كيف نعرف الحق؟

عبد العزيز بن عبد الله السويدان

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/ معرفة الحق بالبرهان 2/ طبيعة البرهان الصحيح 3/ معرفة الرجال بالحق

اقتباس

الكلام كثير متنوع، منه ما هو حق ومنه ما هو باطل. والسؤال الذي ينبغي أن نعرف إجابته: كيف نعرف الحق ونميزه عن الباطل؟.

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضِلّ له، ومَن يُضْلِلْ فلا هاديَ له.

 

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].

 

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

 

كثر الكلام في زماننا هذا في شتى المواضيع وشتى القضايا المتنوعة، وتعددت مصادر الكلام سواء كان شفهيا أو مكتوبا، وصار كثير من الناس يتلقفون الكلام سواء كان حقا أو باطلا دون روية أو تمحيص؛ فيصدّق الكلام من يصدقه، وينقله من ينقله، ويكذبه من يكذبه.

 

الكلام كثير متنوع، منه ما هو حق ومنه ما هو باطل. والسؤال الذي ينبغي أن نعرف إجابته: كيف نعرف الحق ونميزه عن الباطل؟.

 

معاشر الإخوة: كل دعوة لا بد من إقامة الدليل عليها وإلا كانت مجرد دعوة لا برهان لها.

والدعاوى ما لم يقيموا عليها *** بيّناتٍ أصحابها أدعياءُ

 

فالبرهان ثم البرهان ثم البرهان! وإلا لا قيمة للكلام.

 

والبرهان أو الدليل إما أن يكون نقليا من كتابٍ أو سنةٍ صحيحة أو إجماعٍ، أو أن يكون عقليا، والواجب في النقلي التأكد من صحة النقل، وفي العقلي إظهار صراحته وبيان حجته، يقول -سبحانه-: (قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) [البقرة:111]، فهذا عام في كل دعوى، لا بد من تصديقها بدليل.

 

تأملوا في القرآن عندما يطالب المدعين بالبرهان العقلاني الواقعي والبرهان المدون المكتوب أو المسموع؛ يقول -سبحانه-: (قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) [الأحقاف:4]، فطالبهم أولا بالطريق العقلي: (أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ)، وثانيا بالطريق السمعي أو المكتوب: (اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ). قال الإمام ابن تيمية: "فالكتاب -في الآية- هو جنس الكتب المنزلة من عند الله، والأثارة كما قال مَن قال مِن السلف هي الرواية والسند، وقالوا هي الخط أيضا".

 

ومن هنا قال علماء أدب البحث والمناظرة: "إن كنت ناقلا فالصحة، أو مدعيا فالدليل"، تأكد من صحة نقلك، وإن كان الكلام كلامك فأْتِ بدليل صحيح معتبر على ذلك الكلام؛ ولهذا تجدون أهل البدع ليس عندهم حجة دامغة، ولا دليل معتبر، ومن ثم يستدل أحدهم على بدعته أمام عوام الناس بنقل ضعيف أو موضوع مكذوب، أو دلالة ضعيفة واهية، أو بعقل فاسد.

 

فالباطنية الرافضة -مثلا- يكثر عندهم الاستدلال بالنقول الخرافية الموضوعة والضعيفة، والأدلة المنافية للمنطق والفطرة والعقل السليم، ويشاركهم في ذلك طوائف من غلاة الصوفية. أما أهل الفلسفة والكلام فيكثر عندهم الاستدلال بالأقيسة العقلية والاحتمالات الفكرية. الحاصل أن الحق يعرف بقوة البرهان ومدى صحته.

 

الأمر الثاني -أيها الإخوة- في طبيعة البرهان الصحيح هو أن الأولى أن يكون موافقا للنصوص لفظا ومعنى... فمتابعة الكتاب والسنة في المعنى أكمل وأتم من متابعتها في المعنى دون اللفظ، فالرسول -صلى الله عليه وسلم- علم البراء بن عازب كلماتٍ يقولهن إذا أخذ مضجعه وفيها: "وآمنت بكتابك الذي أنزلت، ونبيك الذي أرسلت"، قال البراء: "فرددتهن لأستذكرهن فقلتُ: "آمنت برسولك الذي أرسلت"، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "قل: آمنت بنبيك الذي أرسلت"، أي: قل ما سمعته مني يا براء تحقيقا لكمال المطابقة في اللفظ والمعنى.

 

لهذا منع جمع من العلماء نقل حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالمعنى، ومن أجازه منهم اشترط أن يكون الناقل عاقلا، عالما بما يحيل المعنى من اللفظ، مدركا لأساليب العرب، حتى يستبين له الفرق قبل أن يتكلم.

 

وهذا المنهج -أيها الإخوة- يمكن أن يطبق حتى في الحياة العادية دون إفراط ولا تفريط، فمثلا: المسارعة إلى نقل المعلومة بمجرد ورودها في برامج التواصل الاجتماعي برنامج "واتس أب" مثلا وما شابهه ليس من الأمانة في شيء حتى لو كتبت كلمة منقول، فهذا لا يعفيك من المسؤولية، ولا يبرر سرعتك في النقل قبل التثبت.

 

ومما هو أعظم كون النقل متعرضا لحديث النبي -صلى الله عليه وسلم-، فيبادر دون تحقق، وربما كان من الأحاديث الموضوعة والضعيفة، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع" أخرجه مسلم.

 

ومن حديث ابن عباس في الترمذي بسند حسن قال -صلى الله عليه وسلم-: "اتقوا الحديث عني إلا ما علمتم، فمن كَذَبَ علَيّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار، ومن قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار".

 

بل إن أنس بن مالك الصحابي القريب من النبي -صلى الله عليه وسلم- كان لا يكثر الحديث عنه خوفا من الوقوع في الكذب عليه، ففي صحيح البخاري قال: "مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ".

 

فالحق يعرف بالدليل بأن يكون الحديث مخرجا منسوبا إلى كتاب معتبر، وان يكون الناقل ثقة لا يعرف عنه التهور في النقل.

 

وعلى كل حال، يمكن للناقل قبل أن ينقل أن يتثبت من الحق بسؤال من يتوسم فيه المعرفة، فقد قال -تعالى-: (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) [النحل:43]، ويمكن أن يقال ذلك بالنسبة لأي معلومة لا يعرف صدقها؛ فإن من أدوات معرفة الحق القراءة المتأنية، والاطلاع الغزير، ولقد قال -سبحانه-: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ).

 

فالعلم ثراء وعز، وهو وقاية وحماية من خديعة الباطل، فزيدوا في اكتساب العلم من كل فن، كلٌ بقدر استطاعته.

 

وأذكر لكم الآن حديثا أو أثرا لأحد علماء الصحابة الأجلاء، معاذ بن جبل -رضي الله عنه-، حيث جاء في صحيح أبي داود من رواية يزيد بن عميرة قال: "كان معاذ بن جبل لا يجلس مجلسا للذكر حين يجلس إلا قال: الله حكم قسط، هلك المرتابون، فقال معاذ بن جبل يوما: إن من ورائكم فتنا يكثر فيها المال، ويفتح فيها القرآن، حتى يأخذه المؤمن والمنافق، والرجل والمرأة، والصغير والكبير، والعبد والحر، فيوشك قائل أن يقول: ما للناس لا يتبعوني وقد قرأت القرآن؟ ما هم بمتبعي حتى أبتدع لهم غيره! فإياكم وما ابتدع! فإن ما ابتدع ضلالة، وأحذركم زيغة الحكيم؛ فإن الشيطان قد يقول كلمة الضلالة على لسان الحكيم، وقد يقول المنافق كلمة الحق. قال: قلت لمعاذ: ما يدريني -رحمك الله- أن الحكيم قد يقول كلمة الضلالة، وأن المنافق قد يقول كلمة الحق؟ قال: بلى، اجتنب من كلام الحكيم المشتهرات -عندما يقول الحكيم العجائب والغرائب فيقول الناس: ما هذا الذي جاء به؟- التي يقال لها: ما هذه؟ ولا يثنينك ذلك عنه؛ فإنه لعله أن يراجع وتلقى الحق إذا سمعته؛ فإن على الحق نورا".

 

إذاً؛ في هذا الأثر دلالة على أن الحق لا يعرف بالرجال، وإنما يعرف الرجال بالحق؛ فإن على الحق نورا، ولا يمكن معرفة الحق إلا بالوسائل التي ذكرت آنفا. وقد قال معاذ -رضي الله عنه-: "وإن على الحق نورا"، هذا النور لا يمكن رؤيته إلا بعد التجرد لله -تعالى- دون مخالطة حظ أو هوى، القلب إذا تجرد لله -تعالى- وأخلص لله في العبادة وقصد معرفة الحق بصدق فسوف يريه الله ذلك النور الذي يعلو الحق.

 

اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه...

 

 

المرفقات

نعرف الحق؟

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات