لم شرع الله الصيام؟

د. منصور الصقعوب

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/ مشروعية الصيام وبعض الحكم من مشروعيته 2/ بعض الدروس المستفادة من الصيام 3/ التنافس في أبواب الخير في رمضان

اقتباس

إن الصوم يورث التقوى لما فيه من انكسار الشهوة، وانقماع الهوى؛ فإنه يردع عن الأشر والبطر والفواحش، ويهوِّن لذاتِ الدنيا ورياستها، وذلك لأن الصوم يكسر شهوة البطن والفرج، فمن...

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله واهب الخيرات, مجزل الأعطيات, رب الأرض والسماوات, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له حثنا على الطاعات, ورغبنا في القربات, ووعدنا بالأجور الوافرات, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إمام الورى وخير من وطئ الثرى, وهو رسول رب البريات, والمؤيد بالوحي من فوق سبع سماوات, صلى عليه ربنا وسلم, وعلى الصحب والأتباع ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

 

معشر الصائمين: الصيام فرض مكتوب, وركن من كل مسلم مطلوب, والصيام في أصله ليس باليسير, وهو في الصيف أكثر مشقة, حيث طول النهار وحرارة الجو, ومع هذا فاليقين المستقر لدى كل مسلم أن الله لا يأمر بشيء إلا لحكمة, وأنه سبحانه قال في آيات الصيام: (يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة: 185].

 

وكم يجمل بنا ونحن في زمن النهار الطويل أن نتأمل في حكمة أمر الله بالصيام, لينشط المرء, وينشرح المسلم وهو يؤدي هذه العبادة الجليلة؟

 

والمتأمل -يا كرام- في حِكَمِ الصيام ستقابله حكمٌ جليلة, وأسرارٌ شريفة, لأجلها أمر المولى عباده أن يمتنعوا عن مأكلهم ومشربهم وشهواتهم.

 

فالصوم في بادئ الأمر عبادة, وإنما تُنالُ الجنةُ بالطاعة, وإنما يتمايز الناس بتعبدهم لرب البريات, وبكسبهم للحسنات, ومع هذا فالصوم مع ما فيه من بعض المشقة والصعوبة إلا أن الله لم يُرِد بفرضه على العباد إلا اليسر, وليس في شرع الله عسر.

 

إن مشقة الصيام محتملة, وهي ليست مقصودة لذاتها, وإنما هي ثمن قليل يدفعه الصائم لنيل عوض كبير, ولن يبلغ المرء جنة ربه إلا على جسر من المشقة, وفي هذا يقول ابن القيم: "قد استقرت حكمته سبحانه أن السعادة والنعيم والراحة لا يوصل إليها إلا على جسر المشقة والتعب، ولا يدخل إليها إلا من باب المكاره والصبر، وتحمل المشاق، ولذلك حف الجنة بالمكاره، والنار بالشهوات", ويقول: "ولذة الدنيا والآخرة ونعيمُها، والفوزُ والظفرُ فيهما، لا يصل إليه أحد إلا على جسر الصبر، والسيادةُ في الدنيا والسعادةُ في العقبى لا يوصل إليها إلا على جسر من التعب, فحق للصائم أن يصبر على شدة صومه, وليعلم أن الأجر على قدر المشقة والنصب, وأن تعب يومه سيذهب عند فطره, ومشقة صومه ستزول عند لقاء ربه".

 

معشر الكرام: وأشرف حكمة لأجلها شرع الله الصيام: ما ذكره الملك العلام حيث قال معقباً بيان فرض الصيام: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة: 183]، ولأجل التقوى تهون المشاق, ويسهل العسير, وهل شرعت الرسالات؟ وهل قامت الدعوات؟ وهل خُوِّف العباد ورُهِّبوا, ووعدوا ورغبوا؟ وهل أُمِر بالأوامر إلا ليتحقق في قلوب العباد تقوى الله؟

 

والصيام من أجل الأعمال التي تعمر القلب بتقوى الله, قال الرازي: "إن الصوم يورث التقوى لما فيه من انكسار الشهوة وانقماع الهوى؛ فإنه يردع عن الأشر والبطر والفواحش، ويهوِّن لذاتِ الدنيا ورياستها، وذلك لأن الصوم يكسر شهوة البطن والفرج، فمن أكثر منه هان عليه أمر هذين، وخفت عليه مؤونتهما، فكان ذلك رادعاً له عن ارتكاب المحارم والفواحش، ومهوناً عليه أمر الرياسة في الدنيا، وذلك جامع لأسباب التقوى".

 

معشر الكرام: النفوس بلا تقوى تصبح خواءً لا ترتدع عن معصية، ولا تنشط لطاعة, وزاد التقوى خير زاد يدفع المرء ليقبل على الطاعة بنشاط، وليراقب الله في كل أموره, وذلك ينال إذا أخذ الناس شهادة التقوى من مدرسة الصيام.

 

هل تصورت ذلك الصائم يلهبه العطش يرى الماء ويقدر عليه, ولا يطلع بشر عليه، ولكنه يتحرز حتى من القطرة تدخل في فيه حين يمضمض؟ فما الذي دعاه لذلك إلا التقوى والمراقبة؟ تقف المرأة بين أصناف المطاعم والمشارب حال صنعها لا تذوق من شيئاً, بل يسأل الناس حتى عن القطرات العلاجية هل تفطر؟ فما الذي جعلهم يتحرزون مع أنهم قد لا يرون إلا تقوى الله ومراقبته تلك التي وجدت في القلب مع الصوم, ومتى ما حيت ونمت فالعبد بخير وفي عافية.

 

عباد الله: وفي الصوم يتذكر المرء الفقراء والمعوزين, فربما لا يذكرك بحال المحتاج خطب رنانة, ولكنك حين تبقى ساعاتٍ بلا طعام ولا شراب, تعرف حينها ماذا يعني الفقر, وتسعى بعد ذلك لعون الفقراء والوقوف معهم.

 

ونحن اليوم نعيش في بلاد المسلمين أزماتٍ متتابعة, وحاجات متفرقة، ففي بلاد الشام مسغبة, وفي اليمن مأساة ومعاناة, وفي غزة وغيرها حاجة وأي حاجة, وأنت -أيها المبارك- تنتهي مجاعتك بأذان المغرب, فماذا أنت صانع لإخوانك؟

 

فيا أيها الصائمون: حين يمسكم حرّ الجوع والعطش ليكن من أموالكم لإخوانكم نصيب, فما المال إلا وديعة, وما الأحوال إلا غِيَر, وربما كان منفق اليوم محتاج الغد, فقدم ليومٍ أحوج ما تكون فيه للإنفاق.

 

وليس من التقوى أن يبيت المرء شبعان ريان وهو يرى المحاويج يئنون فلا يمد لهم يداً, ولا يبالي باستغاثة مستغيث وأنين محتاج.

 

عباد الله: وفي الصوم قهر للنفس في كبحها عن شهواتها, وهي التي لطالما تمنعت عن ترك محرماتٍ اعتادتها, وها هي اليوم تترك ذلك بمجرد بدء النهار برغم طوله حين عزمت عليها, فاستفد ذلك في الصوم, ودع ذنوباً بها بليت, غلبتك نفسك مرارً, فجاء رمضان فكنت أنت الغالب؛ لأنك قررت أن تقهر نفسك وهواك.

 

عباد الله: وفي الصوم قمع للشيطان، وسد لمسالكه، وتضييق لمجاريه, ولذا فالمرء حين تورث شهواته الكامنة, ويخشى من المحذور فعليه أن يهرع للصوم, والشيطان ذا كيد ضعيف, وأنت تقدر على التغلب عليه, ورمضان أراك أنك قادر.

 

كل هذه الحِكم, وأضاعفُها كثير, مع ما يقرره أهل الطب من فائدته الطبية, حتى غدت مراكز الصحة الغربية تعالج بعض المرضى بالصيام, وكلامهم في هذا كثير, لكنه لا يعنينا كثيراً؛ لأن المسلم على يقين أن الأمر يأمر به الله, فيه النفع والخير وإن جهلناه.

 

إذن فالصوم خير لنا في ديننا, وخير لنا دنيانا, هو أصلح لقلوبنا وأصح لأبداننا, هو أشفى لأسقامنا, وأنقى لضمائرنا, وأكثر لحسناتنا، وأنفى لسيئاتنا, وأهذب لأخلاقنا، وقبل ذلك كلِّه هو أرضى لربنا.

 

عبر بوابة الصيام نتعلم الصبر والإرادة, وفي مدرسة رمضان نتربى على الأخلاق والخصال الفاضلة, ننهل من معينها التقوى, نقرب فيها من المولى نتقلب في أبواب خير, وطرق طاعة.

 

فاسعد -أيها المبارك- بصومك, واستبشر أن بلغك ربك شهرك, وافرح حين فطرك, واسأل الله لنا ولك الفرحة التامة عند لقاء ربك.

 

 

الخطبة الثانية:

 

"التؤدة في كل شيء إلا في أمر الآخرة"، والإسراع يذم في كل شيء إلا في الطاعة, وفي القرآن حث على المسارعة والمسابقة, ومجالات التنافس في رمضان على الخير واسعة, ففي المساجد وإصلاحاتها فرصة للتسابق للخير, وفي تنوع الطاعات وأبوابها مجال لئن يسبق المرء غيره للأجور, والوقت هو الميدان, والليل والنهار صحيفتان, وأبواب الخير متاحة, وعالي الهمة لا يقنع بعمل قليل؛ لأنه يريد مكانا في الجنة رفيع.

 

وبعد -يا موفق-: فلا تستكثر عملك, ولا تمنن بطاعاتك, ولا تدلَّ بإحسانك, لا تستطل التراويح حين تؤديها, ولا تستكثر ما تنفق حين تبذل, ولا تتبرم من الخير فذاك طريق الجنة.

 

وحين يمر بك يوم فاعلم أن السعيد من أمضاه بالخير, ومن طويت صحائفه على أعمال البر, يجد أثر ذلك يوم التغابن, وحين تطوى صفحة الشهر ستحمد العاقبة على ما قدمت, وحين تنتهي صفحة العمر سترى أثر صاعتك, وحين تلقى ربك ستسعد إن أحسنت السعادة الكبرى, ففرحة الصائم فرحةٌ لن يعقبها حزن, ولن يلحقها هم, ولن يتبعها كدر.

 

جعلك الله مفتاح خير، ومغلاق شر.

 

 

المرفقات

شرع الله الصيام؟

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات