لا يأس من رحمة الله

أسامة بن عبدالله خياط

2022-10-12 - 1444/03/16
التصنيفات: أحوال القلوب
عناصر الخطبة
1/اليأس شر وهلاك للقلوب والأبدان 2/ترغيب الله لعباده في ابتغاء رحمته 3/وجوب إحسان الظن بالله 4/خطورة من ينظر للحياة بتشاؤم وسوداوية 5/بعض مكفرات الذنوب ووجوب اغتنامها

اقتباس

وإن حُسْن ظن العبد بربه يجب ألا يكون مقصورا على حالة مخصوصة، أو حادثة بعينها، أو زمن دون آخَر، فكما يجب أن يحسن المرءُ ظنَّه بالله وهو مُقبِل عليه، يرجو عفوَه ومغفرتَه فكذلك يجب أن يكون حسن ظنه بالله مصاحبًا له في كل ما يَعرِض له في هذه الحياة الدنيا من شدائد...

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله الهادي لمن استهداه، الكافي مَنْ تولَّاه، أحمده -سبحانه-، حمدا نبتغي به وجهه ورضاه، وأشهد ألا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، لا ربَّ غيره ولا إله سواه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبد الله ورسوله، أفضل نبي هداه ربُّه واجتباه واصطفاه، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه، صلاة وسلاما تزكو بهما النفوس وتسمو وتطيب الحياة.

 

أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله-، واذكروا أنكم ملاقوه، موقوفون بين يديه؛ فالسعيد من أعدَّ لهذا الموقف عدتَه، متزوِّدا بخير زاد، سالكا إلى الله كل واد، كادحا إليه مِنْ كل سبيل، مبتغيًا إليه الوسيلةَ، بكل قول وعمل، راجيًا منه القبولَ والمغفرةَ والرضوانَ.

 

أيها المسلمون: شر ما مُنِيَتْ به القلوبُ يأس يُميت الشعورَ، وقنوت تُظلِم به الدنيا، وتتحطَّم به الآمال وتخبو به الأمانيُّ، وتسد به المسالك، وتغلق به المنافع، ولقد جاء ذكر اليأس والقنوت في آيتين من كتاب الله، في معرض الذم لهما، والتنفير من سلوك سبيلهما؛ لأنهما من كبائر الذنوب، فقال عز من قائل: (إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ)[يُوسُفَ: 87]، ورَوْحُ اللهِ -يا عباد الله- هو رحمته ورجاء الفرج عنده، وقال سبحانه: (وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ)[الْحِجْرِ: 56]، فأوضَح سبحانه أن المؤمن ليس من شأنه اليأس والقنوط، وإنما يكون على الدوام خائفا راجيا، يخاف جريرة ذنبه، وتبعة معصيته، ويرجو مع ذلك رحمة ربه وعفوه ومغفرته، مقرونًا بالعمل بطاعته.

 

ولقد أطمَع اللهُ عبادَه في رحمته ورغَّبهم في عفوه وعلَّق آمالَهم بمغفرته، فقال عزَّ اسمُه: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)[الزُّمَرِ: 53]، وقال سبحانه: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ)[الْأَعْرَافِ: 156]، وفي الحديث القدسي الذي أخرجه الإمام أحمد في مسنده، بإسناد صحيح عن أبي ذر الغفاري -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "قال الله -تعالى-: يا بن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك ما كان منك ولا أبالي، يا بن آدم، لو بلغت ذنوبك عَنان السماء ثم استغفرتَني غفرتُ لكَ، يا بن آدم، إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا، لأتيتك بقرابها مغفرةً" أي: بقريب ملئها غفرانا وعفوا.

 

وفي صحيح أبي عبد الله البخاري ومسلم بن الحجاج -رحمهما الله- من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يقول الله -عز وجل-: أنا عند ظن عبدي بي"، وفي بعض طُرُق الحديث عند الإمام أحمد وابن حِبَّان والحاكم: "فليَظُنَّ بي ما شاء"، وفي (صحيح الإمام مسلم -رحمه الله-)، عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- أنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل موته بثلاثة أيام يقول: "لا يموتنَّ أحدُكم إلا وهو يُحسن الظنَّ بالله"، وكل ذلك -يا عباد الله- وما في معناه من نصوص الوحيين لَمِمَا يفتح أمام المرء أبوابَ الأمل والرجاء ويصرفه عن اليأس والقنوط، ويوجِّهه خير وِجْهة، ويسلك به أحسنَ المسالك، ويجعله ينظر إلى ما يستقبل من أيامه نظرة المتفائل الذي يُحسن الظن بربه، ويرجو رحمته وجميل العاقبة عنده.

 

ألا وإن المقصود بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يموتنَّ أحدُكم إلا وهو يُحسن الظنَّ بربه"، كما قال أهل العلم بالحديث؛ كأبي العباس القرطبي وغيره أي: استصحِبوا الأعمالَ الصالحةَ والآدابَ الحسنةَ التي يرتجي العاملُ لها قبولَها، ويحقِّق ظنَّه برحمة ربه عند فعلها، فإن رحمة الله قريب من المحسنين، وإن عقابَه مخوف على العصاة والمذنبين، وإن حُسْن الظن بغير عمل غرة، وهذا كله إنما يكون في حالة الصحة والقوة، وأما في حال حضور الموت فليس ذلك وقتًا يقدر فيه على غير الفِكْر في سعة رحمة الله -تعالى- وعظيم فضله، وأنه لا يتعاظمه -سبحانه- ذنب يغفره، وأنه الكريم الحليم، الغفور الشكور، المنعم الرحيم، ويذكر بالآيات والأحاديث الواردة في ذلك، لعل ذلك يقع بقلبه فيحب اللهَ -تعالى- فيختم له بذلك فيلقى اللهَ -تعالى- وهو مُحِبٌّ له -سبحانه- فيحشر في زمرة المحبين بعد أن كان في زمرة الخطائين، ويشهد له قولُه -صلى الله عليه وسلم-: "يُبعَث كلُّ عبدٍ على ما مات عليه"(أخرجه مسلم في الصحيح، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما).

 

وإن حُسْن ظن العبد بربه يجب ألا يكون مقصورا على حالة مخصوصة، أو حادثة بعينها، أو زمن دون آخَر، فكما يجب أن يحسن المرءُ ظنَّه بالله وهو مُقبِل عليه، يرجو عفوَه ومغفرتَه فكذلك يجب أن يكون حسن ظنه بالله مصاحبًا له في كل ما يَعرِض له في هذه الحياة الدنيا من شدائد، وما ينزل به من نوازل، وما يغشاه من كروب، فإذا ابتلي بِدَاءٍ أو أصابته جائحةٌ، أو غلبه الدَّيْن، أو فَقَدَ حبيبًا كان ملء السمع والبصر، وجب عليه ألا ييأس من روح الله، وألا يقنط من رحمته، بل يجب عليه أن يستيقن أن ما نزل به من بلاء لم يكن إلا خيرا له، يرفع الله به الدرجة، ويحط به الخطيئة، أو يدفع عنه شرا أعظم مما ابتلاه به، أو يعوضه خيرًا ممَّا فقده، في عاجل أو آجِل، كما جاء في الحديث الذي أخرجه  الإمام البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من يرد الله به خيرا يصب منه"؛ أي: يبتليه بالمصائب ليثيبه، وكما جاء في الحديث الذي أخرجه الترمذي وابن ماجه في سننهما بإسناد جيد عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن عِظَمَ الجزاءِ مع عِظَمِ البلاءِ، وإن الله -تعالى- إذا أحبَّ قومًا ابتلاهم، فمن رَضِيَ فله الرضا، ومن سَخِطَ فله السخط" عياذًا بالله من ذلك.

 

وأولئك الذين ينظرون إلى الحياة بمنظار أسود حين تنزل بساحتهم الكوارثُ، وحين تُصيبهم البلايا يسكن في نفوسهم أن البلوى سوف يطول أمدُها، وأنهم سوف يُشرِفون بها على الهلاك، وأن الشدائد سوف تُلاِحِقُهم وأن المحن لن ينقطع نزولها بهم؛ وذلك كله -يا عباد الله- سوء ظن بالله ليس من صفات المؤمنين، ولا من سجايا المخبتِين، فكم بدَّل اللهُ خوفَ عباده أمنًا، وفقرهم غِنًى، وبأساهم نعماء، وفواجعَ الأيام رفعةً ورحمةً وغفرانًا، حدَّث عتبةُ بنُ غزوان -رضي الله عنه- في خطبة فقال: "لقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما لنا طعام إلا ورق الشجر، حتى قرحت أشداقنا؛ -أي: تشققت-، والتقطت بردة فشققتُها بيني وبينَ سعد بن مالك، فاتزرتُ بنصفها، واتزر سعد بالنصف الآخر، فما أصبح اليوم منا أحدٌ إلا وهو أمير على مِصْرٍ من الأمصار"، وكم لهذا -يا عباد الله- من أمثال وأشباه لا يكاد يستوعبها حصرٌ في ماضي الأيام وحاضرها، فاتقوا الله -عباد الله- واذكروا على الدوام أن حُسْنَ الظنِّ بالله في كل حال، وأن الأمل فيه ورجاءَ ما عنده مع الخوف من تَبِعات معصيته هو شأن المؤمنين الصادقين، وديدن المحسنينَ، وصدَق اللهُ -سبحانه- إذ يقول: (وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا * قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا)[الْإِسْرَاءِ: 83-84]، نفعني اللهُ وإيَّاكم بهدي كتابه، وبسُنَّة نبيِّه -صلى الله عليه وسلم-، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم، ولكافة المسلمين من كل ذنب، إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده اللهُ فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهد ألَّا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.

 

أما بعد، فيا عباد الله: جاء في الحديث الذي (أخرجه الشيخان، في صحيحهما)، عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما يُصيب المسلمَ من نصَب ولا وصَب ولا همّ ولا حزَن ولا أذًى ولا غمّ حتى الشوكة يشاكها إلا كفَّر الله بها من خطاياه"، وفيه -كما قال أهل العلم- بشارة عظيمة لكل مؤمن؛ لأن الآدمي لا ينفك غالبًا عن ألَم بسبب مرض أو همّ أو نحو ذلك، وأن الأمراض والأوجاع والآلام بدنية كانت أم قلبية تكفر ذنوبا وقعت منه.

 

ولكن هذا التكفير -يا عباد الله- مخصوص عند جمهور أهل العلم بالصغائر، أما الكبائر فلا تكفرها إلا التوبة النصوح؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي (أخرجه الإمام مسلم في صحيحه): "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفِّرات لِمَا بينهنَّ إذا اجتُنبت الكبائرُ"، وبكل حال فإن في هذه البشارة فتحا لباب الأمل والرجاء في كرم الله تعالى، وجميل عفوه، وعظيم غفرانه؛ فالرجاء كما قال الإمام ابن القيم -رحمه الله-: "الرجاء حادٍ يحدو القلوبَ إلى الله والدار الآخرة، ويطيب لها السير إليه، والفرق بينه وبين التمني أن التمني يكون  مع الكسل، ولا يسلك بصاحبه طريق الجد والاجتهاد، والرجاء يكون مع بذل الجهد وحسن التوكل؛ ولهذا قام الإجماع على أن الرجاء لا يصح إلا مع العمل، ثم بين أن الرجاء المحمود هو رجاء رجل عمل بطاعة الله، على نور من الله، وهو راجٍ لثوابه، وأيضا الرجاء كذلك رجاء رجل أذنَب ذنبًا ثم تاب منه، فهو راجٍ لمغفرته، وأما رجل متمادٍ في التفريط والخطايا يرجو رحمة الله بلا عمل، فهذا هو الغرور والتمني والرجاء الكاذب.

 

فاتقوا الله -عباد الله-، واعملوا على قطع جذور اليأس من قلوبكم، وأحسِنُوا الظنَّ بربكم، وارجوا رحمته وغفرانه بالعمل بما يرضيه وبالتوبة مما يُسخِطه ويستوجِب العقوبةَ لديه، واذكروا -على الدوام- أن الله -تعالى- قد أمركم بالصلاة والسلام على خاتم النبيين، وإمام المرسلين ورحمة الله للعالمين، فقال سبحانه في الكتاب المبين: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56]، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ، وعن سائر الآل والصحابة والتابعينَ، وعن أزواجه أمهات المؤمنينَ، وعنَّا معهم بعفوِكَ وكرمِكَ وإحسانِكَ يا أكرمَ الأكرمينَ.

 

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، واحم حوزة الدين، ودمر أعداء الدين وسائر الطغاة والمفسدين، وألِّف بين قلوب المسلمين، ووحِّد صفوفَهم، وأصلح قادتَهم، واجمع كلمتَهم على الحق يا رب العالمينَ، اللهم انصر دينَكَ وكتابَكَ وسُنَّة نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم- وعبادك المؤمنين المجاهدين الصادقين.

 

اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا، وهيئ له البطانة الصالحة، ووفِّقه لِمَا تحب وترضى يا سميعَ الدعاء، اللهم وفِّقه ووليَّ عهده إلى ما فيه خير الإسلام والمسلمين، وإلى ما فيه صلاح البلاد والعباد، يا من إليه المرجع يوم المعاد، اللهم آتِ نفوسنا تقواها، وزكِّها أنتَ خيرُ مَنْ زكاها، أنتَ وليها ومولاها، اللهم أصلح لنا دينَنا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتَنا التي فيها معادنا، واجعل الحياةَ زيادةً لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.

 

اللهم إنا نسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا، وإذا أردت بقوم فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين.

 

اللهم اشف مرضانا، وارحم موتانا وبلغنا فيما يرضيكَ آمالَنا، واختم بالباقيات الصالحات أعمالنا، اللهم أحسن عاقبتَنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، وصلِّ اللهم وسلِّم على نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

 

المرفقات

لا يأس من رحمة الله

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات