اقتباس
وانطلاقًا من هذا المثال وغيره، نستقرئ الصراع العقائدي في شامنا الحبيب؛ حيث تتجلى لنا فيه حكمة الله تعالى في كفاية أوليائه، وتظهر أسرار أفعاله في ولاية أنصاره؛ إذ لم يكتب الله سبحانه لدول الكفر -أو ما يسمى بدول التحالف- التدخل عسكريًّا لنصرة السوريين، وما كان الله ليتوّج دول الكفر والإلحاد شرف الدفاع عن الأحرار المرابطين، وما كان ليلبسهم ..
ملأ الغيظ قلبه فعبَّأ جيشه واستنفر جنده وأعد عدته؛ عزم على إقدام لم يتوقع فيه هلاكه، وعلى قرار لم يعلم أن فيه بواره؛ إذ لم يتبادر إلى ذهنه أنه لن يعود ومن معه، ولم يفكر أنه بهذا القرار الهمجي إنما يحارب رب البيت لا البيت نفسه الذي هو عبارة عن أحجار اكتسبت قدسيتها من العظيم -سبحانه-.
سار الجيش المغرور يقطع الفيافي والقفار ويجاوز القرى ويتعدى الأمصار، تتقدمه فيلة ما عرفتها العرب من قبل، لا تعترضه قبيله أو جيش يمانعه إلا هدّ أركانه وفرّق جموعه، فيقتل من يقتل، ويلوذ بالفرار منهم من كتب له في الحياة بقية، حتى وصل واديًا قريبًا من مكة، وكان به إبل كثر لبني هاشم ترعى فيه، فاستولى عليها جميعها، لا يمنعه صاحب حق عن حقه.
ولما رأت قريش هذا الحدث العظيم الذي نزل بها، تفرقت جموعهم على قمم مكة من هول ما فاجأهم من الخطب الجلل الذي لا يقوم له إلا ذو مبادئ راسخة وعقائد ثابتة.
وهكذا كان موقف سيد القوم وكبيرهم عبد المطلب، فلم يكن ليهمه -رغم منصبه ومكانته الاجتماعية- الاعتداء على بيت الله الحرام؛ بل كان شغله حين طلبه نظيره للقائه هو المفاوضة على إبله التي أخذها ضمن إبل القوم الأخرى؛ ما أسقطه ذلك في عين نظيره أبرهة، وفي أسطر أترككم مع ابن كثير يحدثكم عن ذلك قائلاً: "وكان عبد المطلب أوسم الناس، وأعظمهم، وأجملهم، فلما رآه أبرهة أجلَّه وأكرمه عن أن يجلسه تحته، وكره أن تراه الحبشة يجلسه معه على سرير ملكه، فنزل أبرهة عن سريره، فجلس على بساطه، وأجلسه معه عليه إلى جانبه، ثم قال لترجمانه: قل له: حاجتك!! فقال له ذلك الترجمان.
فقال: حاجتي أن يرد عليَّ الملك مائتي بعير أصابها لي، فلما قال له ذلك، قال أبرهة لترجمانه: قل له: لقد كنت أعجبتني حين رأيتك، ثم قد زهدت فيك حين كلمتني؛ أتكلمني في مائتي بعير أصبتها لك، وتترك بيتًا هو دينك ودين آبائك، قد جئت لأهدمه لا تكلمني فيه؟!
فقال له عبد المطلب: إني أنا رب الإبل، وإن للبيت ربًّا سيمنعه، فقال: ما كان ليمتنع مني. قال: أنت وذاك. فرد على عبد المطلب إبله.
فرجع إلى قومه وأخبرهم أن يصعدوا الجبال تحسبًا للعاقبة الوخيمة التي قد تنزل بأبرهة وجيشه". اهـ.
نعم، إنه الموقف المشين والرد العاجز والجواب الفاضح الذي ما زال مَثَل سوء يضرب في الخور والجبن والتهرب من المسؤولية، المعبر عن الصورة الحقيقية للحب الزائف الذي تهاوى عند أول قضية دفاع عن البيت الحرام، وهو -أيضًا- الواقع الفعلي للتعظيم المجوف الذي يطفو عند ملامح التضحية والفداء التي تتوجب على الصادقين في تعظيمهم، وتستلزم على المخلصين في تقديسهم أن يبذلوا الغالي والخريص.
وهنا نتساءل: أين ذهب تعظيمهم للبيت وأين تقديسهم؟! أليس إذا عظمت مصيبة أحدهم جاء فتعلق بأستارها يدعو الله ويستلهم نصره!! أليس إذا ألمت بأحدهم شدة أو وقعت عليه مظلمة أو دعته حاجة لأن يقسم على يمين مغلظة أتاها وأناخ ركبه عندها!! كل ذلك لما يرون لها من هيبة وقداسة.
إنه ليس من الصعب بذل المال ومنح الوقت وصرف الجهد في موقف ما؛ لكن المواقف تتغير، والعزائم تخور، حين يستدعي الأمر أكبر من ذلك، وهو الدفاع بالنفس والجود بالروح والتضحية بالحياة، فهنا تدرك الفرق بين الحقيقة من الخيال.
لقد سلمت قريش الكعبة لمن عزم على هدمها وردت الحق لمالكه: "أنا رب إبلي، وللبيت رب يحميه"، وهذا هو الشاهد من حديثنا، والمنتهى من إطلالتنا؛ حيث تولَّى الله حماية بيته بنفسه والدفاع عن حرمته بقوته.
ولتعلم أن رد الله -تعالى- لكيد أبرهة لم يكن عقابًا كالذي نزل بالأمم السابقة ريحًا أو خسفًا أو غرقًا أو صيحة أو غير ذلك، بل كانت جنودًا من السماء؛ كتائب وأسرابًا من الطير الأبابيل تحمل كلُّ واحدة منها ثلاث حصيات، ترمي الواحد منهم فيصبح كعصف مأكول، وحينها محق المهيمن مكرهم، وجعل الجبار كيدهم في تضليل.
وهنا ندرك يقينًا أنه ما كان لله -جل في أحكامه وتعالى في أفعاله وتقدس في ذاته- ليجعل شرف الدفاع عن بيته لقريش تلك الفئة الوثنية الباغية؛ حتى لا يكون لهم عليه منّة ولا على صون بيته فضل أو شرف، وهم سيكونون يومًا خصومًا لدينه، وأعداءً لرسالته، ومحاربين لنبيه.
لقد كانوا حين دعوة النبي -عليه الصلاة والسلام- يتفاخرون عليه وعلى أتباعه ببناء البيت والقيام عليه وخدمة زواره والوافدين إليه، فكيف لو أنهم بذلوا النفوس وسقطوا مستبسلين حوله، فمات من مات منهم وجرح من جرح؛ ما سيؤدي ذلك إلى زيادة تغنيهم بحبه وتمنّنهم بالدفاع عنه.
كما كانوا يزايدون على المسلمين بحبهم للبيت وتعظيمهم له وللأشهر الحرم، ومن ذلك قوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ)[البقرة:217]، وهكذا في قوله تعالى: (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ)[التوبة:19].
وانطلاقًا من هذا المثال وغيره، نستقرئ الصراع العقائدي في شامنا الحبيب؛ حيث تتجلى لنا فيه حكمة الله -تعالى- في كفاية أوليائه، وتظهر أسرار أفعاله في ولاية أنصاره؛ إذ لم يكتب الله -سبحانه- لدول الكفر -أو ما يسمى بدول التحالف- التدخل عسكريًّا لنصرة السوريين، وما كان الله ليتوّج دول الكفر والإلحاد شرف الدفاع عن الأحرار المرابطين، وما كان ليلبسهم وسام النصرة للمجاهدين، وخاصة أن هذه المعركة ليست إلا امتدادًا لسلسلة معارك ستدور رحاها بين الحق والباطل مستقبلاً، إضافة لما لهذا النصر أيضًا من ارتباط كبير بالذي أخبر به النبي -عليه الصلاة والسلام- أنه من علامات الساعة كما في حديث أبي الدرداء أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنَّ فُسْطَاطَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ الْمَلْحَمَةِ بِالْغُوطَةِ إِلَى جَانِبِ مَدِينَةٍ يُقَالُ لَهَا: دِمَشْقُ، مِنْ خَيْرِ مَدَائِنِ الشَّامِ". أبو داود (4298)، وصححه الألباني.
والغوطة هي المنطقة المحيطة بدمشق من شرقها تقريبًا، وهي في محافظة ريف دمشق الآن، وبها يرابط المقاومون اليوم، كما أن دمشق هي أرض الفتن والملاحم والمعارك آخر الزمان، وخير منازل المسلمين في آخر الزمان، كما أنها أرض المحشر.
وبالمناسبة فعلى الرغم من أن تدخل الناتو في سوريا أهم من تدخله في ليبيا من النظرة الدفاعية لدولة صهيون؛ لما عليها من الخطر المحدق من قبل الدولة الإسلامية المستقبلية في سوريا بعد سقوط نظام البعث ودولة الرفض وحكومة النصيرية؛ إلا أن الله خذلهم وأركسهم وخالف بينهم في تقرير تدخلهم العسكري الأجنبي.
إنها مشيئة الله النافذة، وإرادته الخارقة، وتدبيره المحكم الذي أحجم الجميع، فها هم يحاولون تحت مبررات عدة؛ كتخوفهم من وجود التطرف أو استخدام النظام للمواد الكيميائية وغيرها؛ يسوّقون ذلك لتدخلهم العسكري لتقاسم الأدوار في المستقبل؛ لكن أنّى لهم ذلك وقد جمع الله كتائب المجاهدين وصفّ الموحدين وشمل الأحرار المقاومين؛ ليأتيهم بعد ذلك الرد أن لدينا من القوة ما يكفي للدفاع والمقاومة، وهذا الرد يذكرنا بقوله -سبحانه-: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ)[الزمر:36]، فالله قد كفاناكم يا حلف الناتو وأغنانا عنكم.
وهكذا إخواني بقدر ما يتمثل عبادُ الله عبوديةَ ربهم، والقيام بحقه، بقدر ما يكون كفايته لهم ونصره حليفهم، ثم إنه على الأمة الإسلامية واجب النصرة كل بحسب استطاعته وقدر إمكانيته، وحساب الله سيكون على التفريط فيما يسع القادر تقديمه للمسلمين.
نصر الله المسلمين في سوريا وفي كل أرض وتحت كل سماء، إنه خير ناصر وأعظم معين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم