عناصر الخطبة
1/ حرمة البيوت وخطورة انتهاك حرمتها 2/ أثر الاستئذان والمحافظة على آدابه 3/ من آداب الاستئذان 4/ لزوم الاستئذان لكل أحد ولو كان قريبًا أعمى 5/ آداب لازمة للصغار الذين لم يبلغوا الحلم داخل البيوتاقتباس
لقد جعل الله البيوت سكنًا يأوي إليها أهلها، تطمئن فيها نفوسهم، ويأمنون على حرماتهم، يستترون بها مما يؤذي الأعراض والنفوس، يتخففون فيها من أعباء الحرص والحذر. وإن ذلك لا يتحقق على وجهه إلا حين تكون محترمة في حرمتها، لا يستباح حماها إلا بإذن أهلها، في الأوقات التي يريدون، وعلى ..
أما بعد: فاتقوا الله -أيها المؤمنون- وعظموا أمر ربكم، واستغفروه ثم توبوا إليه: (وَتَّبِعُواْ أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رَّبّكُمْ) [الزمر:55].
عباد الله: لقد جعل الله البيوت سكنًا يأوي إليها أهلها، تطمئن فيها نفوسهم، ويأمنون على حرماتهم، يستترون بها مما يؤذي الأعراض والنفوس، يتخففون فيها من أعباء الحرص والحذر.
وإن ذلك لا يتحقق على وجهه إلا حين تكون محترمة في حرمتها، لا يستباح حماها إلا بإذن أهلها، في الأوقات التي يريدون، وعلى الأحوال التي يشتهون: (يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلّمُواْ عَلَى أَهْلِهَا ذلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فِيهَا أَحَداً فَلاَ تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمُ وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُواْ فَرْجِعُواْ هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) [النور:27، 28].
إن اقتحام البيوت من غير استئذان؛ هتك لتلك الحرمات، وتطلع على العورات، وقد يفضي إلى ما يثير الفتن، أو يهيئ الفرص لغوايات تنشأ من نظرات عابرة، تتبعها نظرات مريبة، تنقلب إلى علاقات آثمة، واستطالات محرمة.
وفي الاستئذان وآدابه ما يدفع هاجس الريبة، والمقاصد السيئة.
أيها الإخوة المؤمنون: إن كل امرئ في بيته قد يكون على حالة خاصة، أو أحاديث سرية، أو شؤون بيتية، فيفجؤه داخل من غير إذن، قريبًا كان أم غريبًا، وصاحب البيت مستغرق في حديثه، أو مطرق في تفكيره، فيزعجه هذا أو يخجله، فينكسر نظره حياءً، ويتغيظ سخطًا وتبرمًا.
ولقد يقصّر في أدب الاستئذان بعض الأجلاف ممن لا يهمه إلا قضاء حاجته، وتعجُّل مراده، بينما يكون دخوله محرجًا للمزور مثقلاً عليه.
وما كانت آداب الاستئذان وأحكامه إلا من أجل أن لا يفرِّط الناس فيه أو في بعضه، معتمدين على اختلاف مراتبهم في الاحتشام والأنفة، أو معولين على أوهامهم في عدم المؤاخذة، أو رفع الكلفة.
تأملوا -أيها المؤمنون- قوله سبحانه: (حَتَّى تَسْتَأْنِسُواْ) [النور:27].
إنه استئذان في استئناس، يعبر عن اللطف الذي يجب أن يكون عليه الزائر أو الطارق مراعاةً لأحوال النفوس وتهيؤاتها، وإدراكًا لظروف الساكنين في بيوتاتهم وعوراتهم.
وهل يكون الأُنس والاستئناس إلا بانتفاء الوحشة والكراهية؟!
أدبٌ رفيع يتحلى به الراغب في الدخول لكي يطلب إذنًا لا يكون معه استيحاش من رب المنزل، بل بشاشة وحسن استقبال.
ينبغي أن يكون الزائر والمزور متوافقين مستأنسين، فذلك عون على تأكيد روابط الأخوة الإسلامية.
ولقد بسطت السنة المطهرة هذا الأدب العالي، وازدان بسيرة السلف الصالح تطبيقًا وتبيينًا.
فكان نبيكم محمد إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه، ولكن من ركنه الأيمن، أو الأيسر، ويقول: "السلام عليكم، السلام عليكم".
ووقف سعد بن عبادة مقابل الباب، فأمره النبي أن يتباعد، وقال له: "وهل الاستئذان إلا من أجل النظر؟!".
وفي الصحيحين من حديث سهل بن سعد الساعدي -رضي الله عنه-: اطلع رجل من جحرٍ في حُجَر النبي، ومع النبي مدرى -أي: مشط- يحك به رأسه، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لو أعلم أنك تنظر؛ لطعنت به في عينك، إنما جعل الاستئذان من أجل البصر".
والمستأذن -أيها الإخوة- يستأذن ثلاث مرات، فإن أُذن له وإلا رجع. وقد قيل: إن أهل البيت بالأولى يستنصتون، وبالثانية يستصلحون، وبالثالثة يأذنون أو يردُّون، لكن قال أهل العلم: لا يزيد على ثلاثٍ إذا سُمع صوته وإلا زاد حتى يعلم أو يظن أنه سُمع.
ويقول في استئذانه: السلام عليكم، أأدخل؟! فقد استأذن رجل على النبي وهو في بيته فقال: أألج؟! فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لخادمه: "اخرج إلى هذا، فعلِّمه الاستئذان، فقل له: قلْ: السلام عليكم، أأدخل؟!"، فسمعه الرجل، فقال: السلام عليكم، أأدخل؟! فأذن له النبي -صلى الله عليه وسلم-، فدخل".
وله أن يستأذن بنداءٍ أو قرع أو نحنحة أو نحو ذلك.
تقول زينب امرأة عبد الله بن مسعود -رضي الله عنهما-: "كان عبد الله إذا دخل تنحنح وصوَّت".
ويقول الإمام أحمد: "يستحب أن يحرك نعله في استئذانه عند دخوله حتى إلى بيته؛ لئلا يدخل بغتة". وقال مرةً: "إذا دخل يتنحنح".
ومن الأدب أن الطارق إذا سئل عن اسمه فليبينه، وليذكر ما يُعرف به، ولا يجيب بما فيه غموضٌ أو لبسٌ؛ يقول جابر -رضي الله عنه-: أتيت إلى النبي في دَيْن كان على أبي، فدققت الباب، فقال: "من ذا؟!"، فقلت: أنا، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أنا أنا!!"، كأنه كرهها.
وإذا قرع الباب فليكن برفق ولين من غير إزعاج أو إيذاء ولا ازدياد في الإصرار، ولا يفتح الباب بنفسه، وإذا أذن له في الدخول فليتريث، ولا يستعجل في الدخول، ريثما يتمكن صاحب البيت من فسح الطريق وتمام التهيؤ، ولا يرم ببصره هنا وهناك، فما جعل الاستئذان إلا من أجل النظر.
والاستئذان حقٌّ على كل داخل من قريب وبعيد من الرجل والمرأة، ومن الأعمى والبصير.
عن عطاء بن يسار، أن رسول الله سأله رجل فقال: يا رسول الله: أستأذن على أمي؟! فقال: "نعم"، قال الرجل: إني معها في البيت؟! فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "استأذن عليها". فقال الرجل: إني خادمها. فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "استأذن عليها، أتحب أن تراها عريانة؟!"، قال: لا. قال: "فاستأذن عليها".
ويقول أبو موسى الأشعري -رضي الله عنه-: "إذا دخل أحدكم على والدته فليستأذن".
والأعمى يستأذن كالبصير، فلربما أدرك بسمعه ما لا يدركه البصير ببصره. "ومن استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون أو يفرون منه، صُبَّ في أذنه الآنك يوم القيامة"، والآنك هو الرصاص المذاب.
أيها الإخوة في الله: وهناك أدب قرآني عظيم، لا يكاد يفقهه كثير من المسلمين، إنه قول الله -عزَّ وجلَّ-: (وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُواْ فَرْجِعُواْ هُوَ أَزْكَى لَكُمْ) [النور:28].
إن من حق صاحب البيت أن يقول بلا غضاضة للزائر والطارق: ارجع. فللناس أسرارهم وأعذارهم، وهم أدرى بظروفهم، فما كان الاستئذان في البيوت إلا من أجل هذا.
وعلى المستأذن أن يرجع من غير حرج، وحسبه أن ينال التزكية القرآنية.
قال بعض المهاجرين: لقد طلبت عمري كله هذه الآية فما أدركتها. لقد طلبت أن أستأذن على بعض إخواني ليقول لي: ارجع، فأرجع وأنا مغتبط. لقوله تعالى: (وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُواْ فَرْجِعُواْ هُوَ أَزْكَى لَكُمْ) [النور:28]. ذكره الحافظ ابن كثير في تفسيره.
إن من الخير لك ولصاحبك -أيها الطارق- أن يَعتذر عن استقبالك بدلاً من الإذن على كراهية ومضض، ولو أخذ الناس أنفسهم بهذا الأدب، وتعاملوا بهذا الوضوح؛ لاجتنبوا كثيرًا من سوء الظن في أنفسهم وإخوانهم.
فاتقوا الله -أيها المؤمنون- والتزموا بدينكم، واستمسكوا بآدابه، وحافظوا على مشاعر الأخوة، وتخيروا في أوقات الزيارات، وقدّروا لإخوانكم أحوالهم وظروفهم، والتمسوا لهم الأعذار، ودعوا الأعراف والتقاليد الخاطئة.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسنة نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله معزّ من أطاعه واتقاه، ومذل من خالف أمره وعصاه، أحمده سبحانه وأشكره، من توكل عليه كفاه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اصطفاه واجتباه، وقرَّبه إليه وأدناه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته واهتدى بهداه.
أما بعد:
أيها المؤمنون: اتقوا الله واعلموا أن الإسلام كما شرع آدابًا للاستئذان من خارج البيوت؛ فقد أوضح آدابًا خاصة أدَّب بها الصغار الذين لم يبلغوا الحلم في أوقات خاصة في عورات ثلاث: من قبل صلاة الفجر، وفي أثناء الظهيرة، ومن بعد صلاة العشاء، أوقات يخلو بها المرء في نفسه، أو مع زوجته، يتخفف فيها من كثير من القيود، فللعمل وقته، وللراحة وقتها، فيعطي كل ذي حق حقه.
أيها الإخوة في الله: إن هذه التفاصيل الدقيقة في آداب الاستئذان تؤكد فيما تؤكد حرمة البيوت، ولزوم حفظ أهلها من حرج المفاجآت، وضيق المباغتات، والمحافظة على ستر العورات. عورات كثيرة تعني كل ما لا يُرغب الاطلاع عليه من أحوال البدن، وصنوف الطعام واللباس وسائر المتاع، بل حتى عورات المشاعر والحالات النفسية، حالات الخلاف الأسري، حالات البكاء والغضب والتوجع والأنين. كل ذلك مما لا يُرغب في الاطلاع عليه لا من الغريب ولا من القريب، إنها دقائق يحفظها ويسترها أدب الاستئذان. فهل يدرك هذا أبناء الإسلام؟!
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم