لسنا ضعفاء بدرجة كافية

عاصم محمد الخضيري

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/توصيف شامل ودقيق لحال المسلمين اليوم 2/عوامل وأسرار وحكم تأخير النصر عن الأمة المسلمة

اقتباس

كل الأمم تمر بحالات دمار، وضياع، بل وموت وانتهاء!. أما الأمم القوية، فإنها تمرضُ لكنها لن تموت!. أنتم ضعفاء!؟ كلا! لسنا ضعفاء بدرجة كافية!. لم يكن لأمة ولدت مع آدم -عليه السلام-، إلا أن تموت معَ موت آخر رجل من ذريته!. لم يكن لأمة جاءها النبيون بالآيات من ربهم، أن تموت حتى يُرفع القرآنُ من صدرِ آخر رجل في هذه الأمة!. الأمة التي...

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله خلق فسوى، وقدر فهدى، وإليه الرجعى، لك الحمد ربي ما أجرت ثناءك ألسن، توفِّيك أفياءً من الشكر ناضرة، لك الحمد ما طافت محامدُ أحرف، تطوف حياء من جلالك حائرة، حمداً لك اللهم حمدا حمدا، ما سبح الخلق إعظاماً وإجلالاً.

وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.

وأشهد أن محمد بن عبد الله عبد الله، ورسوله وصفيه، وخليله وخيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا.

 

أما بعد:

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[آل عمران: 102- 104].

 

سيقولون لك: إنها ماتت، فقل: بل مرضت وستنشط من عِقَالها.

 

سيقولون لك: قد ضعف أمرها، وانحسر عمرها، واستحر عسرها، فقل: إن بعد العسر يسرا، إن بعد العسر يسرا.

 

سيقولون لك: إن رياح النصر ساكنة، فقل: إن الذي أسكنَ الأرياحَ يجريها.

 

سيقولون لك: إن موجَها خضم، ومحيطها عاتٍ، وبحرها هادر، فقل: إن الذي حرك الأمواجَ يسجيها.

 

سيقولون لك: قد استكن بها الضر، واستوى بها الكرب، وتقطعت بها السبل، فقل: (وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ)[آل عمران: 141].

 

وقل: مهما طال أمد الظالمين؛ فالله لا يحب الظالمين!.

 

سيقولون لك: إن التوقعاتِ لا تشير إلى انفراجة قريبة، فقل: (لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا)[الطلاق: 1].

 

سيقولون لك: إن نصرها تأخر، ورِشاش سحبها تبخر، فقل:

 

ومِنَ الخَيرِ بُطْءُ سَيْبِكَ عني *** أسرَعُ السُّحْبِ في المَسيرِ الجَهامُ

 

أما ترى الثمر الزاكي إذا صهرت *** به الشموس يطيب النضج في الثمر؟

 

سيقولون لك: إن نجمها منطفئ ونورَها منكفئ، فقل:

 

ها هنا بعض النّجوم انطفأت *** كي تزيد الأنجم الأخرى اشتعال

تفقد الأشجار من أغصانها *** ثمّ تزداد اخضرارا واخضلال

 

سيقولون لك: إن البأس قد استحكم، واليأس قد استوطن، فقل: عار أن يستوطن ولنا رب، يقول: هو عليَّ هين.

 

سيقولون: بل هو عزيز، فقل: (وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ)[إبراهيم: 20].

 

سيقولون: إن طواغيت الأمم أجمعوا أمرهم وهم يمكرون، فقل:

 

لَمْ نَخْشَ طَاغُوتَاً يُحَارِبُنا  *** ولَوْ نَصَبَ المَنَايَا حَوْلَنَا أسْوَارَا

نَدْعُوا جِهَارَاً لا إلَهَ سِوَى الَّذِي  *** صَنَعَ الوُجُودَ وقَدَّرَ الأقْدَارَا

ورؤسُنَا يا رَبُّ فَوْقَ أكُفِّنا *** نَرْجُو ثَوَابَكَ مَغنَمَاً و جوَارَا

 

وكأن ظل السيف ظل حديقة *** خضراء تنبت حولنا الأزهارا

 

دعهم يمكرون، فما يمكرون: (إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ)[الأنعام:123].

 

سيقولون: أنى لكم رحمٌ تفيض بطولة؟ فقل:

 

رحم البطولة لم يزل في أمتى *** يعطى وينجب للعلا الأولادا

 

سيقولون: كيف وقد كنتم ضعفاء؟ فقل: لسنا ضعفاء بدرجة كافية.

 

كم زلزل الصخر الأشم وما *** وهى من بأسنا عزمٌ ولا إيمانُ

لو أن آساد العرين تفزعت  *** لم يلقَ غير ثباتنا الميدانُ

توحيدك الأعلى جعلنا نقشه  *** نوراً تُضيء بصُبْحه الأزمانُ

 

سيقولون لك: متى نصر الله؟ فقل: (عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا)[البقرة:51].

 

قد يموت الجسد، ولكن تحيا الروح والنفس، لا يأس مع رب، يقول: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ)[الأنعام:112].

 

بني الإسلام: تمر على أمة الإسلام أحداثٌ كأنما تمر بها على وخز الإبر.

 

تمر عليها حادثات الشجى، كأنما ترضع بها منشار، أو تبلع مسمارا أو تسبح في إعصار

 

تمر على أمة الإسلام، أحداث كأنها قطع النار! في كل قُطر من الأقطار!.

 

وليس ذا بجديد!.

 

قد يعلم الله المعوِّقين منكم -يا أمة الإسلام- والقائلين لإخوانهم: قد قُتلتم ومتم وضعفتم!.

 

ألم يعلموا: (وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ)[آل عمران: 158]؟.

 

قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين: لو لم تتقضوا على الظلم والظالمين، ما وهن أمركُم، ولا ذهب عزكم: (لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)[آل عمران: 156].

 

(أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)[العنكبوت: 2-3].

 

أيتها الأجيال المسلمة: لكل شيء ثمن، وإن الهدايا على مقدار مهديها، والعطايا على قدر الرزايا، والنصر والتمكين لا يكونان إلا حين استيفاءِ شروط الابتلاء.

 

لك الحمد مهما استطال البلاء *** ومهما استبدّ الألم

لك الحمد إن الرزايا عطاء *** وإن المصيبات بعض الكرم

 

سنون طوال وهذي الجراح *** تمزّق جنبي مثل المدى

ولا يهدأ الداء عند الصباح *** ولا يمسح اللّيل أوجاعه بالردى

 

ولكن:

 

لك الحمد ان الرزايا ندى *** وإنّ الجراح هدايا الحبيب

أضمّ إلى الصّدر باقاتها *** هداياك في خافقي لا تغيب

لك الحمد يا راميا بالقدر!

 

ما الذي يُرجئ هذا النصر الذي أطال الغياب؟

 

قد يُرجَئ النصر يا أمتي، لنعلم أن نصر الأولين لم يكن نوما على سرر الونى والمسكنة.

 

قد يُرجئ النصر حتى نعلم أن الأمةَ المنصورةَ، هي التي حقت على جميع أبنائها وأطيافها الانتفاضةَ الكبرى!.

 

النصر لا يأتي على لون الدمى

ليس يأتي النصر في لون السماء

ليس يأتي النصر إلا مترعا بالعزم في لون الدماء!.

 

هيهات أن تنتزع الأمة نصرَها من مؤتمراتِ تنازل، أو مسرحياتِ رجاءٍ، أو قبلةٍ في فم الباغي، وما طلبا.

 

نأخذ النصر بأيدينا فما *** في يد الباغي لنا منه انتصار

 

ثمن المجد دم جدنا به *** فاسألوا كيف دفعنا الثمنا؟

 

قد يرجئ النصر يا أمتي لنستلهم دروس الصابرين المجاهدين المؤمنين الفاتحين في قديمٍ وحديث، وأنه لولا التضحيات الكبرُ ما انتصروا على أنفسهم ولا على القوم الظالمين.

 

هيهات أن يولد النصرُ توأما للضعة والخمول، بل يولدُ توأما للبلوى والألم: (إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ)[آل عمران: 104].

 

كل الأمم تمر بحالات دمار، وضياع، بل وموت وانتهاء!.

 

أما الأمم القوية، فإنها تمرضُ لكنها لن تموت!.

 

أنتم ضعفاء!؟

 

كلا! لسنا ضعفاء بدرجة كافية!.

 

لم يكن لأمة ولدت مع آدم -عليه السلام-، إلا أن تموت معَ موت آخر رجل من ذريته!.

 

لم يكن لأمة جاءها النبيون بالآيات من ربهم، أن تموت حتى يُرفع القرآنُ من صدرِ آخر رجل في هذه الأمة!.

 

الأمة التي رفع منها عيسى -عليه السلام-، ستبقى حتى ينزل عليها عيسى -عليها السلام- فيكسرَ الصليب، ويقتلَ الخنزير، ويضعَ الجزية، الإسلامَ أو السيفَ، وحتى يفيضَ المال فلا يقبله أحد!.

 

ولكن، قد يُرجئ النصر حتى تبذل الأمة المؤمنة آخر ما في طوقها من قوة، وآخرَ ما تملكه من رصيد، فلا تستبقي عزيزاً ولا غالياً ولا نفيسا، إلا وتبذله هيناً رخيصاً في سبيل الله!.

 

قد يُرجئ النصر يا أمتي حتى يكون لسانُ حال الأمة كلِّها: "اللهم خذ من جهودنا ومن أتعابنا ومن أوجاعنا، ومن دمائنا اليومَ حتى ترضى".

 

وحتى يكون:

 

وليت الذي بيني وبينك عامر *** وبيني وبين العالمين خراب

 

قد يُرجئ النصر يا أمتي حتى يأتيَ اليومُ الذي تنفي به خبثها، وتميز فيه خبيثَها من طيبها.

 

قد يرجئ النصر؛ حتى تعلم هذه الأجيال المسلمة: أنه لا عصا سحرية، ولا يدا خفية، ستدفعها نحو النصر المرجو!.

 

النصر الذي يأتي مجانا، سيذهب مجانا!.

 

قد يرجئ النصر حتى تجربَ الأمةُ المؤمنة آخر قواها، وآخر رمق في عزماتها، فتدركَ أن هذه القوى وحدها بدون سند من الله لا تكفل النصر.

 

وأن النصر لا يكون دون بذل الأسباب، إنما يتنزل النصر من الله، عندما تبذلُ آخرَ ما في طوقها، ثم تكل الأمرَ بعد ذلك إلى خالقها، اعقليها أيتها الأمة ثم توكلي!.

 

قد يرجئ النصر ليبلو الله الصادقين بصدقهم.

 

قد يُرجئ النصر لكي يكون صدقهم في نصرة دين الله هي أرجى ما يرجون، وأن خوفهم من خلافه أخشى ما يخشون.

 

يغزو حممة الدوسي مع أبي موسى الأشعري إلى أصبهان، ثم يقوم في الليل ويصيح، ويقول: "اللهم إن حممة يحب لقاءك، اللهم إن حممة يحب لقاءك، اللهم إن كان صادقاً في ذلك، فاعزم له بصدقه واقتله، وإن كان كاذباً فاحمله على القتل أيضا، وإن كان كارهاً له".

 

قال: فأخذه شيء في بطنه، فمات! بأصبهان.

 

فقام قائد الجيش أبو موسى الأشعري -رضي الله عنه- يقول للجنود: "يا أيها الناس إنه والله ما سمعنا من نبيكم، ولا بلغ علمنا إلا أن حممة شهيدٌ في سبيل الله -تعالى-".

 

قد يرجئ النصر حتى يستبين الصدقُ من الرياء، والتقوى من النفاق، والحبُّ الصادق الذي يقول عند الموت: "فزت ورب الكعبة".

 

لا موتا نفاقيا، يقول صاحبه: قد مات شهيدا يا ولدي من مات فداء للمحبوب.

 

يبيت عُتْبةُ بن أبان البصري، عند رباح القيسي، قال: فسمعته في الليل ساجداً يبكي، ويقول: اللهم احشر عتبة مع حواصل الطير، وبطون السباع.

 

ولكن قبري بطن نسرٍ مقيله *** بجو السماء في نسورٍ عواكف

 

 لسنا ضعفاءَ بدرجة كافية *** وما كان الضعف صاحبا لنا وخدينا

 

لم يكن عددُنا حائلاً لنا أن ننتصر في كل محفل لقينا فيه أعداءنا، ولم تحفظ أسنة رماحنا يوما في كل معركة خضناها؛ أنها كانت سببا في انتصارنا.

 

الأسنة والرماح والأسلحة الثقيلة والخفيفة لا تضمن الانتصارات!.

 

لسنا ضعفاء، بل إننا لم نحفل يوما بالعدد على حساب العدة، أو الجيشِ اللُّهامِ على حساب عدة الإيمان!.

 

بل يُرجئ النصر حين تعجبنا كثرتنا، وتنفِشُ ريشنَا كثرةُ عُدتنا، وفي حنينَ الشاهد اليقين، لما انتصر المسلمون في معركة الأرَك في الأندلس بقيادة الموحدين، أثَّر هذا الانتصار على بقاء الدولة الأندلسية في يد المسلمين، ولكن هذا الانتصار من المسلمين تركت بقاياه أثرا عميقا في نفوس النصارى، وفي نفس الفونسو الثامن الذي تحدثه نفسه بالانتقام في كل يوم من أيام بقائه، حتى في أيام هدنته مع المسلمين، حتى أتى اليومُ الموعود لهزيمة المسلمين في معركة يعدها المؤرخون هي بداية سقوط أرضِ الفردوس المفقود، أرضِ الأندلس الخضراء.

 

وقد كان ذلك سنة تسعٍ وستمائة، اقتحم الفونسو الثامن حصنا في وسط الأندلس، وأغار على أحد قراها، على إثر ذلك أعلن السلطان محمدُ الناصر الجهادَ في سبيل الله، وأمر بالجيوش الجرارة وتجهيزِها لإيقاف المد الصليبي.

 

ويذكر بعض المؤرخين المسلمين: أن تعداد الجيش الإسلامي في تلك المعركة، وصل لثلاثِ مئة ألف مقاتل.

 

وآخرون يوصلون هذا العدد لنصف مليون مقاتل، لكثرة المتطوعين فيه.

 

سار محمد الناصر بقواته إلى الأندلس، واستقر في إشبيلية، وأرسل جزءا من جيشه لتحرير القلعة المستباحة ذات الموقع الإستراتيجي، وبعد حصار دام 8 أشهر استطاع المسلمون أن يغزوا ذلك الحصن.

 

وعندئذ استغل ألفونسو الثامن ذلك الوضع وبعث إلى البابا الثالث يدعوه لإعلان حرب صليبية في أوروبا.

 

وقد استجاب له البابا، فأمر بمساعدته، وأعلنها حربا صليبية، لا يحل الغفران على من لا يساعد، أو يشارك فيها.

 

وبعد ذا؛ أرسلت الدويلات الإيطالية وفرنسا الجنود والمؤن لدعم التحالف النصراني.

 

 تحرك الصليبيون باتجاه القلعة، وكانت حاميةُ القلعة الإسلامية لا تزيد عن 100 فارس إلا أنهم قاوموا مقاومة عنيفة، ثم استسلموا في نهاية الأمر، لعدم تكافؤ الطرفين، ولعدم وصول الإمدادات من المسلمين.

 

وعندما علم محمد الناصر بذلك حرك جيشه باتجاه الشمال، والتقى الطرفان في الموقعة الشهيرة التي تسمى بموقعة: "العقاب!".

 

أنى لنصف مليون مسلم أن يُغلبوا في هذه المعركة من قلة عدد!؟ وكيف وهم نصفُ مليون؟!

 

أنى لنصفِ مليونِ مسلم أن يمهلوا نصفَ هذا العددِ من النصارى؟

 

أنى لنصف مليونِ مسلم أن يُغلبوا من جيش أقلَّ منهم عدد وعدة؟

 

هكذا ساد المنطق يومئذ، إنها الغطرسة التي أوجفت قلوب المسلمين: "إننا لن نغلبَ اليوم من قلة!".

 

قد يُكسر الجيش العرمرم إن سرى في قلبه داعي التكبر والبطر.

 

قد يرجئ النصر من الله حين تتعلق القلوب بالعَرَض دون الجوهر.

 

يرجئ النصر من الله حين يكون داعي السببِ في القلوب أقوى من رجاء المسبِّب وهو الله.

 

قد يرجئ، حين يكون السيف السمهريُّ والرمح الردينيّ أوفى في النفوس من القاهر القوي.

 

نُظمت الصفوف، وحُمِّس الجنود، وكان الجميع بانتظار شرارة البداية، حتى كان اليوم الذي احمرت فيه السيوف، واسودت به الحتوف.

 

استشار ألفونسو الثامن قادة جيشه، وكبار دولته، فأشاروا عليه بمحاولة حصار الجيش الإسلامي، فانطلقت أجنحة النصارى، وطُّوق جيشُ محمدِ الناصر الأمرَ الذي أدى إلى اضطراب الجيش الإسلامي، وانسحاب أجنحته من أرض المعركة.

 

بعد ذلك اقتحم النصارى الجيشَ الإسلامي، وقتلوا منه مقتلة عظيمة مروعة، قاربت مقتلة اقتحام التتر لبلاد بغداد، حتى قُتل أغلبُ من في الجيش من المسلمين، إلى ربع مليون قتيل في الجيش الإسلامي!.

 

 ليست مجردَ هزيمة، بل سقوطَ قلعة إسلامية من أهم قلاع حضارة الإسلام: وهي الفردوسَ المفقود! أرض الأندلس التي بهرت وغذت العالم الأوروبي بحضاراتها الحاضرة في كل مجال!.

 

إن في المجال السياسي، أو في الاجتماعي، أو في الاقتصادي، أو في العمراني

 

ونحن نقول:

 

واحسراتاه على نوايانا التي قذفت بنا نحو الحضيض إلى الردى!.

قد يرجئ النصر العظيم بنيةٍ عرجى، وينتصر النفاق على الهدى.

 

قد يرجئ النصر يا أمتي ولن تنتصري حتى تكون نيةُ بنيك موصولة بالخالق الوهاب.

 

وإلا يكن، فالنصر أبعد في النفوس من السهى، أو رؤية العنقاء والخل الوفي

 

(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[التوبة: 16].

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد إلا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا.

 

أما بعد:

 

إذا غرزوا بصدرك سكينا، فلن تستطيع أن تقاتل، أو تدافع عن نفسك إلا إذا نزعته، وضمدت جراحك.

 

قد يُرجئ النصر حتى تتضمد هذه الجراح، ويستبينَ السفَّاح.

 

قد يرجئ النصر حتى يعرف الحجر والشجر من هم أعداء الملة، وأدعياء النحلة.

 

قد يرجئ النصر من الله حتى يعرفَ الحجرُ أن هاهنا من هو أشد قسوة منه، لتحذرهم الأمة جمعاء.

 

يتأخر نصر الله لرسوله في مكة ثلاث عشرة سنة، ثم يهاجر إلى المدينة؟

 

أنى أن نعرف أعداءنا الحقيقين من جلاوزة المشركين، وعتاة المنافقين، لو كان النصر مقترنا ببعثة رسول الهدى -عليه الصلاة والسلام-: (وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ)[العنكبوت: 11].

 

(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا)[التوبة: 16]؟

 

قد يُرجئ النصر لتزيد الأمة المؤمنة صلتها بالله، وهي تعاني وتتألم وتبذل؛ وتضحي، ولا تجد لها سنداً إلا الله، ولا وجهة إلا إليه وحده في الضراء.

 

قد يُرجئ لتعرف الأمة أيَّ شيء، أسقط رداء نبيها يوم بدر، وهو نبي الأمة، خوفاً على أمته، أن تَخْتَطف نصرها عصابة الظلم والجبروت، حتى أنت يا رسول الله؟ كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك، ورسول الله في موقفٍ شديد تُمتحن فيه أمته، ويُمتحن صدقها!.

 

أقرب ما يكون النصر إلى هذه الأمة، حين تكون ساجدةٌ إليه، خاضعةٌ له.

 

قد يرجئ النصر؛ لأن الأمة المؤمنة لم تتجرد بعد في كفاحها وبذلها وتضحياتها لله ولدعوته، فهي تقاتل لمغنم تحققه، أو تقاتل حمية لذاتها، أو تقاتل شجاعة أمام أعدائها.

 

والله يريد أن يكون الجهاد له وحده وفي سبيله، بريئاً من المشاعر الأخرى التي تلابسه.

 

وقد سئل رسول الهدى -عليه الصلاة والسلام- عن الرجل يقاتل حمية، والرجل يقاتل شجاعة، والرجل يقاتل ليرى، فأيها في سبيل الله؟ فقال: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله".

 

لقد تنزل عِتاب الله من سبع سماوات لكتيبة الصدق يوم هزيمة أحد، لأجل غنيمة غُنمت

 

قد يُرجئ النصرُ حتى تكون الغنيمةُ الكبرى في نفوس كل أحد منا، هي: إعلاء كلمة الله.

 

قد يُرجئ النصر من الله، حتى يُصطفى لهذه الأمة: العُظماء.

 

تالله ما عرفنا عظمة العظماء في يوم من أيام الله إلا يوم أن ألقت الشدائدُ أفياءها على هذه الأمة.

 

هل نسيتم هؤلاء الفاتحين الذي بلغوا السماء مجدَهم وجدودهم، وإنا لنرجو لهم بعد ذلك مظهرا!.

 

تالله إنه لسر عظيم، وأنا أرى عددا من الفاتحين في هذه الأمة لم يكونوا يُعرفوا إلا بمعارك محددة، ووكأن الله -عز وجل- اصطفاهم في حقبة من الحقب، ثم يموتوا بعدها.

 

هل نسيتم أبا سليمان، بنَ الوليد؟ هل نسيتموه؟ كأن الله هدى هذا المجاهد للإسلام، ليؤدي دوره الكبير في إعلاء كلمة الإسلام ثم يموت في فراشه، ولا يموت في معاركه!.

 

هل نسيتم ذلك المملوك الصغير؟

 

ذلك المملوك الصغير، الذي جاء على فترة من النصر، وبعد أن مزق التتر أكثرَ بلدان المسلمين، كأن اللهَ اصطفى هذا المجاهدَ في سبيل الله، ليطفئ نار التتر بهذه المعركة، ثم ينتهي دورُه ويموتُ بعد ذلك.

 

يذكر المؤرخون أن المظفرَ قطز استلم القيادة في المعركة الشهيرة التي قُضي فيها على التتر بعد قضائهم على الخلافة العباسية في العراق، سنة ثمان وخمسين وستمائة، ثم لما كان الانتصار الكبير، توفي المظفر خلال هذا العام.

 

من كان يعرف هذا المجاهد قبلها؟ أم كان لنا أن نعرفه بعدها؟

 

قد يُرجئ النصر لنعرف هؤلاء العظماء!.

 

ولما اشتعلت حربُ احتلال ليبيا من قبل المستعمر الإيطالي، ما كان لهذه الأمة أن تفخر برجل كعمر المختار، حين طلبوا منه التحقيق ليسألوه عن كل ما فعله، قال: "نعم، قاتلتكم وضاربتكم وقتلت منكم".

 

يقولها بكل شجاعة وبأس.

 

وكان يقول حين القتال: "والله لن يستريح الإيطاليون حتى يواروا لحيتي في التراب".

 

واروا لحيته تحت التراب ليحييه الشاعر بقوله:

 

نصبوا رفاتك في الرمال لواء *** يستنهض الوادي صباح مساء

يا ويلهم نصبوا مناراً من دمٍ  *** يوحي إلى جيل الغدِ البغضاء

ما ضر لو جعلوا العلاقة في غدٍ  *** بين الشعوب مودةً وإخاء

 

الله المستعان! يجعلون العلاقة بين الشعوب مودةً وإخاءً.

 

هيهات! العلاقة علاقة تنافر وصراع محتدم في كل الميادين، أدعياء السلام هم أعداء السلام!.

 

قد يرجئ النصرُ من الله؛ لأن الله لم يأذن لضئاضئ الأمهات أن تلد العظماء النجباء الذي يسيرون بها نحو المعترك الأخير.

 

ربما ينبت العذاب رجالاً *** ألمعيون أخفياءَ نجائب

يتلظون كاللظى حين تشوى *** أمةُ المجد بالرماح النواشب

 

قد يرجئ النصر من الله لنعرفهم!.

 

لم تكن هذه الأمة تتسول نصرها إلا من الله، فهو المعطي والمنان.

 

ولسنا ضعفاء بدرجة كافية، منذ الأذان الأول لبلال بن رباح، ولكن الله يهب النصر متى شاء، كيف شاء، إذا شاء، وقد أخبرنا عن مشيئته، فمن ابتغى النصر فليلزم غرز أسبابها.

 

نعم، لا بد من استنفارِ كل الأسباب لملاقاة عدونا الكبير، المعنوية والحسية والمادية، على جميع المستويات.

 

وأنا أقول لكل هذه الأجيال: ليس ضروريا إذا خسرت هذه الأمة معركة من معاركها أن تنام على ذكراه.

 

من هذا الذي أوحى إلينا أن الجهاد في سبيل الله مخبوء تحت لون واحد؟!

 

الجهاد في سبيل الله كما أنه يكون في سوح القتال، وفي عرصات النزال، فإنه يكون في نهضة الأمة في وعيها، وفي تعليمها، وفي تصنيعها وفي اقتصادها، وفي حضاراتها الشاملة، والأمة الذكية، إذا خسرت معركة، بنت معارك نهضتها على كل الساحات!.

 

يقول أحد علماء الأمة: إن للنصر تكاليفُه وأعباءُه، حتى يتأذن الله به بعد استيفاءِ أسبابه، وأداء ثمنه.

وللنصر تكاليفه وأعباؤه حين يتأذن الله به بعد استيفاء أسبابه وأداء ثمنه، وتهيؤ الجو حوله لاستقباله واستقبائه: (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)[الحـج: 40].

 

قد يُرجئ النصر من الله لتعرف الأمة أعداءها، والمتآمرين عليها.

 

وإنه والله لو لم يكن إلا هذا الفتحَ بمعرفتهم لكفى.

 

إنهم وإن طقطقت بهم البغال، وهملجت بهم البراذين، فإن ذل التآمر باد على وجوههم، بغدر مثلِ غدر أبي رغال.

 

ولكن رغم ذلك نعلنها صارخة كالشهب تسبح في فضاء الله:

 

يمينا كل ليل سوف يطوى *** يمينا كل كدر سوف يصفو

بما سكب الثكالى من دموع  *** وما ارتفعت إلى الرحمن كف

سيزهو الياسمين على بلادي  *** ويسري في مدى البلدان عَرف

ويصدح في ثرانا ألف صوت *** توارت ظلمة وانجاب خسف

وأمتنا زهت في الأفق زهرا  *** كأن نجيعها للأرض سقف

نعاهدها بأن النصر آت  *** ولن نشجى ونركَن ثم نغفو!

 ومجدك أمتي لا ليس خابٍ  *** فنحن على سبيل الله نقفو

 

اللهم أعز الإسلام، وانصر المسلمين، وانصر عبادك المجاهدين، واحم بيضة الدين، يا رب العالمين.

 

اللهم هب لأمة الإسلام منك أمرا.

 

هذا اليوم هو أول أيام شعبان، وما هن إلا أيام، ويقال: دخل رمضان، فاللهم بارك لنا في شعبان، وبلغنا رمضان، ونحن في أمن وإيمان، وسلامة وإسلام، وشهر شعبان تقول عنه عائشة الصديقة: "لم أر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صائما من شهر قط أكثر من صيامه من شعبان، كان يصوم شعبان كله، كان يصوم شعبان إلا قليلا"[رواه مسلم].

 

 اللهم وفقنا لاغتنام طاعاتك، ويسر لنا أسباب قبولك، والعتق من نيرانك، وتوفنا وأنت راض عنا.

 

اللهم صل وسلم على...

 

اللهم آمنا في أوطاننا...

 

 

 

المرفقات

ضعفاء بدرجة كافية

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات