اقتباس
وقال العلاء ابن زياد: لا تتبع بصرك رداء المرأة، فإن النظر يزرع في القلب شهوة، وقلما يخلو الإنسان في ترداده عن وقوع البصر على النساء والصبيان فمهما[1] تخايل إليه الحسن تقاضى الطبع المعاودة، وعنده ينبغي أن يقرر في نفسه أن هذه المعاودة عن الجهل، فإنه إن حقق النظر فاستحسن ثارت الشهوة، وعجز عن الوصول، فلا يحصل له إلا التحسر، وإن..
إن النظر إلى المرأة من دواعي الزنا ومقدماته، لذلك رأينا الإسلام يصنفه في زمرة الذنوب والمحرمات، قال صلى الله عليه وسلم: "النظرة سهم مسموم من سهام إبليس" وقال الإمام الغزالي بعد أن قص حكاية في فضل من ترك شهوته: "... فهذا فضل من تمكن من قضاء هذه الشهوة فعف، وقريب منه من تمكن من قضاء شهوة العين، فإن العين مبدأ الزنا وحفظها مهم، وهو عسر من حيث إنه قد يستهان به ولا يعظم الخوف منه، والآفات كلها منه تنشأ، والنظرة الأولى إذا لم تقصد لا يؤاخذ بها، والمعاودة يؤاخذ بها، قال صلى الله عليه وسلم: "لك الأولى وعليك الثانية" أي النظرة.
وقال العلاء ابن زياد: لا تتبع بصرك رداء المرأة، فإن النظر يزرع في القلب شهوة، وقلما يخلو الإنسان في ترداده عن وقوع البصر على النساء والصبيان فمهما[1] تخايل إليه الحسن تقاضى الطبع المعاودة، وعنده ينبغي أن يقرر في نفسه أن هذه المعاودة عن الجهل، فإنه إن حقق النظر فاستحسن ثارت الشهوة، وعجز عن الوصول، فلا يحصل له إلا التحسر، وإن استقبح لم يلتذ وتألم لأنه قصد الالتذاذ فقد فعل ما آلمه، فلا يخلو في كلتا حالتيه عن معصية وعن تألم وتحسر، ومهما حفظ العين بهذا الطريق اندفع عن قلبه كثير من الآفات، فإن أخطأت عينه وحفظ الفرج مع التمكن فذلك يستدعي غاية القوة ونهاية التوفيق). اهـ فتأمل في كلام العلاء بن زياد، ألست ترى فيه بياناً شافياً لانقلاب لذة النظر إلى ألم؟ وأحب هنا أن أطلع القارئ على باب جليل ولجه ابن القيم الجوزية في كتابه (روضة المحبين)، شرح به أحكام النظر وغائلته وما يجني على صاحبه شرحاً كافياً جمع إلى غزارة المادة ورشاقة النظم وجمال الأسلوب.
قال رحمه الله: " قال الله تعالى: ( قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ) [النور: 30، 31].
فلما كان غض البصر أصلاً لحفظ الفرج بدأ بذكره، ولما كان تحريمه تحريم الوسائل فيباح للمصلحة الراجحة، ويحرم إذا خيف منه الفساد ولم يعارض مصلحة أرجح من تلك المفسدة، لم يأمر سبحانه بغضه مطلقاً بل أمر بالغض منه، وأما حفظ الفرج فواجب بكل حال لا يباح إلا بحقه، فلذلك عم الأمر بحفظه، وقد جعل الله سبحانه العين مرآة القلب، فإذا غض العبد بصره غض القلب شهوته وإرادته، وإذا أطلق بصره أطلق القلب شهوته، وفي الصحيح أن الفضل بن عياض -رضي الله عنهما- كان رديف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم النحر من مزدلفة إلى منى، فمرت ظُعُن يجرين فطفق الفضل ينظر إليهن، فحول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأسه إلى الشق الآخر[2]، وهذا منع وإنكار بالفعل، فلو كان النظر جائزاً لأقره عليه.
وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله -عز وجل- كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة، فالعين تزني وزناها النظر، واللسان يزني وزناه النطق، والرجل تزني وزناها الخطى، واليد تزني وزناها البطش، والقلب يهوى ويتمنى والفرج يصدق ذلك أو يكذبه"[3]، فبدأ بزنا العين لأنه أصل زنا اليد والرجل والقلب والفرج، ونبه بزنا اللسان بالكلام على زنا الفم بالقُبَل، وجعل الفرج مصدقاً لذلك إن حقق الفعل أو مكذباً له إن لم يحققه". وهذا الحديث من أبين الأشياء على أن العين تعصي بالنظر وأن ذلك زناها، ففيه رد على من أباح النظر مطلقاً. وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يا علي [4] لا تتبع النظرة النظرةَ فإن لك الأولى وليست لك الثانية".
"ووقعت مسألة: ما تقول السادة العلماء في رجل نظر إلى امرأة فعلق حبها بقلبه واشتد عليه الأمر، فقالت له نفسه: هذا كله من أول نظرة فلو أعدت النظر إليها لرأيتها دون ما في نفسك فسلوت عنها، فهل يجوز له تعمد النظر ثانياً لهذا المعنى؟ فكان الجواب: الحمد لله لا يجوز هذا لعشرة أوجه:
أحدها أن الله سبحانه أمر بغض البصر ولم يجعل شفاء القلب فيما حرمه على العبد.
الثاني: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سئل عن نظر الفجأة وقد علم أنه يؤثر في القلب فأمر بمداواته بصرف البصر لا بتكرار النظر.
الثالث: أنه صرح بأن الأولى له وليست له الثانية، ومحال أن يكون داؤه مما له ودواؤه فيما ليس له.
الرابع: أن الظاهر قوة الأمر بالنظرة الثانية لا تناقصه، والتجربة شاهدة به، والظاهر أن الأمر لما رآه أول مرة فلا تحسن المخاطرة بالإعادة.
الخامس: أنه ربما رأى ما هو فوق الذي نفسه فزاد عذابه.
السادس: أن إبليس عند قصده للنظرة الثانية يقوم في ركائبه فيزين له ما ليس بحسن لتتم البلية.
السابع: أنه لا يعان على بليته إذا أعرض عن امتثال أوامر الشرع وتداوى بما حرمه عليه، بل هو جدير أن تتخلف عنه المعونة.
الثامن: أن النظرة الأولى سهم مسموم من سهام إبليس، ومعلوم أن الثانية أشد سماً فكيف يتداوى من السم بالسم؟
التاسع: أن صاحب هذا المقام في مقام معاملة الحق -عز وجل- في ترك محبوب كما زعم، وهو يريد بالنظرة الثانية أن يتبين حال المنظور إليه، فإن لم يكن مرضياً تركه، فإذن يكون تركه لأنه لا يلائم غرضه، لا لله تعالى، فأين معاملة الله سبحانه بترك المحبوب لأجله؟
العاشر: يتبين بضرب مثل مطابق للحال وهو أنك إذا ركبت فرساً حديداً فمالت بك إلى درب ضيق لا ينفذ ولا يمكننها تستدير فيه للخروج، فإذا همت بالدخول فيه فاكبحها لئلا تدخل، فإذا دخلت خطوةً أو خطوتين فصِحْ بها وردَّها إلى وراء عاجلاً قبل أن يتمكن دخولها، فإن رددتها إلى ورائها سهل الأمر، وإن توانيت حتى ولجت وسقتها داخلاً ثم قمت تجذبها بذنبها عسر عليك أو تعذر خروجها، فهل يقول عاقل إن طريق تخليصها سوقها إلى داخل؟ فكذلك النظرة إذا أثرت في القلب، فإن عجل الحازم وحسم المادة من أولها سهل علاجه، وإن كرر النظر ونقب عن محاسن الصورة ونقلها إلى قلبٍ فارغ فنقشها فيه تمكنت المحبة، وكلما تواصلت النظرات كانت كالماء يسقي الشجرة فلا تزال شجرة الحب تنمي حتى يفسد القلب ويعُرض عن الفكر فيما أمر به فيخرج بصاحبه إلى المحن ويوجب ارتكاب المحظورات والفتن ويلقي القلب في التلف، والسبب في هذا أن الناظر التذت عينه بأول نظرة فطلبت المعاودة، كأكل الطعام اللذيذ إذا تناول منه لقمة، ولو أنه غضّ أولاً لاستراح قلبه وسلم، وتأمل قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "النظرة سهم مسموم من سهام إبليس"، فإن السهم شأنه أن يسري في القلب فيعمل فيه السم الذي يسقاه المسموم، فإن بادر واستفرغه وإلا قتله ولا بد.
قال المرُّوذي: قلت لأحمد: الرجل ينظر إلى المملوكة؟ قال: أخاف عليه الفتنة، كم نظرةٍ قد ألقت في قلب صاحبها البلابل.
وقال ابن عباس: الشيطان من الرجل في ثلاثة: في نظره وقلبه وذكره، وهو من المرأة في ثلاثة: في بصرها وقلبها وعجزها.
فصل ولما كان النظر من أقرب الوسائل إلى المحرّم اقتضت الشريعة تحريمه وإباحته في موضع الحاجة، وهذا شأن كل ما حرم تحريم الوسائل فإنه يباح للمصلحة الراجحة، كما حرمت الصلاة في أوقات النهي لئلا تكون وسيلةً إلى التشبه بالكفار في سجودهم للشمس، أبيحت للمصلحة الراجحة كقضاء الفوائت وصلاة الجنازة وفعل ذوات الأسباب على الصحيح. وفي مسند الإمام أحمد بن حنبل عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: النظرة سهم مسموم من سهام إبليس فمن غض بصره عن محاسن امرأةٍ أورث الله قلبه حلاوة يجدها إلى يوم يلقاه، أو كما قال. وقال جرير بن عبد الله -رضي الله عنهما-: سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن نظر الفجأة فأمرني أن أصرف بصري ونظرة الفجأة هي النظرة الأولى التي تقع بغير قصدٍ من الناظر، فما لم يعتمده القلب لا يعاقب عليه، فإذا نظر الثانية تعمداً أثم، فأمره النبي -صلى الله عليه وسلم- عند نظرة الفجأة أن يصرف بصره ولا يستديم النظر فإن استدامته كتكريره، وأرشد من ابتلي بنظرة الفجأة أن يُداويه بإتيان امرأته، وقال: "إن معها مثل الذي معها [5]"، فإن في ذلك التسلي عن المطلوب بجنسه.
والثاني: أن النظر يثير قوة الشهوة، فأمره بتنقيصها بإتيان أهله، ففتنة النظر أصل كل فتنة، كما ثبت في الصحيحين في حديث أسامة ابن زيد -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء[6].
وفي صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اتقوا الدنيا واتقوا النساء". وفي مسند محمد بن إسحاق السراج من حديث علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أخوف ما أخاف على أمتي النساء والخمر". وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: لم يكفر من كفر ممن مضى إلا من قبل النساء، وكفرُ من بقي من قبل النساء". اهـ
____
[1] مهما بمعنى "كلما" هنا.
[2] ذكره البخاري ومسلم والترمذي وغيرهم.
[3] قال الحافظ المنذري وقد أورده بنحوه: رواه مسلم والبخاري باختصار والنسائي وأبو داود.
[4] قال الحافظ المنذري: رواه أحمد والترمذي وأبو داود.
[5] هذا اللفظ في رواية الخطيب والأمر بإتيان الأهل في مثل هاته الحال جاء في أحاديث رواها أحمد ومسلم وأبو داود.
[6] قال السيوطي: رواه البخاري ومسلم وأحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم