لعلكم تتقون

د خالد بن عبدالرحمن الراجحي

2024-03-29 - 1445/09/19 2024-03-31 - 1445/09/21
عناصر الخطبة
1/الأوامر الشرعية والنواهي لها منافع وحِكَم 2/وجوب امتثال الأوامر واجتناب النواهي 3/أبرز الحكم الشرعية من تشريع الصيام 4/رمضان شهر المواساة 5/مخالفة أهل الكتاب في صيامهم 6/ عزة الأمة المسلمة وغلبتها.

اقتباس

لما كانت الصدقة من أحب الأعمال إلى الله، حَّث عليها في أعظم الشهور وهو رمضان، وحسبك من محبة الله لهذه العبادة أنها تطفئ غضبه -جل وعلا-، ومِن عِظَمها أن الله يُربّيها لصاحبه صغيرة كانت أم كبيرة كما يربي الإنسان خيله...

الخطبة الأولَى:

 

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، وخيرته من خلقه، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.

 

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1].

 

أما بعد: اتقوا الله -تعالى- أيها المسلمون؛ فبالتقوى يُقبل صيامكم، وتُؤدى شعيرتكم، وما كتب عليكم الصيام إلا تحقيقًا للتقوى.

 

أيها المسلمون: إن لله -عز وجل- في أوامره ونواهيه، منافع وحكم وأسرار، منها ما أعلمه الله عباده في كتابه -جل وعلا- أو على لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم-، ومنها ما أخفاها الله -جل وعلا- عن عباده، فصار امتثال تلك الأوامر واجتناب تلك النواهي تعبُّدًا من غير عِلْم بحكمتها ومقصد تشريعها.

 

 ومن العبادات ما ذكر الله -عز وجل- لنا في كتابه شيئًا من حكمتها، وبيَّن لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئًا من أسرارها، واجتهد الصحابة والتابعون وسلف هذه الأمة في استنباط شيء من أسرارها ومقاصدها.

 

عبادة الصيام عبادة عظيمة، وفي حكمتها كلمة جامعة، هي قول الله: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)[البقرة: 183]، لعلكم تتقون الله في عباداتكم، لعلكم تتقون الله في معاملاتكم، في أخلاقكم، لعلكم تتقون الله في أنفسكم وأهلكم وأولادكم أموالكم.

 

(لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)؛ أي: لعلكم تجعلون بينكم وبين عذاب الله وقاية، بطاعة الله والعمل الصالح، وتطهير القلب وتنقيته، فضلاً عن ترك الطعام والشراب والشهوات.

 

هذه هي الحكمة العامة في الصيام، وهي تقوى الله، وقد أشار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى عدد من الطاعات بالحث عليها، وإلى عدد من الذنوب بالتحذير منها، وقد كان ذلك في رمضان خاصة؛ وما ذلك إلا لأن الصوم مدرسة تربي الروح، وتقوي الإرادة.

 

فهي فرصة للمسلم بأن يربّي نفسه في هذا الشهر على مبادئ عظيمة حثَّ عليها ديننا الحنيف، أو أن يتخلص من شوائب قد علقت به.

 

ومما أشار إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الحِكَم العظيمة في رمضان، والتي تندرج تحت قاعدة التقوى؛ التربية على حُسن الخلق، وعلى الصبر على أذى الناس، وعدم غيبتهم وذِكْرهم بالسوء، بل إنه من لم يربِّ نفسه على ذلك قد لا يُكتب له أجر صيامه، ولا يكون حظّه من صيامه إلا التعب والجوع والعطش.

 

ولذلك قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أكثر من حديث: "الصِّيَامُ جُنَّةٌ"، أي: أن الصيام جُنّة يتقي بها الصائم عن المآثم والسيئات وسيئ الخلق، كما يتقي المحارب بجنة حين القتال، فتمنعه القتل وتسلمه من العدو -بإذن الله-، يجسّد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذا المعنى في أكثر من حديث.

 

ففي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "الصيامُ جُنَّةٌ، فإذا كان أحدُكم صائمًا فلا يَرفُثْ ولا يَجهلْ، فإنِ امْرُؤٌ شاتَمَه أو قاتَلَهُ فَليَقُلْ إنِّي صائمٌ".

 

وروى ابن ماجه من حديث عثمان بن أبي العاص الثقفي -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "الصِّيامُ جُنَّةٌ من النَّارِ، كَجُنَّةِ أحدِكمْ من القِتالِ"، وأخرج الطبراني من حديث أبي أمامة الباهلي -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "الصيامُ جُنَّةٌ، وهو حِصْنٌ مِنْ حصونِ المؤمِنِ".

 

وروى البخاري وأصحاب السنن وأحمد من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من لم يدَعْ قولَ الزُّورِ والعملَ بِهِ، فليسَ للَّهِ حاجةٌ بأن يدَعَ طعامَهُ وشرابَهُ". هذا مبدأ عظيم، وحكمة من حكم الصيام، فكما أنك استطعت الامتناع عن الطعام والشراب والجماع، فهذا هو الظاهر والأجر ليس منوطًا به وحده، وإنما الأجر على أمور أخرى يربي الإنسان نفسه عليه، أو يجاهد نفسه في تركها، فهل نحن من أهل الصيام الذين يتقبل الله منهم، ليكونوا من أهل باب الريان، فيدعون لدخول الجنة منه.

 

ومما أشار إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في شهر رمضان من الحكم العظيمة المندرجة تحت التقوى؛ أن رمضان شهر المواساة، ألا ترون أن الناس أجمع غنيهم وفقيرهم، ذكرهم وأنثاهم، صغيرهم وكبيرهم، يمسكون عن الطعام والشراب وسائر المباحات، مع توفرها عند قوم وندرتها عند آخرين، أفلا يوحي ذلك للقادرين أن بإمكانهم أن يتنازلوا عن بعض ما يملكون إلى غيرهم من ذوي الفاقة أو الحاجة؟

 

ولئن نسي أهل النعيم أو غفلوا عن حوائج المحتاجين وما كان لهم ذلك، فشهر الصيام في كثرة إطعام الطعام، هو شهر البر والصدقة والإحسان، ولذلك روى الترمذي من حديث زيد بن خالد الجهني -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من فطَّر صائمًا كان له مثلُ أجره، غير أنه لا ينقصُ من أجر الصائمِ شيئًا".

 

فهذا فضل من رب العالمين عظيم، وتمرين للمسلم على أن يبذل ويتصدق، وأن يتفقد أحوال الناس، ولذلك لما كانت الصدقة من أحب الأعمال إلى الله، حَّث عليها في أعظم الشهور وهو رمضان، وحسبك من محبة الله لهذه العبادة أنها تطفئ غضبه -جل وعلا-، ومِن عِظَمها أن الله يُربّيها لصاحبه صغيرة كانت أم كبيرة كما يربي الإنسان خيله.

 

في الصحيحين من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ تصدَّقَ بعدْلِ تمرَةٍ مِنْ كسبٍ طيِّبٍ، ولَا يقبَلُ اللهُ إلَّا الطيِّبَ، فإِنَّ اللهَ يتقبَّلُها بيمينِهِ، ثُمَّ يُرَبيها لصاحبِها، كما يُرَبِّى أحدُكم فَلُوَّهُ حتى تكونَ مثلَ الجبَلِ".

 

وفي الصحيحين من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "كانَ النبيُّ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- أجْوَدَ النَّاسِ، وأَجْوَدُ ما يَكونُ في رَمَضَانَ، حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وكانَ جِبْرِيلُ عليه السَّلَامُ يَلْقَاهُ في كُلِّ لَيْلَةٍ مِن رَمَضَانَ، فيُدَارِسُهُ القُرْآنَ، فَلَرَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أجْوَدُ بالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ".

 

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولك من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد ألا إله إلا وحده لا شريك تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.

 

أما بعد: فاتقوا الله -تعالى- أيها المسلمون، واعلموا أن مما أشار إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في هذا الشهر الكريم، من الحكم العظيمة المندرجة في قاعدة التقوى، معنًى إيمانيًّا عظيمًا، يجب تعميقه في النفوس، ألا وهو مخالفة أهل الكتاب في صيامهم.

 

روى النسائي من حديث عمرو بن العاص -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنَّ فصلَ ما بين صيامِنا وصيامِ أهلِ الكتابِ، أكلةُ السَّحورِ"؛ حتى في وقت الأكل والشرب ينبغي مخالفة المشركين وأهل الكتاب، وهذا الأمر وهو مخالفة الكفار مبدأ من المبادئ التي وجه إليها الإسلام، وحذر المسلم من خرمها، والانسياق مع الأمم الأخرى في أفعالها وطرائق حياتها، فضلاً عن عباداتها وأعيادها، ولذلك قال -عليه الصلاة والسلام-: "من تشبَّهَ بقومٍ فَهوَ منْهم"(أخرجه أبو داود من حديث عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما-).

 

ولقد كانت عزة الأمة المسلمة وغلبتها واحترام الأمم الأخرى لها، حينما وقفت على ما جاء به نبيها -صلى الله عليه وسلم- من عقائد وعبادات وشرائع، وشعرت أنها بما تحمله من هذا الدين فوق الأمم الأخرى؛ لأن معها الحق المُنَزَّل من عند الله -تعالى-.

 

هذه قاعدة عظيمة، هي عزة الأمة المسلمة بما تحمله من الدين، فهل يبعث رمضان في نفوسنا هذه القاعدة، فنتعلمها ونفقهها ثم نطبقها في جميع شؤون حياتنا صغيرها وكبيرها، فنعتز بديننا عقيدةً وسلوكًا وشريعةً ومنهاجَ حياةٍ، حتى يعود للأمة عزها ومجدها وسؤددها.

 

إن كل فرد مسلم صائم ينطلق من صيامه في تطبيق هذا المبدأ العظيم، في كل أمر من أمور الحياة، وينبذ كل تقليد وتشبه بالكفار في دقائق الأشياء وجليلها.

 

ففرصة أن نتعلم من مدرسة رمضان اعتزازنا بديننا، واستقلال شخصيتنا، وعلونا بتمسكنا بشريعة ربنا، وسنة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-.

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)[البقرة: 183].

 

هذا وصلوا وسلموا على من أمر الله بالصلاة والسلام عليه، فإن الله وملائكته يصلون على النبي، ومن صلى عليه صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرًا.

 

اللهم صلِّ وسلّم وزد وبارك، على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين، ومن سار على نهجهم وسلك طريقتهم إلى يوم الدين.

 

اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًا وسائر بلاد المسلمين.

 

اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيد بالحق إمامنا وولي أمرنا.

 

سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

 

المرفقات

لعلكم تتقون.doc

لعلكم تتقون.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات