عناصر الخطبة
1/ الحل في الشرع 2/ حقيقة الفتن 3/ الخيانة بالمساومة على المبادئ 4/ حقيقة المسلمين المتبعي غير سبيل المؤمنين 5/ خطورة الاستهداف بزعزعة الثوابت 6/ حقائق لتعميق الولاء والبراءاقتباس
ومن هذا المنطلق -عباد الله- فإن المساومة على الانتماء للدين صورةً ومعنى، أو المساومة على الثوابت التي لا تقبل الخلاف والجدل والتي يخضع لها كل زمن، وليست تخضع هي لكل زمن، إن المساومة على مثل هذا لهو خيانة عظمى، وجنون لا عقل معه، وإغماء لا إفاقة فيه؛ إذ شرف المرء وشرف المجتمع إنما هو في الانتساب إلى الإسلام، والعمل به، والدعوة إليه، والثبات عليه حتى الممات.
الخطبة الأولى:
أما بعد: فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله -سبحانه-، والتوكل عليه، والاستغاثة به، والاعتماد عليه، والتذلل بين يديه، فبذلك تكون الرفعة، وتحصل المنة، وتُنال الدرجة، وتكون العاقبة المحمودة في الأولى والأخرى، (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ) [يونس:62-63].
أيها الناس: إن المترقِّب في مجموع العالم اليوم بقضِّه وقضيضه، والذي يلقي بثاقب نظره صوب الفُلك الماخرة وسط زوابع يموج بعضها في بعض، ونوازل تتلاطم كموج من فوقه موج من فوقه سحاب، ليوقن من خلال سبره للأحداث العامة والمدلهمات المتكاثرة على كافة مناحي الحياة بلا استثناء، نعم، إنه ليوقن أن الذين يفهمون أن مبدأ ما من المبادئ أو حركةً ما من الحركات أو دعوةً ما من الدعوات المنبثقة هنا وهناك يُمكن أن تكبح جماح المظالم بشتى صورها، مهما زوِّقت وزُيِّف للناس مفادُها، أو أن تسُد ثلمة المجتمعات الشارخة، دون أن يكون ذلك كله من خلال الإسلام وروح الإسلام وشريعة الإسلام، من يفهم خلاف ذلك فهو شاذ برمته، إما أنه مريض خرّاص، أو عِرق دخيل دسّاس، لا يُعوّل على مثله، ولا يوثق به.
إن الإسلام في صميمه -عباد الله- شريعةٌ حرة، قد حرّرت العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ودلّت على أن العزة مرهونة بها، والهوان والدون نتيجة للنأي عنها، يبدأ ذلك جليا من ضمير الفرد، وينتهي في محيط ضمير المجتمعات بأسرها.
ومهما يكن الأمر، فإن الإسلام لا يمكن أن يعمر قلبا بحلاوته، ثم هو يدعه مستسلماً خاضعا لسلطانٍ في الأرض غير سلطان الواحد القهار، (وَهُوَ الَّذِى فِى السَّماء إِلَهٌ وَفِى الأَرْضِ إِلَهٌ) [الزخرف:84]، (إِنَّ الدّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلَامُ) [آل عمران:19]، (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى الآخِرَةِ مِنَ الْخَـاسِرِينَ) [آل عمران:85]، وتلك -لعمر ربي- هي صبغة الله! (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً) [البقرة:138].
إننا -أيها المسلمون- إذا ما رأينا المظالم تقع على الأرض حثيثة، وإذا سمعنا المنكوبين وذوي الديار المغتصبة والأراضي المتخطّفة يئنون ويصرخون، يهرعون ويتوجعون، حتى تلامس صيحاتهم أسماع أمة الإسلام، غير أنها لم تلامس أسماع نخوة أمة حاضرة، تهبُّ لرفع ما نزل، ودفع ما قد يقع، فلنا حينئذ أن تساورنا الشكوك جميعاً تجاه خلل ما، هو السر الكامن في وجود هذا الوهن العظيم، وسكون من له حق، وحراك من لا حق له، والذي من خلاله فُتَّ عضد الأمة، ونُكثت جراحها، وجعلها شذر مذر، ولا جرم أن من استطبّ لواقعه فلن يُعدم معرفة الداء ومحله.
نعم أيها المسلمون، النسيم قد لا يهبّ عليلاً داخل المجتمعات المسلمة على الدوام، فقد يتعكّر الجو، وقد تثور الزوابع، وتضطرب فوّهات البراكين، كما أن ارتقاب الراحة الكاملة إنما هو نوع وهم وطيف وتخييل، ومن العقل والحكمة توطين النفس على مواجهة بعض المضايقات على الإسلام والمسلمين، والاستعداد لتحمّلها، والوقوف بحزم أمامها، وترك إضاعة الأوقات في التعليق المرير عليها، والذي قد يفقأ العين ولا يقتل صيداً.
ثم إن الفتن التي تعترض أمة الإسلام حيناً بعد آخر إنما هي في حقيقتها تمحيصٌ وابتلاء، (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِى جَهَنَّمَ) [الأنفال:37].
وقد شرع الله لنا أن نقابل ابتلاءه بالسراء بقوله عن سليمان: (هَذَا مِن فَضْلِ رَبّى لِيَبْلُوَنِى أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ) [النمل:40]، وكذلك أن يكون موقفنا في الضراء مغايراً لما ذكره الله على وجه الذم بقوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) [الحج:10]، وقوله -سبحانه-: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يِقُولُ ءامَنَّا بِللَّهِ فَإِذَا أُوذِىَ فِى اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ) [العنكبوت:10].
إن غير المسلمين -عباد الله- لن يرضوا عن أمة الإسلام إلا أن تترك دينها، وتبتعد عن شريعتها، أو لا أقل من أن تتراجع، أو أن تقدم تنازلات قد لا تُبقي من الإسلام إلا اسمه، وهذا أمر ينبغي أن لا يختلف فيه اثنان، ولا يجادل فيه متفيهقان.
جاء عند أحمد وابن أبي شيبة من حديث جابر -رضي الله عنه-، أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أتى النبي بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب، فقرأه عليه، فغضب وقال: "لقد جئتكم بها بيضاء نقيّة، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به، أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده! لو أن موسى كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني".
ومن هذا المنطلق -عباد الله- فإن المساومة على الانتماء للدين صورةً ومعنى، أو المساومة على الثوابت التي لا تقبل الخلاف والجدل والتي يخضع لها كل زمن، وليست تخضع هي لكل زمن، إن المساومة على مثل هذا لهو خيانة عظمى، وجنون لا عقل معه، وإغماء لا إفاقة فيه؛ إذ شرف المرء وشرف المجتمع إنما هو في الانتساب إلى الإسلام، والعمل به، والدعوة إليه، والثبات عليه حتى الممات.
من غيّرته صروف الحياة، أو هز كيانه خطوب وتداعيات، ورغبةٌ أو رهبة، ثم زلت قدمه عن دينه بعد ثبوتها، فإنما هو مفرّط ضائع، ناقضٌ بعد غزل، وحالٌّ بعد عقد، حتى يصبح فريسة الحور بعد الكور، والذل بعد العز، (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّواْ عَلَى أَدْبَـارِهِمْ مّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَـانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِى بَعْضِ الأَمْرِ وَللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ * فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَـائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَـارَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُواْ مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُواْ رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَـالَهُمْ) [محمد:25-28].
فمن هنا -عباد الله- جاءت شريعة الإسلام بالتحضيض على الثبات على الدين، والعضّ عليه بالنواجذ حتى الممات، (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر:99]، وكان من دعاء النبي قوله: "اللهم إذا أردت بالناس فتنة فاقبضني إليك غير مفتون" رواه مالك في الموطأ، بل كان يحدِّث عن المؤمنين ممن كان قبلنا فيقول: "كان الرجل فيمن كان قبلكم يُحفر له في الأرض، فيُجعل فيه، فيُجاء بالمنشار، فيوضع على رأسه، فيُشق باثنتين، وما يصدّه ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه" متفق عليه.
فالعجب كل العجب -عباد الله- ممن يعلم خطورة الركون إلى غير الإسلام، أو ميل القلب أو العاطفة تجاه من هم على غير ملة الإسلام، مهما كانت الظروف التي تحيط بالواقع، ودوافع الرغبة أو الرهبة الداعية إلى مثل هذا، فإن هذا، وإن كان لا يُعد مسوّغاً للميل إليهم، والخنوع لهم، وتحبير الأقلام والأفهام لهم، أو الانسياق خلف مطامعهم وتطلعاتهم، أو الاستجابة لدعواتهم المتكررة في لمز دين الإسلام وهمزه، أو التنازل عن بعض ثوابته وعماده، أو التشكيك المزوّق في مناهج التعليم الشرعية، وثمار الصحوة المأتية، فإن الانسياق مع مثل هذا جرمٌ فاضح، وإحسان الحديث عنه زورٌ وبهتان، وما مُحبو مثل هذا في عالمنا الإسلامي إلا كأنوف أزكمهما غبار الافتتان، فاستوت عندها الروائح، أو كجسوم تندّت ولم يُنزع مبلولها، فما هي إلا الحمى، ما منها بدّ.
وإن تعجبوا -عباد الله- فعجبٌ تلك الأفهام التي تحمل اسم الإسلام، وما يخطّه بنانها وتلوكه ألسنتها غريبٌ كل الغرابة عنه، يدفعهم إلى مثل هذا كونهم منهومي المال، مفتوني الجاه، أو رائمين شهواتٍ مشبوهةً، قد رُكِّبت تركيباً مزجياً يمنعهم من الصرف والعدل.
وإن أحسنا الظن بهؤلاء فهم من صرعى الأفئدة المقلّدة، الذين لا يفرقون بين الثوابت والمتغيرات، أو ممن يضيفون الأسباب إلى غير مسبِّباتها، ويستسمنون كل ذي ورم، ثم هم يغفلون عن حقيقة هذا وذاك، فلو سرق إنسان في المسجد لعلت صيحاتهم تدعو إلى هدم المساجد أو إغلاقها، لئلا تتكرر السرقة، زعموا! ولو أن امرأةً محجبة غشت وخدعت لتنادوا إلى نزع الحجاب، وبيان خطره، وأنه مظنة الغش والخداع، فلا هم في الحقيقة قطعوا يد السارق، ولا عزّروا تلك التي غشت وخدعت، وإنما دعوا لهدم المسجد ونزع الحجاب، وهذا هو سرّ العجب، وهو ما يثير الدهشة حينما ترى مثل هذا الفكر المقلوب، الذي لا صحيح فيه إلا أنه غير صحيح، وأحسن ما فيه أنه غير حسن.
قدم أبو سفيان -رضي الله تعالى عنه- المدينة قبل أن يُسلم، فدخل على ابنته أم حبيبة زوج النبي، صلى الله عليه وسلم ورضي عنها، فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله طوتْه عنه فقال: يا بُنية، ما أدري! أرغبت بي عن هذا الفراش، أم رغبت به عني؟! قالت: "بل هو فراش رسول الله، وأنت رجل مشرك نجس" .
هكذا فعلت أم المؤمنين -رضي الله عنها- في أبيها بكلمة حق خرقت بها مثلاً عربياً مشهوراً: "كل فتاة بأبيها معجبة"!. وما فعلها هذا -عباد الله- إلا لأن الإيمان لم يخامر قلب أبيها، وكلمة التوحيد لم ينطق بها لسانه، ولم يكن لنسب الأبوة حقٌ عندها في أن يلامس ولو مجرّد الفراش!.
ألا إن رسالة المصطفى كفراشه، فمن أجلس عليه من ليس منه أو طواه حياءً أو استجداءً فما رعى حق الله ولا حق نبيه، ولا حق دينه وأمته، ولأجل هذا؛ فمن البدهي قطعا أنه لا يمكن أن نتصوّر نُضجاً إنسانياً مع انقطاع الصلة بالله، وإضمار الكراهية لشريعته! وما يشاع بين الفينة والأخرى من أن ثمة أفكاراً ومستجدات تضع إمكانية مقاطعة المرء المسلم لدينه أو مجاملته بكلمات باهتة أو مجرد التمسك بخيط واحد من حبله المتين، ثم هو يختط لنفسه طريقاً لا يعرف من خلاله المسجد، ولا يقيم وزنا لحدود الله، لهو فكر خطر الملمس، يثير تساؤلات واسعة النطاق من قبل الباحثين عن الحق، هل قضية الإيمان بالله من السهولة بمكان بحيث يستوي فيها النفي والإثبات، والأخذ والترك، والشرك والتوحيد؟! هل هذه القضية من خفة الوزن بحيث لا يفرّق فيها بين الثابت والمتغيّر، وبين العدل والجور، وبين الصدق والريبة؟!.
إننا لو سمعنا برجلٍ ما يقول: إن الأرض مربّعة، أو يزعم أن مياه البحار والمحيطات غاية في العذوبة، فإننا -ولا شك- نزري بعقله، ونرميه بالجنون والسفه، فإذا كان الخطأ في فهم بعض الحقائق الدنيوية له هذا الوزن في الإنكار، فكيف بالخطأ الجسيم في الحقائق العلوية المتصلة بمن استوى على العرش ويعلم السر وأخفى؟! (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِى ءايَـاتِنَا لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَن يُلْقَى فِى النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِى ءامِناً يَوْمَ الْقِيَـامَةِ اعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [فصلت:40].
فيا ليت شعري! أين ذوو الأقلام النيِّرة والأفهام السوية، يدلون الناس على ما يحفظ لهم دينهم، ويحصِّن كيانهم، ويزرع الثقة في مبادئهم وشريعتهم ومناهج تعليمهم، ويحذرونهم من شرور المبغضين وحسد الحاسدين، ويقيمون لهم ميزان العدل في القول والعمل، فيرجعون عقلاء مميزين، يعرفون ما يأخذون وما يذرون؟!.
فبلاد الإسلام مستهدفة، وثوابت الشريعة الغراء تواجه تضليلاً وتشكيكاً من خارجها وداخلها، بل وممن على أرضها ويتكلمون بلغتها، وبلاد الحرمين الشريفين مهبط الوحي ومعقل الإسلام المعاصر لم تسلم براجمها من هذه الأوخاز، حتى طالتها الاتهامات والهجمات، غير أنها -بحمد الله- لن تكون علكا ملتصقاً يلوكه كل مشكك في دينها وثوابتها وصحوتها ومناهجها الشرعية.
[إن أهل الصحوة في هذه البلاد] من شباب وكهول إنما نهلوا تربية إسلامية غير معوجّة، وأفكارهم وأطروحاتهم مبنية على ركائز العقيدة الصحيحة، والولاء لله والبراء فيه، وهم في ذلك ثمرة علمائها، وشعب حكامها، ولن يكون أهلها -بإذن الله- أبواقاً ينفخ من خلالها المغرضون، ومطايا يمتطيها الحاقدون ضد هذه البلاد، ومناهجها الشرعية، وعقيدتها الراسخة، وما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ولله الأمر من قبل ومن بعد، (وَسَيَعْلَمْ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَىَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ) [الشعراء:127]، (الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مّنَ اللَّهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَـافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مّنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَـافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) [النساء:141].
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والحكمة، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله؛ إنه كان غفاراً.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، إن لكل نظامٍ من النظم على أرض الواقع فلسفته وفكره، وحلّه وعقده، وله حلوله الخاصة التي يواجه بها مشكلاته، بقطع النظر عن صحتها من سقمها، أو زينها من شينها، بيد أنه ليس من المنطق ولا من المعقول، فضلاً عن أنه ليس من الإنصاف جدلاً، أن تُقحم الشريعة الغراء متهمةً في مشكلات وتبعات لم تنشئها أمة الإسلام، وليست من بابتها، وإنما فجّرتها نظم وممارسات أجنبية عن أمة الإسلام، ثم تريد هي من أمة الإسلام أن تفكر بعقلها لا بالعقل الإسلامي، وأن تحس بقلبها لا بالقلب الإسلامي.
ولكي نعمِّق الولاء للإسلام والبراء فيه، وتردم الوهدة التي تفصل الكثيرين عن ماضيهم ومجدهم الزاهر، والوقوف أمام كل نابتة تنبت في هذا الطريق الخِضمّ المائج، ولئلا تقدم الأمة تنازلات فكرية أو عقيدية أو تعليمية غير مبررة ولا مفهومة، بل هي من نسج الحاقد، واضحة النشوز في مسار الصحوة الفكري، ورفض التبعية والتغريب، إنه لأجل أن ندرك ذلك كله، فلا بد لنا أن نضع الحقائق التالية نصب أعيننا.
أولها: إن عقيدتنا -أيها المسلمون- أساسها التوحيد لله، والانقياد له بالطاعة، والخلوص من الشرك، وهيهات هيهات أن يكون أي تجسيد عقيدي سوى ذلك أرجح منه وأولى بالقبول! (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِى إِسْرائيلَ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبّى وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّـالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ) [المائدة:72].
وثانيها: إنه لا يمكن إدراك تضامنٍ إسلامي ناجح بين أفرادٍ ومجتمعات بعضها يبغض بعضاً، أو ينفر من بعض، أو يكره الإسلام، أو يرفض بعض تعاليمه في ساحات كثيرة أو قليلة.
وثالثها: إنه ينبغي لأي وحدة منشودة أو تمازج مقترح في المصالح الشرعية أو في درء المفاسد أن يتفق في الوسيلة أو في الغاية وفق الحق والشريعة، وإن أي وحدة صف أو أي هدف منشود فإنه يعتبر وهما مع هذا الخروج على المقررات الإسلامية والثوابت الشرعية.
ورابعها: إن التراجع والتخاذل بين المسلمين إنما يجيء بالدرجة الأولى من داخل النفس قبل أن يجيء من ضغوط من سواهم، ولسنا أول أمة ابتليت وفرض الله عليها أن تثبت على دينها، وتكافح لأجل أن تحيا عزيزة شمّاء.
وخامسها: أن تكون ثقافتنا المذاعة والمنشورة قائمة على التقريب بيننا لا على المباعدة، وعلى الرتق لا الفتق، وعلى الاعتزاز لا الابتزاز، وعلى دعم القيم الدينية ورد الشبهات التي تثار حول أمة الإسلام ومناهجها، وعلى أن تكون دعوتها لإحياء وحدة المسلمين في أن تميت صيحات الجاهلية، وأن تبرز العنوان الإسلامي وحده أساساً للنهضة البناءة والفكر السوي، (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّـالِحَـاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِى الأرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) [ص:28]، (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَمْ لَكُمْ كِتَـابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ * إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ) [القلم:35-38].
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم