عناصر الخطبة
1/اهتمام الدولة بمحاربة الفساد 2/يزع الله بالسلطان ما لا يزع بالقرآن 3/واجبنا في التبليغ عن الفاسدين 4/المصلحون ودورهم في نجاة المجتمعات.اقتباس
فلا عُذرَ لأحدٍ في عدمِ مُحاربةِ الفسادِ، بجميعِ أوصافِه الفظيعةِ، وجميعِ أشكالِه الشَّنيعةِ، ولا حُجَّةَ اليومَ لمن يتحدَّثُ في المجالسِ عن الفسادِ، دونَ أن يكونَ له دورٌ في الدِّفاعِ عن مُمتلكاتِ البلادِ...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
الحمدُ للهِ خَالقِ كُلِّ شَيءٍ، ورازقِ كلِّ حَيٍّ، أَحاطَ بكلِّ شيءٍ عِلماً، وكُلُّ شيءٍ عِندَه بأجلٍ مُسمَّى، يُعطي ويَمنعُ، ويَخفضُ ويَرفعُ، ويَضرُّ ويَنفعُ، لا مَانعَ لما أَعطى ولا مُعطيَ لما يَمنعُ، يَعلمُ الأسرارَ، ويَقبلُ الأعذارَ، وكُلِّ شَيءٍ عِندَه بمقدارٍ، سُبحانَه كُلُّ شَيْءٍ خَاشِعٌ لَهُ، وَكُلُّ شَيْءٍ قَائِمٌ بِهِ، غِنى كُلِّ فَقِيرٍ، وَعِزُّ كُلِّ ذَلِيلٍ، وَقُوَّةُ كُلِّ ضَعِيفٍ، وَمَفْزَعُ كُلِّ مَلْهُوفٍ.
وأَشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له، له الملكُ وله الحمدُ، وهو على كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ، وأَشهدُ أن نَبيَّنا محمداً عبدُه ورسولُه، صَاحبُ المقامِ المحمودِ، والحوضِ المورودِ، أَرسلَه ربُّه رحمةً للعالمينَ، وإماماً للموحدينَ، وقُدوةً للمتقينَ؛ فشَرحَ به الصدورَ، وأَنارَ به العقولَ، فاللهمَّ صَلِّ وسَلمْ وبَاركْ عليه وعلى آلِه وأصحابِه والتَّابعينَ بإحسانٍ إلى يومِ الدِّينِ.
أما بعدُ: كانتْ العربُ تقولُ أنَّ المُستحيلاتِ ثلاثٌ: "الغُولُ، والعَنقاءُ، والخِلُّ الوَفِيُّ"، وكُنَّا في يومٍ من الأيامٍ نَظنُّ أن للمُستحيلاتِ رابعٌ ألا وهو "القضاءُ على الفَسادِ"؛ وذلكَ لِمَّا كُنَّا نسمعُ أو نَرى من أخبارِ الفسادِ، في مَشاريعِ البِلادِ الحيويَّةِ، وفي مُناقصاتِ الخَدماتِ الحُكوميَّةِ، وفي عُقودِ الاتِّفاقاتِ الوهميَّةِ، وكانَ مُجرَّدُ التَّفكيرِ في التَّبيلغِ عن الفسادِ، يُصيبُ الإنسانُ بالإحباطِ والإجهادِ، فأينَ تذهبُ وقد امتدَّتْ يدُ الفسادِ إلى كلِّ مكانٍ؟! وأصبحَ الإنسانُ لا يأمنُ على نفسِه من الجِدرانِ، وصارَ الفسادُ كالتِّنينِ الذي يأكلُ الغنيَّ والفقيرَ، ويحرقُ الصَّغيرَ والكبيرَ، حتى أَيقنَّا أنَّ تعايشَ النَّاسِ مع الفسادِ ضرورةٌ، وصِرنا نرى أنَّ رِضا النُّفوسِ بالفسادِ مجبورةً.
وأصبحنا نردُّدُ قولَ الشَّاعرِ:
إنَّ الفَسَادَ بِأَرْضِ قَومِي مِهْنَةٌ *** أَضْحَتْ تَزَاوَلُ فِي الضُّحَى وَتُعَلَّمُ
فَالفَاسِدونَ يَرَونَ تِلْكَ جَسَارَةً *** مَا كُلُّ مَنْ يَسْعَى إِلَيْهَا يُقْدِمُ
يَا وَيْلَ مَنْ يَسْعَى إِلَى إِيْقَاعِهمْ *** يوماً وَمَن لِوقُوعِهِمْ يَتَوَّهُمُ
واليومَ ها نحنُ نجلسُ على أريكتِنا، نُقلِّبُ الأخبارَ في شاشتِنا، وإذا بنا نَسمعُ ونرى العَجبَ العُجابِ، فها هيَ قضايا الفَسادِ تُبعثُ من الأرشيف، ومَلَفاتِ الاختلاساتِ تُستخرجُ للتَّنظيفِ؛ غسيلُ أموالٍ وتزويرُ صحائفٍ، واستغلالُ نفوذٍ لكِبارِ الوظائفِ، رَشاوى مليونيةٌ، وعقودٌ وهميةٌ، مناقصاتٌ للعَلاقاتِ، ووظائفُ للقَرَاباتِ، ومصالحُ للصَّداقاتِ!.
ملياراتٌ تعودُ إلى خزينةِ الدَّولةِ سالمةً، بعدَ سِنينَ غِيابٍ عندَ أَيدٍ آثمةٍ، ولم يُفلتْ من التَّحقيقاتِ والمحاسباتِ أحدٌ، حتى صاحبَ السُّمو، ومعاليَ الوزيرِ، وسعادةَ المحافظِ، وفضيلةَ الشَّيخِ، وسيادةَ القائدِ، والسيَّدَ المديرِ، وحضرةَ الرَّئيسِ، فأصبحَ الواحدُ مِنَّا يفركُ عينَه؛ ليتأكدَّ هل هذا حقيقةٌ أم خيالٌ؟! ويُحرِّكَ رأسَه ليرى هل هذه أضغاثُ أحلامٍ أم حديثُ نفسٍ تتطلَّعُ إلى مُحالٍ؟!.
ولكن صدقَ الخليفةُ الرَّاشدُ عثمانُ بنُ عفانَ -رضيَ اللهُ عنهُ- عندما قالَ: "إنَّ اللهَ يَزعُ بالسُّلطانِ مَا لا يَزعُ بالقُرآنِ"، أي: يمنعُ بالوَالي اقترافَ المُحرَّماتٍ، أَكثرَ مما يَمنع ُبالقرآنِ؛ لأنَّ كثيراً من النَّاسِ ضَعيفُ الإيمانِ، لا تُؤثرُ فيه زَواجرُ القرآنِ، وإنَّما يؤثرُ فيه سَوطُ السُّلطانِ، فكم تكرَّرَ عليهم قولُه -تعالى-: (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا)[الأعراف: 56]، وكم نادى العُلماءُ ناصحينَ: (وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ)[البقرة: 205]، وكم صاحَ الخُطباءُ مُحذِّرينَ: (وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ)[البقرة: 60]، وكم ضَجَّ الدُّعاةُ صادقينَ: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ)[يونس: 81]، فأبيتُم إلا أن تؤخذوا بيدِ الحزمِ مُجرمينَ؛ فتجأروا بعدَ ذلكَ نادمينَ، ها قد رجعنا تائبينَ، فيُقالُ لكم كما قيلَ لإمامِ الفسادِ قبلَ سِنينَ: (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ)[يونس: 91].
يَا خَادِمَ الحَرمَيْنِ فَلْتَحْمِ الحِمَى *** مِمَّنْ بِه قَدْ أَفْسَدُوا وَتَحَكَّمُوا
لا يَرْعَوي رَجُلُ الفَسَادِ لِنَاصِحٍ *** لَكِنَّه خَوفَ العُقُوبَةِ يُحْجِمُ
كَبِّلْ بِإشْهَارٍ يَدَيْه وَفِعْلَه *** أَو فَاقْطَعَنْهَا كَي يُعَاقَ المُجْرِمُ
أقولُ قَولي هذا، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم وللمسلمينَ من كلِّ ذَنبٍ فاستغفروه؛ إنَّه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ المحمودِ على كلِّ حَالٍّ، الموصوفِ بصفاتِ الجلالِ والكمالِ، المعروفِ بمزيدِ الإنعامِ والإفضالِ، وأَشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له ذو العظمةِ والجَلالِ، وأَشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه وخليلُه الصَّادقُ المقال، اللهمَّ صلِّ على عبدِك ورسولِك محمدٍ وعلى آلِه وأصحابِه خَيرِ صَحبٍ وآلٍ، وسَلمَ تَسليماً كثيراً، أما بعد:
أيُّها الأحبَّةُ: اليومَ وقد فَتحتْ هيئةُ مكافحةِ الفَسادِ (نزاهةٌ) جميعَ قنواتِها، لاستقبالِ بلاغاتِ الفسادِ من المواطنينَ والمُقيمينَ، بسريِّةٍ، ومصداقيةٍ، واحترافيةٍ، وشَفافيةٍ، فلا عُذرَ لأحدٍ في عدمِ مُحاربةِ الفسادِ، بجميعِ أوصافِه الفظيعةِ، وجميعِ أشكالِه الشَّنيعةِ، ولا حُجَّةَ اليومَ لمن يتحدَّثُ في المجالسِ عن الفسادِ، دونَ أن يكونَ له دورٌ في الدِّفاعِ عن مُمتلكاتِ البلادِ.
فأينَ اليومَ من يَنهى عن الفسادِ وقد أُتيحتْ الفرصةُ للجميعِ؟، أينَ هم أولو البقيةِ الذينَ مدَحَهم اللهُ -تعالى-؟، وأخبرَ أنَّهم قليلونَ في كلِّ زمانٍ ومكانٍ؛ (فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ)[هود: 116]، وبمثلِ هؤلاءِ المًصلحينَ من العبادِ، تنجو من الهلاكِ البِلادُ؛ كما قالَ -تعالى- في الآيةِ التي بعدَها: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ)[هود: 117]، فلنكنْ يداً واحدةً في مواجهةِ الظُّلمَ والفسادَ، وليكنْ شعارُنا هو شِعارُ خيرِ العبادِ: (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)[هود: 88].
اللهمَّ ولِّ على المسلمينَ خِيارَهم، واكفِهم شَرَّ أشرارِهم، اللهمَّ لا تجعل لأهلِ الشَّرِ والفَسادِ عليهم وِلايةً يا ذا الجلالِ والإكرامِ، اللهمَّ أصلِح أوضاعَنا وأوضاعَ المسلمينَ، حقِّق الأمنَ والاستقرارَ في رُبوعِ بلادِ المسلمينَ، اللهم اجعل بلادَنا وبلادَ المُسلمينَ محفوظةً بحفظِك إنَّك حفيظٌ عليمٌ.
اللهم آمِنَّا في أوطانِنا، وأصلِح أئمَّتَنا وولاةَ أمورِنا، واجعل ولايتَنا فيمن خافَك واتَّقاك، واتبعَ رضاك يا ربَّ العالمين، اللهم وفِّق إمامَنا ووليَّ أمرِنا بتوفيقِك، وأعِزَّه بطاعتِك، وأعلِ به كلمتَك، واجعله نُصرةً للإسلامِ والمسلمينَ، وألبِسه لباسَ الصحةِ والعافيةِ، ومُدَّ في عُمره على طاعتك، ووفِّقه ونائِبَه وأعوانَه لما تُحبُّ وترضى، وخُذ بنواصِيهم للبرِّ والتقوى.
اللهمَّ وأبرِم لأمةِ الإسلامِ أمرَ رُشدٍ يُعزُّ فيه أهلُ الطاعةِ، ويُهدَى فيه أهلُ المعصيةِ، ويُؤمَرُ فيه بالمعروفِ، ويُنهَى فيه عن المنكرِ، اللهم إنا نعوذُ بك من الفتنِ ما ظهرَ منها وما بطنَ، اللهم فرِّجْ همَّ المهمومينَ، واقضِ الدَّينَ عن المدينينَ، واغفِر لموتانا وموتى المسلمينَ.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم