواقع تغير بعد المظاهرات، بل تغير وتقلب مرات كثيرة، فعلى أي حال حكمت على المظاهرات الاولى، فأنت الآن أمام واقع جديد قامت فيه ثورة جهادية تريد إزاحة نظام طاغي أهلك الحرث والنسل، فالواجب هو نصرة هذه الثورة ودعمها والوقوف معها، وما يحصل عليها من محن ومصائب هو من البلاء والتمحيص الذي نرجو لهم به رفعة الدرجات، وأن يجعلها شهادة في سبيله ترفع بها درجاتهم، وأن يجعل عاقبتها نصراً وتمكيناً لهم.
فأياً ما كان السبب الذي أثار الحرب، الواجب هو المساهمة في جعل العاقبة خيراً لهم، ونصراً وتمكيناً، وليس التعلل بما يؤدي إلى جعلها فساداً وضرراً.
العدو قد يصول عليك بسبب خطأ أو ظلم صدر من مسلم ، فيعتدي على المسلمين، وينتهك حقوقهم، فالواجب عندها حينئذ هو الدفاع عن حرمات المسلمين، والوقوف ضده، فهو واقع جديد يختلف عن الواقع الأول الذي أثار العدو، ولا يعني هذا أن لا نتحدث عن السبب والخطأ الاول، لكننا يجب أن ندرك أن الواقع الذي تبع ذلك هو واقع جديد يختلف عنه قبل وقوع السبب.
واقعة تاريخية:
تحكي كتب التاريخ أن سبب اجتياح التتار لبلاد المسلمين هي مظلمة وقعت على بعض تجار التتار من قبل الحاكم المسلم خوارزم شاه، تبع ذلك أحداث أدت لاكتساح العالم الإسلامي، تبقى هذه القصة عبرة على فداحة الظلم، لكن أهل الاسلام لم ينح بعضهم على بعض بأن هذا بسبب أفعالكم، بل تعاملوا مع واقع جديد بحسب معطياته وإمكانياته.
وهذه قضية عقلية تغيب في خضم هذه الخصومات.
وهذا التمييز حاضر عند أهل الفقه والعقل لا يخفى عليهم، فهم يقولون: يحرم الخروج على الناس لأجل الحصول على السلطة، ومن يفعل هذا فهو باغ ظالم معتد، لكنه حين يتمكن ويستبد بالأمر ولا يبقى ثم منازعة له فإنهم يقولون بعدم الخروج عليه لأننا أمام واقع جديد، يحصل هنا ذات الخلل – في عدم التمييز بين المواقف مع اختلاف المعطيات- عند فريق آخر، فيقول: كيف نقول بصحة حكمه وهو قد وقع في ظلم ومحرم! يقول بعضهم معيراً بها الفقهاء: خرج لصاً ظالماً ثم صار حاكماً شرعياً!
وهذه مغالطة عقلية تتقبلها بعض العقول لحسن صياغتها ولا يتفطن لما فيها من خلل فكري، فخروجه في الأول واقع مختلف عن اعتبار حكمه في الواقع الثاني، فلكل حالة حكمه، فنحكم بحرمة فعله في الأول لاعتبارات شرعية، وفي الأخرى نحن أمام واقع جديد ننظر فيه باعتبارات أخرى، والمقصد من النظر في كلا الحالتين هو مراعاة مصلحة الناس ودفع الضرر عنهم.
لهذا تجد أحكام الشريعة مبنية على علل، متى ما وجدت تعلق الحكم بها بغض النظر عن السبب الذي أثارها، فحقوق المسلمين بعضهم على بعض مرتبطة بعلل، فإذا مرض فزره، وإذا جاع فأطعمه بغض النظر عن السبب الذي أحدث له الجوع والفقر، والكافر الصائل المعتدي يجب صده بغض النظر عن سبب صياله، لأن السبب لا يلغي تحقق العلة واستحقاق الفعل المشروع، فاستحضار السبب لتعطيل الواجب المحتم في الواقعة الجديدة خلل في التفكير.
هذه نماذج كاشفة لصور من الخلل في التفكير في هذه الحادثة، خلل في:
(عدم مراعاة السياق).
و(ضعف الوعي بأسباب الثورات المعاصرة في بعض البلدان العربية).
و(قصور الإدراك لطبيعة المتغيرات الجديدة).
عوامل تتسبب في كسر ميزان العلم والعدل عند الإنسان، فيقع بسبب ذلك في فوضى من البغي والظلم والفجور في الخصومة، وتضيع بسببه حقوق كثيرة، وتهدر أوقات في جدالات عقيمة مع تقصير في الواجب الشرعي، ويبقى الخلل في التفكير هو عامل علمي مؤثر يتسبب في تعميق هذه الإشكالات عند بعض الناس، فهو يتمسك بمعنى شرعي معين لكنه بسبب هذا الخلل يقع في أخطاء عدة.
مع هذه الفوضى الفكرية التي أحدثها الخلل في التفكير لا معنى لأن تتعلل في تخفيف شناعة النتيجة: بأننا نريد أخذ العبرة والعظة مما حدث.
فالاعتبار أمر شرعي مهم، لكنه في سياق الاعتبار، وليس في سياق تضييع الواجبات، وإيذاء إخوانك، والانشغال بالخصومات، وكسر الموازين، فالاعتبار في الواقع هنا يجب أن يكون لإشكالية الخلل في التفكير على ما يحدث من بغي وفجور وتضييع للواجبات!
يقابل هذا الخلل فريق آخر، رأى حجم البغي والفجور عند الفريق الاول، ورأى أنهم يستندون إلى نصوص وتعليلات ومصالح شرعية، فلم يلتفت لها أبداً، وأصبح يحكم على أي نظر آخر بأن وراءه دوافع وأهواء منحرفة، وهو مقابلة الخلل بخلل مثله، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم.
سيسلم من هذا من رزقه الله فقهاً وعقلاً، فبهما ينضبط ميزان العدل والعلم، فلا يطغى الميزان عند الإنسان بسبب تمسكه بشيء هو في أصله معنى شرعي صحيح، فيغره تمسكه بجزء من الشرع ثم يظن أن كل ما يصدر منه هو من الشرع، وانه تطبيق لأصل شرعي، بل واتباع لمنهج السلف، والتزام بجادة أهل السنة يستطيل بها على عباد الله، ويترخص بسببها في انتهاك محرمات وتضييع واجبات، ولا يدري في غمرة خلله الفكري حجم الكوارث التي يحملها من حيث لا يشعر.
حفظ الله أهلنا في الشام، ونصرهم، وانتقم لهم ممن بغى عليهم، وحفظهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم، ولطف بنا وغفر لنا تقصيرنا وتجاوز عنا..
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم