كيف يتعامل الخطيب المبتدئ مع الخوف والارتباك

عبدالله محمد الطوالة

2022-10-11 - 1444/03/15
التصنيفات: إلقاء الخطبة

اقتباس

الخوف الذي يعتري الجميع قبيل لقاء الجماهير هو خوف طبيعي, وأمر إيجابي مفيد، إن كان سيولد في الإنسان طاقة وحماسا يدفعانه لأن يستعد جيدا، وأن يبذل...

الحمد لله وكفى، وصلاةً وسلاماً على عباده اللذين اصطفى؛ أما بعد:

 

فإنَّ سكونَ النفسِ, وطمأنينةَ القلبِ ثمرةٌ لحسنِ الظنِّ بالله، وقوةِ التَّوكلِ عليه، وتمامِ الثِّقةِ به جلَّ وعلا، وكثرةِ ذكره: (أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)[الرَّعْدِ: 28]، ومن أيقنَ يقيناً راسخاً أنَّ اللهَ -تعالى- معهُ.. وأنهُ أرحمُ به من أُمِّه، فسيُحسنُ الظنَّ بربه، ولن يتشاءم بالسوء أو يفكرَ في الفشل والإخفاق، ولن يحزنَ على العواقب مهما ساءت، لأنهُ راضٍ عن اللهِ وما يأتي منه.. ولا شكَّ أنَّ فقدَ هذه الأشياء أو نقصِها سيثيرُ الخوفَ والارتباك، وسيقودُ إلى الإخفاق، مما يُعطلُ الطاقات، ويوقفُ الإنجازات.. وأكثرُ الناسِ إنما يؤتونَ من قبل أنفسِهم، وصدق من قال:

ما يبلغُ الأعداءُ من جاهلٍ *** ما يبلغُ الجاهلُ من نفسه

 

فكم من الإنجازات أُحبطت، وكم من المشاريع تعطلت، وكم من الناس توقفت، بسبب الخوفِ والانهزامِ النفسي، وعدمَ إدراكِ الشخصِ مقدارَ ما أودعَ اللهُ فيه من طاقاتٍ وقُدراتٍ فائقةِ، وإمكانياتٍ عاليةِ متنوعة، ومهاراتٍ مُذهلةٍ رائعةٍ، لو استعان بالله تعالى وأحسنَ توظيفها واستثمارها لحقَّقَ ما يريد، ولجاء بالمدهش العجيب..

 

وبعد: فإلى كُلِّ من عزمَ على السَّير في هذا الطريقِ النَّوراني المبارك: اعلم أُخيَّ الكريم: أنَّ الخوفَ من خوض التَّجارُبِ الجديدةِ أمرٌ (طبيعيٌ) يشعرُ به الجميع، تأمَّل: (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى)[طه:67].. وقال تعالى عن خليله إبراهيم عليه السلام: (فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ)[الذاريات:28]، لكنَّ هذا الخوفَ الطبيعي يتفاوتُ من شخصٍ لآخر، فيبلغُ عند البعضِ الحدَّ الذي يبثُ فيه حماسَ التَّحدي، وهذا هو الخوفُ الإيجابيُّ النافع، ويبلغُ بآخرين درجةً تجعلهُ يؤثرُ الهروبَ والانسحاب، وهذا هو الخوفُ السِّلبيُّ الضَّار, والذي عطَّلَ الكثيرينَ عن نفع أنفُسهِم وأمتهم..

 

إذن فالخوفُ الذي يعتري الجميع قُبيلَ لقاءِ الجماهيرِ هو خوفٌ طبيعيٌ, وأمرٌ إيجابيٌّ مُفيدٌ، إن كان سيولدُ في الإنسان طاقةً وحماساً يدفعانه لأن يستعدَّ جيداً، وأن يبذلَ قُصارى جُهده لتطوير نفسه, وليؤدي المهمَّةَ على أحسن وجهٍ.. أمَّا إذا تجاوزَ هذا الخوفُ حدَّهُ (الطبيعيَّ) فسيتحولُ إلى قيدٍ يُكبِّلُ صاحبهُ ويجعلهُ يتراجعُ وينسحب..

 

ثم أعلم -وفقك الله لكلِّ خيرٍ- أنَّ للخوف السَّلبيِّ عِدةُ مصادر:

الأول: هو الخوفُ من تكرار تجاربَ أليمةٍ حدثت في الماضي، تجعله يخافُ وينسحبُ لكي لا يتكرَّر معهُ نفسُ الألم، ومثاله: الخوفَ من أسلاك الكهرباءِ ومن الأشياء الحارةِ والحادَّةِ، ومن المرتفعات والمنحدراتِ وغيرها من الأشياء الخطرةِ..

 

والثاني: هو الخوفُ من المجهول وخشيةِ الوقوعِ فيما لا يستطيعُ الإنسان مواجهتهُ.. ومثالهُ: الخوفُ من الظلام والأمكنةِ المهجورة..

 

وهناك مصدرٌ ثالثٌ للخوف: وهو الخوفُ من النقد وكلامِ الآخرين، (وهذا أمرٌ لا يسلم منه أحد).. لكن الموفقَ هو من يستفيدُ من النقد الإيجابي، ويتغافلُ عن النقد السلبي..

 

وعلى كل حال: فالخوفُ نعمةٌ من الله وفضل, فبه ندافعُ عن أنفسنا, وبه نشعرُ بالخطر؛ وبه نهربُ ونسلم.. إنهُ طاقةٌ إيجابيةٌ تساعدنا على البقاء؛ وسببهُ إفرازُ أجسامنا لهرمون الأدرينالين بمجرد شعورنا بوضعٍ غير آمن، فطب نفساً أنك تمتلكُ مثلَ هذا الهرمونِ الرائع النافع..

 

وإذا كان من الطبيعي كما ذكرنا أن يشعرَ الجميعُ بشيءٍ من الخوف والتوترِ خُصوصاً في البدايات، فلا شكَّ أنَّ هناكَ وسائلَ وأساليب (مجربة) يمكنها بفضل اللهِ تعالى أن تقضي على الخوف والتوتر، أو أن تخفِّفَ منه بدرجةٍ كبيرة، وذلك بحسب درجةِ الأخذِ بهذه الأساليب والوسائل:

الوسيلة الأولى: رسائلُ التَّفاؤلِ الإيجابية؛ فنحنُ نعلمُ من سيرة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- أنه كانَ يُعجبهُ الفأل، وفي أثرٍ جميلٍ: "تفاءلوا بالخير تجدوه"؛ فعلى الخطيبِ أن يُعطي نفسهُ دَفعةً قويةٍ من التفاؤل وحُسنِ الظنِّ، وأن ينظرَ نظرةً إيجابيةً كُلُّها استبشارٌ وأمل، وأن يبتعدَ كلياً عن التشاؤم وزعزعةِ الثِّقةِ وسوءِ الظنِّ، وأن يحذرَ من الرسائل السلبيةِ المحبطة: "أنا لا أستطيعُ أن ألقي أمامَ الآخرين.."،  "أنا لا يمكنني أن أعتلي المنبر.."، "أنا لن أجرؤ على النظر في وجوه الناس.."، إلى آخر هذه الأوهامِ والمبالغات، بل عليه أن يتخيلَ نفسهُ وقد أتمَّ الإلقاءَ بكلِّ نجاحٍ.. ويتخيلَ وجوهَ النَّاسِ وقد ارتسمت عليها مشاعرُ الإعجابِ، ويرى نظراتِ الرضا تملأ وجوههم.. ويسمعُ كلماتِ الثناءِ والدعاء.. ويشعرَ بأيديهم وهي تصافحهُ وتسلمُ عليه، وهو مبتسمٌ.. فرح.. مسرورٌ.. الخ..

 

وهكذا، فعلى كُلِّ مُبتدئٍ بالذات, أن يعيشَ تلك المشاعرَ الإيجابيةَ بخياله، وأن يترك عنه المشاعرَ السلبيةِ المحطِّمة؛ فمن المعلوم أنَّ الإنسانَ هو أولُ من يهزمُ نفسهُ..

 

الوسيلة الثانية: التَّدرج في الحديث أمام الأعداد الكبيرة.. فيبدأ لوحده أمام المرآة، ثم خمسة.. ثم عشرة.. ثم عشرين، وهكذا حتى يتمكنَ من الحديث أما الجمهور الكبير..

 

الوسيلة الثالثة: أن يختارَ الخطيبُ المبتدئ المواضيعَ السهلةَ (إعداداً وإلقاءً) ، كالحديث عن فضائل الأخلاق, ونعيم الجنة, وسيرة المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، أو المواضيع التي يُحبُها الخطيبُ ويسهُلَ عليه التعامُلَ معها.. وعليه أن يُكثرَ من القصَصِ الهادفة، فهي محبوبةٌ عند كُلِّ الناس، قويةُ التأثير، قريبةُ التَّذكر، سهلةُ الإلقاء..

 

الوسيلة الرابعة: التَّغافل: فقد يخفى على البعض أن الخطيبَ المتوترَ لا ينتبهُ لهُ أحدٌ، إلا إذا لفت هو الانتباهَ لنفسه، ولو استحضرَ الملقي حين إلقاءهِ أنَّ كلَّ الحاضرينَ ينظرون لهُ نظرةً أخويةً ودودة، وأنهم جميعاً يتمنونَ له التوفيقَ والنَّجاح، لسكنت نفسهُ، ولمرت الأمورُ بخيرٍ وسلام، دونَ أن يلاحظَ أحدٌ ما يعتلجُ في صدره من توترٍ وقلق..

 

أمرٌ آخرَ مُهمٌ جداً.. وهو أنَّ جزأً كبيراً من الخوف والتردُّدِ سببهُ نقصُ الخبرةِ والتَّجربة وليسَ نقصُ المهارةِ والمقدرة.. بمعنى أننا نخافُ من الإلقاء ليس لأننا لا نستطيعُ أن نلقي.. بل لأننا لم نمارسه ولم نتعود عليه..

 

وهذا هو السببُ فيما يُسمى بالخوف الوهمي.. حيثُ تؤكدُ دراساتٌ كثيرةٌ أنَّ 90% من مخاوفنا مجردُ أوهامٍ وتخيلات، لا وجودَ لها إلا في عقولنا فقط.. ولولا خشيةُ الإطالةِ لذكرتُ بعض هذه الدراساتِ العجيبة..

 

وعليه فلن يهزمَ الخوفَ والإحجام، إلا الجُرأةَ والإقدام..

 

نعم -أُخيَّ الفاضل- تأكد تماماً أنَّ السبيلَ الوحيدَ لتجاوز ما قد تشعرُ به من خوفٍ طبيعيٍّ.. هو أن تقتلَ وحشَ الخوفِ وهو صغير.. وأن تحاول وتحاول، وأن تستمرَ وتواصل.. وأن تكرِّر المحاولةَ حتى تنجحَ وتصل.. ولا سبيلَ بغير ذلك..

 

تأمَّل جيداً؛ فالأسد ومِثلَهُ بقيةُ السباعِ المفترسة, التي تعتمدُ في غذائها على الصيد؛ فهم لا ينجحُون إلا في رُبع أو خُمسِ محاولاتهم للصيد فقط، ويفشلون في بقية المحاولات، ومع ذلك فإنهم لا يتوقفون عن تكرار محاولة الصيد؛ لأنه لا سبيلَ للبقاء إلا بذلك..

 

ولو تأمَّلت في لعبة كرةِ القدمِ وما شابهها من الألعاب؛ فستجدُ أنَّ نسبةَ الهجماتِ الناجحة -أيِّ التي تثمرُ أهدافاً- لا تتجاوزُ خمسةً في المائة.. بينما يمكنُ أن نُطلقَ على بقية الهجماتِ بأنها فاشلة.. ومع ذلك فإن طوفان الهجمات (الفاشلة) هذا.. لا يتوقفُ أبداً، لأنه لا سبيلَ للفوز إلا بذلك..

 

وهكذا المشاركين في كلِّ المسابقات الأخرى.. السباحةَ والجري وركوبِ الخيلِ وسباقَ السياراتِ وغيرها كثير.. كلها تتدنى فيها نِسبُ النَّجاحِ إلى حدٍّ كبير.. ومع ذلك فلم يتوقف أحدٌ عن المشاركة فيها بحجةِ الخوفِ من الفشل؛ لأنهُ لا سبيلَ للفوز والنَّجاحِ ألا بذلك.. فإذا أردت أن تفوزَ وتحقِّق هدفك؛ فهذا هو قانونُ اللعبة.. واصل واستمر، وكرِّر محاولاتك، حتى تنجحَ وتحقِّق هدفك..

 

ذُكر أنّ قائداً عسكريّاً انهزم في إحدى الجولات الحربية، فانهارت معنوياته وقرّر أن ينسحبَ ويلوذَ بالفرار.. ولكنهُ قبل أن يُعلنَ انسحابهُ، شاهدَ من مكانه نملةً تحاولُ أن تحملَ حبَّةَ طعامٍ.. فتنوءُ بحملها، وكلّما حملتها وسارت بها خُطوةً أو خطوتين سقطت منها، ولكنّها وبإصرارٍ عجيبٍ.. كانت تُعاودُ المحاولةَ من جديد، فتحملُ الحبَّة ثانيةً وثالثةً ورابعةً.. حتى أحصى لها أكثرَ من تسعين محاولةً، دون أن تستسلم أو تتوقف.. وإلى أن تكلّلت مهمّتها بالنجاح أخيراً.. وهنا التفتَ القائدُ المهزومُ إلى نفسه قائلاً: وهل النَّملةُ أقوى منِّي إرادةً وعزيمةً؟.. ثم عاد إلى جيشه المنهزمَ بنفسيةٍ أخرى، وأخذَ يبثُّ فيهم الحماس، والإصرارَ على الصمود، فكان يخسرُ جولةً ويكسبُ أخرى، وكلَّما خسِرَ جولةً تذكرَ مُعلِّمتهُ النَّملةَ وصمودها العجيب، ومحاولاتها المتكررة، فيحاولُ من جديد، ويكرِّرُ المحاولةَ مرةً بعدَ أخرى.. حتى تحقَّق له النَّصرُ أخيراً، وكسِب الحرب..

 

فلا تنس -أخي الخطيب- هذه المعلِّمةَ الـمُلهِمة.. وتذكر أنه لا يوجدُ شيءٌ اسمهُ (فشل).. إنما يوجدُ شيءٌ اسمهُ استسلامٌ أو انسحاب أو توقف؛ لأنكَ عندما تُكرِّر المحاولة فقدْ تخطئُ وقد تصيبُ.. أمَّا عندما تنسحبُ وتتوقفُ عن المحاولة فلا مجالَ لئن تُصيبَ أبداً.. وهذا هو الفشلُ الحقيقي..

 

ولأنك عندما تكرر المحاولة؛ فإمَّا أن يتحقَّق لك النَّجاحُ والظفر، وإمَّا أن تتعلَّم وتتطور، وتقترب من النَّجاح أكثرَ وأكثر؛ كرماةِ السِّهامِ.. كلَّما صوبت أكثر كلَّما اقتربت من هدفك أكثرَ وأكثر..

 

إذن؛ فواصِل واستمر.. ولا تخشَ من الفشل ولو تكرَّر؛ فالفشلُ هو مدرسةُ النَّجاحِ.. وكُلُّ النَّاجحينَ تخرجوا من مدرسة الفشلِ.. وما ثمَّ معصومٌ إلا الرسل.

فمن الذي ما أخطأ قطُّ.. ومن له الحسنى فقط

 

واصل واستمر وكرِّر محاولاتِك بلا يأسٍ ولا استسلام؛ فكلُّ النَّجاحاتِ جاءت في المحاولة الأخيرة.. ولو يعلمُ المنسحبُ, كم كان قريباً من النَّجاح, لما استسلمَ ولما توقف..

 

واصل واستمر.. ولا تحتقر نفسك وقُدراتك؛ فأنت جوهرةٌ حقيقيةٌ، والجوهرةُ لا تفقدُ قيمتها مهما تكرَّر سقوطها على الأرض..

 

واصل واستمر.. وإن تعثرت فقم.. فإنما يتعثرُ الماشي فقط، أما الجالسُ فلا يتعثر.. والماشي يوشكُ أن يصلَ إلى هدفه، أمَّا الجالسُ فلن يبرحَ مكانه..

 

واصل واستمر.. وإن قال لك المثبطون لن تستطيع.. فقل لهم: سأحاول، وإن قالوا صعبٌ ومستحيل.. فقل لهم سأجرب.. وإن قالوا جربتَ وفشلت.. فقل لهم: طالما أنني استطيعُ المحاولة.. فسأكرِّرُ حتى أنجح..

 

واصل واستمر.. واعلم أن الوقتَ لمْ يفُت بعدُ.. لكي تكونَ ما ينبغي لك أنْ تكونَ.. لكنَّ ذلك يتطلبُ منك أن تبذلَ قُصارى جُهدِك، وأن تبذلَ كُلَّ ما في طاقتك ووسعِك، وأن تستثمرَ كلَّ ما تمتلكهُ من إمكانيات، ومواهبَ وقدرات.. فإذا فعلت ذلك فأبشر بعون الله وهدايته، فهو القائلُ سبحانه: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)[العنكبوت:69].

 

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين..

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات