اقتباس
وإن تسرّب إليك -يا عبد الله- غير ذلك وخطر في ذهنك سواه فتساءل عن أناس مضوا، وقرون رحلوا، وفتش عن أمم خلت وقرى غبرت، أين هي اليوم؟! بعد أن كانوا آية في الخلق وجبابرة في الملك وقوة في البطش وشدة في البأس وبسطة في المال، فأتى عليهم الموت فأذاقهم مره وأطعمهم علقمه، فأدخلهم قبورًا، وجعلهم أخبارًا، وصيرهم أحاديث، فما كان لهم حينها (مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ) [القصص: 81]، وإن سألت...
الحمد لله، وبه نستعين، وأصلي وأسلّم على خاتم النبيين، وسيد المرسلين..
يتنقل الإنسان في مراحل عمره المختلفة بين أطوار متنوعة، منذ خروجه من صلب أبيه وترائب أمه لا يقف على حال ولا يستمر على مقام؛ قال تعالى مبينًا هذا: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى...) [الحج: 5]، وهكذا بعد وجوده على الأرض ونزوله عليها، يقول سبحانه: (ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا) [الحج: 5] وقوله تعالى: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ) [الروم: 54].
وهذا التغيير عام وشامل لكل بني البشر شكلاً ومضمونًا، لا يقتصر على شيء دون غيره، ولا يخرج منه فرد دون آخر؛ بل هكذا جرت سنة الله -تعالى- على عموم خلقه، وكل من هو دون الله الحي القيوم جرى عليه أيضاً التغيير، ومضى عليه الاختلاف.
ثم إنه جرت سنة الخلاق العليم والمدبّر الحكيم أن هذا التغيير والتبديل لا يقتصر على الإنسان فحسب؛ بل كل شيء سوى الخالق المبدع سبحانه يطرأ عليه التغيير ويجري عليه الاختلاف ويسري عليه التنوع، بما في ذلك المجرات والكواكب والنجوم، وغير ذلك مما خلق الله -تعالى- في كونه الفسيح السفلي والعلوي.
وهذا التغيير لن يطول مع الحياة الدنيا؛ بل ستأتي حياة أخرى ويذهب كل ما ترى، وتفقد كل ما تشاهد، ومن بين ذلك الإنسان، وهو الشاهد من حديثنا وبيت القصيد، قال سبحانه: (إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا) [الزلزلة: 1 - 3]، وقال ربنا سبحانه: ( يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) [إبراهيم: 48]، وهذا التبديل قد يكون في ذواتها وقد يكون في صفاتها، يقول سيد -رحمه الله-: اذكر -أيها العاقل-، لتتعظ وتعتبر يوم يتغير هذا العالم المعهود بعالم آخر جديد، يأتي به الله -تعالى- على حسب إرادته ومشيئته، ويوم يخرج الخلائق جميعًا من قبورهم ليستوفوا جزاءهم، وليجازوا على أعمالهم من الله -تعالى- الواحد الأحد، الذى قهر كل شيء وغلبه، ودانت له الرقاب، وخضعت له الألباب. الوسيط ص2447.
وعن هذه الآية العظيمة سألت عائشة -رضي الله عنها- رسول الله -عليه الصلاة والسلام- حيث قالت: "أنا أول الناس سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن هذه الآية: (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض...)، قالت: قلت: أين الناس يومئذ يا رسول الله؟! قال: على الصراط".
فكما لم يكن شيء سوى الله –تعالى- وحده بدليل ما رواه البخاري في صحيحه عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، ثم خلق السماوات والأرض". وكذلك ما روي عن ابن عباس لما سئل على أي شيء كان الماء؟! قال: "على متن الريح". ثم خلق كل شيء فقدره تقديرًا، فإن الله -سبحانه- كذلك هو من يرث كل شيء ويبقى وحده الحي القيوم قال الله: (يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ) [غافر: 16].
وفي الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَالَ: "يَقْبِضُ اللَّهُ الأَرْضَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيَطْوِي السَّمَاءَ بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أَيْنَ مُلُوكُ الأَرْضِ؟". متفق عليه.
وإذا كان التبديل حتماً سيطرأ على مخلوقات عظيمة ويشمل كائنات مهيبة وتصير خبرًا بعد أثر، فلا شك أن يومًا ما سينتقل الإنسان من وضع إلى آخر؛ نعم، من مرحلة الحياة إلى مرحلة الممات، ومن الوجود إلى الفناء، ومن فوق الأرض إلى تحتها، ومن دار العمل والسعي إلى دار الجزاء والحساب، ومن دار التنفيذ إلى دار المكافأة والتعويض.
وإن تسرّب إليك -يا عبد الله- غير ذلك وخطر في ذهنك سواه فتساءل عن أناس مضوا، وقرون رحلوا، وفتش عن أمم خلت وقرى غبرت، أين هي اليوم؟! بعد أن كانوا آية في الخلق وجبابرة في الملك وقوة في البطش وشدة في البأس وبسطة في المال، فأتى عليهم الموت فأذاقهم مره وأطعمهم علقمه، فأدخلهم قبورًا، وجعلهم أخبارًا، وصيرهم أحاديث، فما كان لهم حينها (مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ) [القصص: 81]، وإن سألت عن عروشهم ومساكنهم (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) [النمل: 52]، وعمن ورثها وسكنها بعدهم بعد عذاب الله لها، (وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ ) [القصص: 58].
وعنهم يقول الشاعر:
أين الملوك التي كانـت مسلطنة *** حتى سقاها بكأس المـوت ساقيها
أمـوالنا لـذوي الميراث نجمعها *** ودورنـا لخـراب الدهر نبنيها
كم من مدائن في الآفاق قد بنيت *** أمست خرابًا وأفنى الموت أهليها
ولو قُدّر لهم البقاء لازدحمت بهم الأرض، ومُلِئت بهم اليابسة، وما وصلت إليها أنت ولا غيرك، ولو قُدّر لك الوصول لما قدرت على العيش معهم؛ أبدان لم يخلق مثلها في البلاد، طول في الهيئات، وعظم في الهامات، وبيوت ينحتونها في الجبال الصم الراسيات، وبكل ريع يبنون مساكنهم، كل ذلك عبر وآيات.
وحين يستقر بك اليقين -أخي الحبيب- ويرسخ لديك الاعتقاد ويسلم لك الضمير بهذه الحقيقة وهي حتمية التغيير بالنسبة للكون، والانتقال بالنسبة لك -أيها الإنسان-؛ فيعنى ذلك الاستعداد للمرحلة الثانية والتهيؤ للحياة الأخرى بالنظر في حياتك وما قدمت فيها مما شرعه الله -عزّ وجل- عليك وبلّغه رسول الله -عليه الصلاة والسلام- إليك؛ وهو امتثال المأمور واجتناب المحظور والزهد في الدنيا والورع فيها والانشغال بالآخرة والتطلع إليها.
فإنه لا دار للمرء هناك ولا سكنى له ولا مقامة في دار الحسنى والمزيد إلا بالدفع المسبق والثمن الوافي في الدنيا، فمقل أو مستكثر، ومضيّق على نفسه وموسّع، قال الله -تعالى- عن المؤمنين حين يدخلون الجنة ويرون مساكنهم ومقامهم فيها، الفرحة تغبطهم، وحمدهم لربهم تنطق به ألسنتهم، والملائكة على أبواب الجنان تصافحهم: (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) [الزمر: 74].
وفي ذلك يقول الشاعر:
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها *** إلا التي كان قبل الموت يبنيها
فـإن بناها بخير طاب مسكنها *** وإن بنـاها بشر خاب بانيها
فحري بكل عاقل لبيب، وحاذق أريب، أن يستغل عمره في الأولى ليفوز بالسبق في الأخرى، ويزهد في الفانية لينال العوض في الباقية، ويستزيد من العمل في العاجلة ليدرك الجميل في الآخرة، فالآخرة قطعًا خير من الأولى، والذي عند ربك خير وأبقى، واعلم أن ما في الدنيا أحلام وما في الآخرة يقظة، وأن المستزيد من الدنيا كمن يشرب من ماء البحر ليروي به عطشه وما هو براويه، وما زهد من زهد في الدنيا إلا حينما أدركوا حقيقة أن الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة، فالآخرة دار القرار وهي دار المقامة، لا يمس أهلها نصب ولا يعتريهم فيها شقاء.
اللهم إنا نسألك نعيمًا لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع، ومرافقة نبيك -عليه الصلاة والسلام- محمد، ونسألك اللهم رضاك والجنة، ونعوذ بك من سخطك والنار، اللهم لا تشغل قلوبنا إلا بحبك، والتعلق بك، وألسنتنا إلا بذكرك والحديث عنك، وجوارحنا إلا في طاعتك والقربى إليك.
وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه وأتباعه.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم